Monthly Archives

November 2000

2000, مقالات, نشرة رعيتي

المعطي المتهلّل/ 26 تشرين الثاني 2000/ العدد 48

اللافت أن الذي أتى الربَّ في إنجيل السامريّ الشفوق وفي إنجيل اليوم (لوقا 18: 18-27) أتاه مجرّبا. وكلاهما مثقّف لاهوتيا ويعلمان الجواب عن سؤالهما: «ماذا أَعمل لأرِثَ الحياة الأبدية؟». في مثَل السامريّ، السيد يعيد المحاور إلى شريعة موسى والرجل يلخصها بما سُمّي القاعدة الذهبية: أَحببِ الربَّ والقريب. في إنجيل اليوم، السيد نفسه يجيب عن السؤال بسرد خمس وصايا من العشر وكلها تتعلق بالقريب، وكأنه يقول إن محبة القريب تفرض بالأقل ألاّ نعامله بشرّ، وتفرض ايجابيا أن نعامله حَسَنا.

          يبقى ما هو أعمق: «بعْ كلَّ شيء لك ووزِّعْه على المساكين فيكون لكَ كنزٌ في السماء، وتعال اتبعني». انه العطاء الكبير حتى التجرد من كل شيء. «بع كل شيء» لا تعني، بالضرورة، أن الرب يريدك أن تعيش بالعوز الكامل. فهذا خطر عليك، وعليك مسؤولية العائلة. ولكن يسوع لا يريد ان يضع حدا لمحبتنا للفقراء. ليعطِ قلبُك كل شيء حتى لا يُحسّ بتعلّق مادي. الهاجس الحقيقي ليس أنْ أُعطي العُشْر كما كان اليهود يفعلون. فقد يدعوك الحب إلى بذل اكثر من ذلك أو تدعوك الحاجة إلى بذل الأقل. فقد تعطي العُشْر لأن هذا كان أمرًا من الشريعة ولكنك تتحسّر على هذا الذي أَعطيت. القضية ليست اذًا قضية مبالغ. القضية ألاّ يخطف قلبَك أيُّ شيء مادّيّ (قد يكون مكتبة احترقت أو منزلا هُدِّم أو سيارة سُرقت).

          «فيكون لك كنز في السماء» لأن السماء تكون قد هبطت عليك. ليست الفكرة ان الرب يكافئ كما يكافئ المعلّم في المدرسة أو الدولة. المراد أن قلبك يكون قد انخطف إلى الله بعدما فرغ من كل شيء ارضيّ.

          «وتعال اتبعني». الدافع إلى مشاركة الفقراء بحب كبير وإلى الكرَم هو يسوع نفسه. والقصد من العطاء ان يصل المعطي إلى أن يَقوى في محبة السيد والإخوة، أن يتربى على الحب. قد يكون في العطاء ألم في البدء. هذه علامة التعلّق. ولكن كلّما تروَّض المؤمن على العطاء تضعف شهوة المال فيه ويحدث فيه ضيق مما يملك، مما يملكه بوفرة كبيرة.

          هذا الغنيّ الذي حزن من كلام السيد أراد ان يجعل الوصايا سقفا لفضيلته. الفضيلة الظاهرة التنفيذ (حتى لا يذهب إلى الهلاك الأبدي) كانت كافية له. لم يشأ ان يَخرق السقف حتى السماء التي ندركها فقط لعشقنا لله بلا حدود. «اتبعني» تعني اتبعني حتى المنتهى، ليس فقط إلى الصليب، ولكن إلى القيامة. ولكن هذا يكلّف تعبا كبيرا.

          هذا الرجل كان من نوع الذين يريدون الرضاء الإلهي دون ان يبذلوا حبا كثيرا، دون ان يماشوا يسوع حتى النهاية. ولذلك قال السيد عن أمثاله انه صعب عليهم أن يَرِثوا ملكوت الله. فالملكوت لا يَدخله الا الغاصبون، الذين يأخذونه عُنوة. ان يكون لنا رِجْل في الدنيا ورِجْل في الآخرة فهذا مستحيل حتى نقتَنع يومًا أنْ نتركَ كل شيء ونتبعه. عند ذاك نحسّ أنّ مَشينا وراء السيد هيّن وينبوع سعادة.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

المتّكل على المال/ 19 تشرين الثاني 2000 /العدد 47

إنجيل اليوم (لوقا 12: 16-21) يصوّر لنا رجلا أَخصبَتْ أرضه وكثُرت غلّته. امام هذا رأى ان مخازن القمح عنده لا تكفي فأراد ان يهدمها ويبني اكبر منها. هذا يبدو طبيعيا. غير أنه اطمأن إلى كونه صار غنيا وأخذ يتّكل على ماله وظن انه يستغني عن الله وكأنه يقول: الله اتكلتُ عليه لما كانت ثروتي قليلة. اما الآن فلست في حاجة اليه.

          لم يلمه الرب لأنه جعل لنفسه أهراء كبيرة ولكن لكونه استنتج من ذلك انه يقدر ان يستغني عن الله. كثيرا ما نتوجّه إلى الله حتى يُخرجنا مِن فقر، وبعد ذلك نجعل قوّتنا في ثروتنا (أو في صحتنا ومجدنا).

          يسوع يقول عن هذا الانسان انه غبيّ. فطمأنينة الإنسان لا تقوم بالأشياء التي يملكها بل بسيادته على هذه الأشياء. فاذا صار عبدا لما يملك يفقد الإنسان حرية الروح اذ «الشكر لله الذي آتانا الغلبة عن يد ربنا يسوع المسيح» (1كورنثوس 15: 57). الملء ليس بامتلائنا من اموال هذه الأرض. فوزنا هو بالذي أَحبَّنا وجعلَنا احرارا من الموت. فوزنا هو بمحبة الله لنا التي في المسيح يسوع ربنا (رومية 8: 37-39).

          أن نعرف هذا، أن نؤمن بهذا يجعلنا مطمئنين إلى الله، أغنياء بالله. الخطر في الغنى ليس الملْك بحد نفسه ولكن في أن يدفعنا الملْك إلى الاستغناء عن النعمة الإلهية. لا يريدنا الله فقراء بالضرورة، ولكن لا يريدنا ان نعتبر الفقر مصيبة كبرى اذا كان مقرونا برضا الله علينا. المهم ان نعرف ان النجاح في الدنيا لا يدلّ على ان البركات نزلت علينا. ليس في العهد الجديد ما يدلّ على أن الله مُنعم علينا بالمال. فقد يكون مُنعما علينا بالفقر. المهم ان نجعل الله كنزا لنا لأنه «حيث تكون كنوزكم فهناك قلوبكم».

          طبعا يريدنا الرب مجتهدين في هذا العالم، ساعين إلى التقدُّم المادي في ما هو شرعي لأن في هذا مصلحة لعيالنا وقدرة على إعطاء الفقراء. يسمح الله ان نفرح بالكسب لا لنكون اقوياء في هذا العالم ولكن لتكون لنا قدرة على خدمة الآخرين.

          المال الوفير يجعله الله في ايدينا لا لنتعشّقه ونفتخر به لأن في هذا استكبارا مؤذيا لأن «مَن افتخرَ فليفتخرْ بالرب». إن عِشْق الدنيا يجعلنا عبيدا للدنيا وطامعين بها. و«الطمع عبادة وَثَن». المال اذا استعبدَنا يصبح بديلا عن الله. ولذلك قال يسوع: «ما من احد يستطيع ان يعمل لسيدين، لأنه إما ان يُبغض أحدَهما ويحبّ الآخر، وإما ان يَلزم أحدَهما ويَزدري بالآخر. لا تستطيعون ان تعملوا لله والمال» (متى 6: 24). المهم ان نكون احرارا في داخل النفس من كل ما هو مخلوق وان نتحرر من وطأة المال علينا بتوزيعه. مشاركتنا للمحتاج هي وحدها التي تُحرّرنا من أنانية الغنى، فاذا ذهبنا إلى الفقير نكون ذاهبين إلى الله.

          أن نتحسّس بوجود الفقير وبأنه أخونا هو الدليل الساطع اننا نتحسّس وجود الله في حياتنا. هذه المشاركة تجعلنا نرى ملكوت الله هنا في عالم القلب. هذه المشاركة هي بناء الكنيسة. هي الرؤية على ان الفقير عضو في جسد المسيح. لا يمكن ترجمة ايماننا الا بهذه المحبة اذ ما من محبة بلا عطاء.

          يمكن ان نكون أغنياء اذا اعتبرنا أننا وكلاء على أموال الله. هذه ليست مُلْكا لنا. هي ملْك الله وتذهب إلى من كان محتاجا اليها. نحن نفرح بالعطاء، والمحتاج يفرح. لأن «العطاء مغبوط اكثر من الأخذ». هذه شركة الفرح العظيم.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

السامريّ الشفوق/ 12 تشرين الثاني 2000 /العدد 46

كان الفريسيون يحبّون أن يناقشوا يسوع ليُحرِجوه ويُبيّنوا لأنصارهم انه لا يعرف الشريعة. واحد من علماء الشريعة (لوقا 10: 25-37) أراد أن يُوْقِع المعلّم في فخ فسأله: «ماذا أَعملُ لأرث الحياة الأبدية؟». هذا العالِم كان يعرف الجواب لأنه في الكتاب المقدس. مع ذلك لا يقول له السيد: أنت سيّء النية لأنك تطرح علي سؤالاً تعرف أنتَ جوابه. قَبِلَ يسوع الحوار. هذا اللاهوتيّ طرح أخطر سؤال: «ماذا أَعمل لأرث الحياة الأبدية؟» (انه غالبا فريسيّ لأنه يؤمن بالحياة الأبدية). عن السؤال يجيب يسوع بسؤال: ماذا كُتب في الناموس؟ يجيب السيدَ مخاطبُه بقوله: أَحبِبِ الربَّ إلهك ثم أَحبِبْ قريبَك كنفسك. الوصية الأولى مأخوذة من سفر تثنية الاشتراع، والوصية الثانية من اللاويين. بقي لمعلّم الشريعة هذا ان ينتقل من مجرد عارف للوصيّتين إلى التطبيق. دعوة الرب إليه أن يعمل ليحيا.

          بعد أن كلّمه السيد عن القريب، لا يستوضح شيئا عن الله. «أراد أن يزكّي نفسه» لكونه طرح السؤال عمّن هو القريب. ما أراد المسيح أن يقول له إن اليهوديّ قريب لليهودي. هذا معروف في الناموس. حكى له الرب حكاية. إنسان كان نازلا من أورشليم إلى أريحا. جرحه اللصوص بعد ان سرقوه وألقوه على حافة الطريق بين حيّ وميت. أبصَرَه كاهن كان، بعد أن أتم خدمته في الهيكل، عائدا إلى بيته في أريحا. كاهن بلا شفقة. وكذلك اللاوي –وهو خادم  أيضا في الهيكل– أبصره وجاز أمامه. شخصان هما في خدمة الله، ولكنهما ما كانا في خدمة الإنسان. هل هما حقا في خدمة الرب؟

          دنا إليه سامريّ. إنسان غريب الجنس وغريب الدين، فإن السامريين يَقبلون كُتُبَ موسى الخمسة ولا يَقبلون الأنبياء. هذا أسعفه في تضميد جراحه. أَخذ السامريُّ على عاتقه هذا الغريب. إذ ذاك سأل السيدُ: «أيّ هؤلاء الثلاثة تَحْسَب صار قريبا للذي وقع بين اللصوص؟». سؤال معلّم الشريعة للمسيح: «من هو قريبي؟». لم يجب السيدُ اللاهوتيَّ اليهوديّ عن سؤاله. طرح سؤلا آخر: من صارَ قريبًا للجريح؟ أنتَ ليس عليك أن تسأل: من هو قريبي. السؤال الحقيقي هو بالحريّ هذا: قريبَ مَن تستطيع ان تكون؟ حرَكتُك إلى الآخر هي التي تُعيّن لك قريبك. اذهب وأَحبّ. فالذي تحبه تجعله قريبا لك. أحبب من تراه على طريق حياتك أيا كان. مِن جنسك أَم من غير جنسك كان، من دينك أو من غير دينك، اذهب إليه وارفعه إلى صدرك، يصبح قريبا لك.

          تحبه إن كان خفيف الروح أَم «ثقيل الدم» لأن الله جعله في طريق حياتك. إذهب إلى كل جريح، إلى كل فقير، إلى كل وحيد. هؤلاء كلهم جرحى الوجود. ما يعوزك أن تنتبه. وتنتبه حتمًا إنْ آمنتَ بالله إيمانًا حيًّا محرّكًا. وتترجم حبك لله بمحبتك الآخرين. ولن تحب الله ما لم تُحبّ أبناءه. هؤلاء ليسوا مقرَّبين اليك دائما بالعاطفة. المحبة الإلهية التي فيك تحررك من وطأة القريبين منك عليك. أنسباؤك وابناء عشيرتك قد لا يكونون في حاجة إليك. أما الذي همّشَتْه الحياة ولم يبقَ له صَديق ولا يحسّ به أحد أَحسِسْ أنت به. واذا فعلتَ هذا، يشعر هذا الذي أهمله الجميع أن عنده واحدا يحبه وهو أنت.

          ما يطلبه الإنسان المتروك هو أن يراه واحد. عندئذ لا يبقى له جراح. فحتى تحب يجب أن تذهب عن انغلاقك. يجب أن تذهب وتخدم. هكذا فقط تخلص من أنانيتك. ما يصنعه يسوع هو أنه يدفعنا إلى كل مرميّ على طرقات الوجود ويقول لنا: هذا أخوك.

Continue reading
2000, جريدة النهار, مقالات

شهوة المال / السبت 11 تشرين الثاني 2000

كل الشهوات متماسة، متداخلة لأن النفس بناية واحدة في الرذائل والفضائل. فحب التملك يخامره اعتداد او استكبار او استعلاء. غير اني سأعزل اشتهاء الغني حرصاً على دراسته وهو على تلك الجسامة التي تستدعي مني ومن القارئ انتباهاً كبيراً.

ما لفتني في لغتنا انها تتفرد بالمقابلة مع لغات الغرب بأن المفردة الاكثر استعمالاً عندنا اي الغني تعني من استغنى عن سواه. تدل على موقف وليس فقط على كثرة المال. الثري عندنا تقابل بالفرنسية Riche او مثيلتها بالانكليزية. والمفردة الجديدة في عالم المصارف هي المليء. الكلمة عندنا اعمق دلالة واعظم فتكاً. تدل على اعتزالنا الناس بسبب من ركوننا الى ما جنيناه او بسبب من طمعنا به. والغنى فيه طبعاً حركية الطمع.

ما من مجال هنا لنتدارس روحية الفقر في الحضارات القديمة، في الهند مثلاً حيث تنكر ملوك لما يملكون واعتنقوا التسول منهجاً يتروضون به. الاقرب الينا والامضى في الدعوة يسوع الناصري معلم العراء الكبير. هنا اسارع الى القول ان الكثرة لم تفهم تعليمه في هذا الباب فهو ليس داعية الفقر ولكنه داعية لتحرر القلب من شهوة التملك. هو معلم الحرية من وطأة الملك ابتغاء الحرية الداخلية بالله. هو ليس ضد الاشياء الكائنة بما فيها المال ولكنه ضد ان يستعبدك المال وان تدع نفسك عبداً له. فالتضاد عنده ليس بين الاغنياء والفقراء ولكنه بين الاحرار والعبيد. فقد تكون حراً مما تملك وقد تكون عبداً لما لا تملك. واذا كان الغني من استغنى عن الناس واستتباعاً عن الله فالفقير هو الفقير الى الله واستتباعاً الفقير الى محبة الناس له. في الرذيلة او الفضيلة القضية كلها قضية علاقة. وبسبب من العلاقة نتحرك بالموجودات.

ما اراد الكتاب تأكيده ان “ما حياة الانسان بكثرة امواله”. في لوقا يلام الغني الغبي ليس لانه هدم الاهراء ليبني اكبر منها ولكنه ليم لكونه صار مستريحا في هذا ومتنعماً بطعامه والشراب. يشبع فتفرح نفسه من ثرائها. نفسه تستلذ ذاتها ولا تغنى بالله. المال يعفيك من السعي الى طمأنينات غير طمأنينته. والطمأنينة هي في التحديد اللغوي الايمان. خطر الغنى ان يستبدل صاحبه ايماناً بإيمان.

وان يستبدل حباً بحب. فهذا مثل الغني ولعازر في انجيل لوقا. رجل غني يلبس الحرير والارجوان ويقيم الولائم كل يوم (كأنه كان من البورجوازية اللبنانية) ورجل فقير اسمه لعازر (ومعناها “الرب عوني” ما يؤكد ان تعريف الفقر هو الفقر الى الله)، تغطي جسمه القروح. وكان ينطرح عند باب الغني وهذا لا يراه. اظن ان هذا هو عمق المأساة ان الاغنياء الذين تحدث عنهم الكتاب هم الذين لا يحسون بألم المحتاجين. والآباء في ذروة تعليمهم عن الخطيئة قالوا انها عدم الحس.

لست ارى حتى عند لوقا تعظيماً للفقر كحالة اجتماعية. لا يهتم الناصري لاي وضع مجتمعي غير مقرون بموقف روحي. فحتى في قوله: “طوبى لكم ايها المساكين، لأن لكم ملكوت الله” يرى الكتاب ان وضعهم ممزوج بحاجتهم الى الله وتقربهم منه. ودليل ذلك ما جاء عنده بالمقابل: “ويل لكم ايها الاغنياء، لانكم نلتم عزاءكم” اي لانكم لاكتفائكم بأموالكم ما التمستم تعزية الله.

السؤال الذي يفرض نفسه بعد هذه اللمحة الانجيلية الخاطفة هو ما الشر الذي يراه الروحانيون في هذه الشهوة. هذه الشهوة هي استلذاذ الملك. التلذذ بالبقاء عليه والحزن لحرمانه وخسارته والتوجع لعطائه. قضيتنا ليست وحده. انه الكم بقدر ما يوسوس فينا التعلق به والانهزام امامه وتصاعد تشهيه اي الطمع به الى ما لا نهاية. وقد تكون الرغبة في الازدياد اسوأ ما في هذه الرذيلة كما ان قانص الطير يهمه القنص لا الطير والمقامر همه المقامرة لا الكسب. سوء الطمع او البخل انه “حب ظافر بكل حب آخر يطرد من النفس كل رغبة اخرى”. كذا يقول يوحنا الذهبي الفم. اذى هذه الشهوة ككل شهوة اخرى انها تستغرق طاقة فينا عظيمة. انها عبادة لسيد آخر اي انها تدخلنا في مقدسات اخرى. المال هو ما نبذل له كل النفس فلا مكان فيها لآخر. لا، يبقى فيها شيء آخر ولكنه يداخلها وهو المجد الباطل.

الرؤية الانجيلية للاغنياء والفقراء اخذت حدة كبيرة في تعليم الآباء في القرن الرابع الميلادي حيث اشتدت الضائقة الاقتصادية وكثر المحتاجون وكان على الاساقفة ان يتدبروا امر الرعية بما يجمع المؤمنين بعضهم الى بعض فظهر تعليم عن المال على انه وكالة الهية وليس حقاً فردياً مقدساً. فعظمت الدعوة الى التعاضد. الدعوة قائمة في العهد الجديد واضحة. الا انها ترسخت واقيم التنظير لها حتى ذهب باسيليوس الكبير المتوفى السنة ال379 الى ان الناس جميعاً متساوون لكونهم على طبيعة واحدة ومخلوقون على صورة الله ولهم مخلص واحد. فالملك اذاً مشترك بين الناس جميعاً بلا استثناء حتى يتمتعوا به جميعاً بالتساوي. فإذا اختل هذا التوازن بالتوزيع فهذا مخالف للطبيعة والوضع البشري الاساسي. وبقى الخلل ونما بسبب شهوة المال وشهوة الطمع. فبوضوح كامل عند باسيليوس متعة المال للجميع اصلاً وليس المال ملكاً. هذا ما اباح للقديس باسيليوس ان يقرر ان الانسان يستعمل المال “كوكيل لا كمستمتع”.

يلاحظ آباؤنا ان الاغنياء من حيث الواقع لا يحبون الآخرين. مع ذلك يبقى سؤال رجائنا. كيف يدخل الجمل من ثقب الابرة، كيف له ان يطلب الملكوت. كيف يصبح المستحيل عند الناس غير مستحيل عند الله؟ فالأثرياء هاجسنا لانهم اخوة. لقد قال الله لهم كيف يكسرون اصنامهم. لقد قال لكل منا كيف يخرج من وثنيته.

من يعطي الاغنياء ان يفهموا ان ما يملكون ليس بشيء وانهم هم شيء لكون الله أباً لهم وان عليهم شيئاً واحداً ان يفهموا محبوبيتهم هذه ثم ان يدركوا انهم اخوة للمحتاجين. كيف يعبرون عن هذه الاخوة هذا شأنهم. وقد يصل بهم الحب الى التحرر من كل ما يملكون وفق كلمة الكتاب: “بدد، اعطى المساكين فيدوم بره الى الابد”. متى ادركوا ان الحرية في العطاء، ان الحياة كلها كلها في القلب المنكسر في ان يصيروا “مساكين بالروح”. عند ذاك يفهمون ان ربهم لم ينعم عليهم لما كثر مالهم ولكنه انعم لما بددوه فوجدوا انفسهم من ضياع.

اذ ذاك الله يشتهيهم احباء له.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

الغنيّ ولعازر/ 5 تشرين الثاني 2000 / العدد 45

إذا كان مَثَل السامري الشفوق حديثا في الرحمة بامتياز، فَمثل الغني ولعازر (لوقا 16: 19-31) مَثَل القسوة، وتاليا كان دعوة إلى الرحمة، وإنجيل لوقا هو إنجيل الرحمة بامتياز.

          منذ البدء يصف الكتاب تَنعُّم الغنيّ (يلبس الأرجوان والبَزّ اي الحرير). الفقير يسميه لعازر اي «الله عوني» لعله يوحي ان الفقراء حليفهم الوحيد الرب. وهو لا يوحي بأنه يُطعمهم دائما من جوع ويكسوهم من عري. يكفيهم المسيح بعرائه. يضاف إلى جوع لعازر انه مُعذَّب الجسد، مصاب بقروح، وهذا نقص لا يستطيع سدَّه لأن هذا يتطلب علاجا، والأطباء يطلبون مالا.

          الغنيّ يرى ذلك لأن الآخر مطروح عند بابه. كل محتاج (إلى طعام أو مسكن أو أقساط المدرسة) مطروح في شوارع العالم، ومن أراد ان يبصر قادر على البصر. اليد لا تتحرك من نفسها. القلب وحده يعطي.

          الحكاية الإنجيلية صوَّرت أن هذا البعد الذي كان بين الرجلين استمرّ فوق. الغني في العذاب، ولعازر في حضن إبراهيم. وهذه عبارة قديمة عن راحة الصِدّيقين، ولا نزال نستعملها في صلوات الجنازة عندنا. انما الصورة بعد الموت صورة الهوّة. ليس علينا في منهج تفسير الأمثال أن نسأل عن كل تفصيل من تفاصيل هذا المثَل لنبني عليه لاهوتا يتعلق بما بعد الموت. ليست هذه وظيفة المثَل الإنجيليّ. نفتش عن المعنى الشامل، عن قصد يسوع في رواية هذه الحكاية.

          الواضح أن المثل هذا يُعيدنا إلى إنجيل الدينونة: «كنتُ جائعا فأطعمتموني». يسوع يوحّد نفسه، يدمج نفسه مع المحتاجين. هُم همّه الكبير. هو لا يَمقُت الغنيّ من حيث إنه غنيّ. يمقت الذي يستغني عن الله ويضع كل اتكاله على أمواله ويتحسس بأن هذه الدنيا تكفيه وأنها البداءة والنهاية.

          يسوع لا يحب كل فقير، فقد يحسد الفقير ويشتهي كثيرا. هو يحب ذلك الفقير المحب لله، الذي يضع في الله رجاءه ولا يتذمّر ولا يجعل الله سببًا لمصابه ويؤمن بأن الرب يكفيه في العمق. الفقير الكبير هو الفقير إلى الله، المتواضع القلب، المكسور قلبه امام الله والإخوة.

          هذا الذي استغنى عن الله وانتفخ لا يرى انه قادر أن يجعل –بالعطاء والمشاركة- الفقيرَ يستدعي له نعمة الله. الإنسان الراحم سواه يُحسّ بأنه في حاجة إلى رحمةٍ يؤتاها وإلى رحمةٍ يعطيها. المشاركة بين القلوب لا تتم الا اذا ارتفع قلبُك إلى الرب وأستُودِع قلوبَ الناس.

          تعليم السيد في لوقا: «كونوا رحماء كما ان اباكم رحيم» (6: 36). الرحمة صفة إلهية مشتقة من الرَحِم. والفكرة انكم كما انتم مولودون من أرحام أمّهاتكم تكونون مولودين من الله. والانسان رحيم بمعنى أن من يرحمهم يصيرون ليس اولاده ولكنهم يشعرون انهم صارو ابناء الله. الرحمة ليست فقط بالعطاء المادي، هي قبل كل شيء انتباه ورعاية وضَمّ.

Continue reading