1967, لسان الحال, مقالات

العربيَّة وحياتنا الروحيَّة / الأحد 11 حزيران 1967

«اللغة أداة تواصل وتفاعل»، قالها أدونيس الإثنين الماضي في الندوة اللبنانيَّة. واللغة واحدة، أو كذا يجب أن تكون، لأنّ الوطن واحد، أو هكذا نرجو أن يصير. اللغة روح وتراث وتطلّع، قالب للرسالة التي نحمل، وشيء من مضمون الرسالة. الشكل والمعنى يتزاوجان تزاوجًا بديعًا. قد يكون العقل الإنسانيّ واحدًا في العالم المتحضِّر، ولكنّ الأرض والشعر وطريقة التعبير تلونّه. العقل، الذي لا ينحصر في العلم، ليس واحدًا في الدنيا. ولذا العقل – الفنّ، العقل – الحياة، العقل – الحسّ الاجتماعيّ له لونه إذا كانت العربيّة أداةَ الإحساس والتعبير، أو كانت لغةُ أخرى أداةَ هذا الإحساس.

من هذا القبيل الحياة الداخليّة، التي تغلي وتتحرّك، لا يمكن أن نسكبها إلاَّ في قالب لغويٍّ واحد مألوف. قد نتموّج بين لسان ولسان في حقبات مختلفة منَ العمر، ولكنّنا نبلغ مرحلة يتركّز فيها حسّنا الداخليّ، وينتقي لنفسه الثياب اللغويّة التي يراها ملائمة لحقيقته. هذا لا يمنع أن نفهم شعرًا أجنبيًّا ونتحسَّسه، وهذا لا يحول دون الإفصاح عن فكرِنا بلغة أجنبيَّة. ولكنَّا مدركون، بآنٍ، أنّها مستعارة، أنَّها أمستْ من غير كياننا. نستعملُها لأنّها مفيدة، معاشية، ليس لأنّها نحن.

لماذا يختار العربيّةَ مَن يختارها؟ قلتُ من يختارها، أعني به ذلك المثقَّف الذي تروّض الفرنسيّة تروّضًا كبيرًا، واستخدمها خطابة وكتابة؟ هذا الذي كانت له قدرة على الانتقاء، لماذا يلازم العربيّة؟ الجواب الوحيد هو أنّ هذا الإنسان اكتشف أحد أمرَين: تجذّره وتجذّر بلاده بالتراث العربيّ، وضرورة استيعاب هذا التراث للإبقاء على بلادِه في محيطها الطبيعيّ والتاريخيّ، أو أنّه اتّصل بالشعب العاديّ اتّصالاً جعله يستمدّ حساسيّة جديدة من البسطاء الذين لا يتقنون لغة أجنبيّة. في الحالتين، هذا الإنسان امتدَّ امتدادًا روحيًّا. كان هذا الإنسان «ثابتًا في الحقِّ الحاضر»، كما يقول بطرس الرسول. استقى من الماضي في الحالة الأولى، واستحضره خدمةً للناس، أو لَطَمَهُ الناسُ العاديوّن على وجهه، فاستيقظ من تغرّبه الحضاريّ، ليكلّمهم لغتَهم، ليقول لهم إنّهم أحياء ويساوون كلّ مثقّفي الأرض. العربيَّة، بهذا المعنى، اختيارٌ أخلاقيّ، تركٌ للترف العقليّ، اندماج بالعامّة.

هذا لا يعني أنّ العامّة يفهمون بالضرورة كلَّ ما يُكتب بالعربيَّة، وقد يطرح هذا مشكلة المبنى في العربيّة ذاتها. ولكنّ العامّة في رجاء أن تفهم إذا كان الأدب قائمًا بلغتها. أدونيس لا ينفي أن يكون ثمّة أناس قلائل قد أدّوا خدمة بلسان غريب، واضطروّا هم إلى استعمال هذا اللسان لظروف تتعلّق بحياتهم أو حياة فئة من اللبنانيِّين. هؤلاء مَن ينكر فضلَهم ومساهمتهم الكبرى في تأسيس البلد؟ ولكنّهم من جهةٍ نضجوا في ظلِّ الانتداب، وكان بعض شعبنا في حيرة من أمرِ مصيره وأمر ارتباطه مع الجوار. والأفراد القلائل، الذين نبغوا في الشعر والسياسة، لا يصحُّ اتّخاذهم قاعدةً لتنشئة البلد.

البلد، إذا بقي مُحيَّرًا بين لغتَين، محيرٌ ليس فقط بين ثقافتين، لكنّه متردّد أيضًا بين عالمَين. اللغة رمز، ولا شيء مثلها رمز. الثنائيّة اللغويّة، أي اعتبار لبنان على لغتين أصيلتين، إنّما هي اختيارُ لبنانَين، استمرارٌ للفئويّة فيه.

أنا لا أقول، بالضرورة، إنّ هذا التقسيم تقسيم طائفيّ. فلدينا الآن مثقّفون مسلمون يؤثرون استعمال الفرنسيّة أو الإنكليزيّة أداةً لهم للتعبير. ولكنّ الثنائيّة اللغويّة هي، قبل كلِّ شيء، تكريس لسيادة الحضارة البرجوازيّة في لبنان، وللسياسة البرجوازيّة فيه. إنَّه لبنان الصالونات والترف العقليّ واللاعقليّ، كلّ هذا الذي تلفظُه المدنيّة الغربيّة في احتضارها.

اللغة الأجنبيّة، في كلّ بلدان العالم، كانت لغةَ المجالس المستريحة. وقد يكون السؤال: لماذا تريدُنا أن ننتقي بين هذه الثقافة البرجوازيّة اللطيفة، الغنيّة، وثقافة لم يثبت شيء أنّها قادرة على اقتحام الوجود؟ بالضبط، كان أدونيس يتنكّر «للجمود وللجوء إلى الماضي والنوم في الموسوعات». قال عنها إنّها «قبورٌ محفورة بإتقان بارع لدفن هذه اللغة». الدعوة دعوة إلى الحياة، والحياةُ هي في الشعب كلِّه. وهذا الشعب قادرٌ على أن يوحي لغةً جديدة. تولستوي ولرمنتوف وغيرهما في روسيا لم يكن أدبهما ما كانه إلاَّ لكونهما اتّصلا بالناس العاديِّين. ثمّ من الذي قال إنَّنا سنقرأ المتنبّي وأبا العلاء وحدهما من دون دانتي وشكسبير وجوته؟ ولكنَّ المهمّ أن نتمثّل هذا التراث الأجنبيّ وأن نخلق، بعد هذا التمثّل، أدبَنا الخاصّ. الكبار لن يفعلوا في أمّتنا ما لم يكونوا مقروئين بلغة هذه الأمّة، ما لم يتحوّلوا إليها طعامًا تقدرُ على هضمه. إنّ لقاء الموروث، عربيّة وغربيّة، بعقولنا لقاء غير ممكن ما لم يكن الأدب كلّه أدبًا متطلِّعًا إلى كلِّ الناس في بلادنا. كلُّ ترداد لأيِّ أدب في الماضي مضرّ أعربيًّا كان أم أجنبيًّا. العربيّة، التي نتكلّم عليها ليست استظهارًا لما كان، لكنّها اللغة التي تتفاعل مع ناسِ اليوم.

من هذا القبيل، اللغةُ الواحدة كانت، في رأينا، ضرورةً روحيّة. إذا كان تثقيف الكلِّ هاجسَنا، إذا كانت ترجمةُ الروائع العالميّة همَّنا، إن كنّا نبتغي لغة تحمل عصريَّةَ الفكر لأهلِ البلد، فالعربيّة وحدها محمل كلّ ذلك. العربيّة واجب مَناقبيّ.

Continue reading