Category

1967

1967, لسان الحال, مقالات

مِنْ أجلِ مَن؟ / الأحد 27 آب 1967

أرجو ألاَّ يكونَ مسيحيُّو بلادي بعيدِين عنِ المسيح. المسيحُ في طوافٍ دائم، خارجٌ للقاء الآخرين. لا يعتزل، لا يخاف، لا يتفرَّجُ. إنَّه مرميٌّ في العالم، مشلوحٌ على خشبة، يحيا عليها قصَّةَ حبّ. بالدمِ التزمَ الأرضَ ومَن عليها. بثَّ فيها روحًا يقيمُها منَ الموت، ولم يرتفع عنِ الدنيا إلاَّ ليكون، منْ أجل الدنيا، في دوامِ انعطافٍ ودوامِ رحمة.

وإذا خرجَ الإنسانُ، فإنَّما يخرجُ منْ نفسِه، منْ عزلتِها، منْ خوفها. يخرج بالحبّ «الحقّ الحقّ أقولُ لكم: إنْ لم تقعْ حبَّةُ الحنطة في الأرض وتمتْ، فهي تبقى وحدَها». هنا، يصرِّحُ الكتابُ أنَّ الفديةَ ممكنةٌ فقط بالموت، وأنَّ الذي يبقى وحدَه متلذِّذًا نفسه فإنَّما هو، بالنهاية، مهلكُها ومفصول عنِ الشراكةِ الكبرى التي تكوِّنُه. وهذه هي المفارقة أنَّ الإنسانَ يتكوَّن بالتغرُّب عن نفسِهِ، بنسيانِها. «مَنْ يُبغض نفسَه في هذا العالم، يحفظها إلى حياة أبديَّة».

المسيحيُّون أيضًا، جماعةً، ممدودون. يعانقون الكون. ولكنّ الوهم في أنْ ينضمَّ الإنسانُ إلى الإنسانيَّة قبل أنْ ينضمَّ الى جارِهِ. ملازمةُ القريب مقياس الصدق والعمق في المحبَّة. وأقرب الناس إلينا الجريح، الطريح على الإهمال، المكبوب على طرقات التاريخ بغضًا مجانيًّا. قلقي على مسيحيِّي بلدي أنَّهم لا يقلقون. يضطربون إذا هم لم ينبطحوا في «حقوقِهم» وهُدِّدَ شعبهم، إنْ بدا في الأفق شبح انتقاص لما ورثوه من جاه. أرجو ألاَّ يكونوا في وادٍ ومسيحُهم في وادٍ، ألاَّ يكونوا ناسَ الأخذ والقبض والمطالبة والانطواء، والمخلّص يحمل كلَّ حقيقة العطاء. رجائي ألاَّ يكونَ هاجسُهم صيفًا طيّبًا واكتنازَ صحَّةٍ ودرهم مع توهُّم نور وإشعاع. إنَّ هذا لا يكون اقتفاءً لآثار السيّد، ذهابًا إلى الآخرِين.

أين هذا من كلامِ الله لإبراهيم: «انطلقْ منْ أرضكَ وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أُريك»؟ وبعد هذا الكلام، يأتي الوعد: «وأنا أَجعلُكَ أُمَّةً كبيرة وأُبارك وأُعظِّمُ اسمَكَ». كلُّ ذلك لأنَّك انطلقت. لأنَّكَ، إنْ تربَّعتَ في مدينتِكَ أور حيث المتعةُ والجمال والمدنيَّة المترفة، فلن يفيد إيمانُكَ أحدًا. ولكنْ، إنْ نجوتَ ممَّا أنتَ عليه منْ أطايبِ الحياة وعبرتَ إلى حيث أُريدُكَ أنْ تكون، «فأنا ترسٌ لكَ، وأنا أَجركُ العظيم». وعلى هذا «أخرجه الله إلى خارج، وقال له أنظر إلى السماء…» تلك التي يأتي منها كلُّ عونٍ، ويفترض التطلّع إليها أنَّنا نلنا الحريَّة منَ العزلة والخوف.

إبراهيم لم يسألْ عن أخلاق الذين نُودي لينطلقَ إليهم. لم يبحث عن راحتِهِ. كان عالمـًا بأنَّ مَن سار أمام ربِّه، باستقامة وتواضع، إنَّما يبلغُ ربَّه. هذا المسلكُ لا نغامر فيه إلاَّ بالحياة، ولكنَّا لا نغامرُ فيه بالموت. عندنا ضمانة الحبَّة منَ الحنطة التي، إذا ماتتْ، لا تبقى، بتاتًا، وحدها. عندنا الوعدُ بأنَّها، إذا ماتت، تأتي بثمرٍ كثير.

منْ أجلِ مَن يجب أنْ يُهلكَ نصارى لبنان أنفسَهم؟ السؤال يعود بنا إلى سؤالٍ أسبق: مَن هو قريبي؟ عن هذا أجابَ يسوعُ، وقال: «كان إنسانٌ منحدرًا منْ أورشليم إلى أريحا فوقع بين لصوصٍ فعرَّوه وجرَّحوه وتركوه بين حيٍّ وميت». ما يزال الجريحُ هناك، ليس على كلّ طرقات الدنيا، لكنْ على الدروب التي داستْها، في جوارنا، أقدامٌ كافرة. ليس علينا أنْ نغادرَ لبنان، لنرى المأساة، المأساة تطوِّق لبنان. علينا فقط أنْ نتحرَّر منْ روحيَّة الصحّة الجيِّدة، من الوجل التاريخيّ، وقد أدركنا أيامًا وكأنّها ما بعد التاريخ. لقد هجمَ الوحشُ على فلسطين ومزَّقها إِرَبًا إِرَبًا كما مزَّق الناصريَّ قديمًا. والعالمُ سجدَ للوحش، ويقول: «مَن هو مثل الوحش. مَن يستطيعُ أنْ يحاربَه» (رؤيا 13: 4).

هذه هي تجربةُ العالم اليوم. المؤمنُ بالمسيح لا يستطيعُ أنْ يردّها ردًّا كلاميًّا. لقد شاء الله، بحكمتِه الأزليَّة، أنْ يجعلَ العربَ، وحدهم، أعداء الوحش الرؤياويّ. إنَّ مصارعتَهم ليست ضدَّ دمٍ ولحمٍ، بل ضدَّ المسيح الدجَّال. في هذه المرحلة المطلّة على ما بعد الزمن، تبدو اسرائيل وجهًا من وجوه المسيح الدجّال. ولذا، كانت نصرة العرب مناصرة للمسيح. وكان لقاؤهم إيمانًا وبرًّا وتأهُّبًا للسماء.

أجل، قضيَّةُ العرب قضيَّةٌ سياسيَّة، ولكنَّها ليست كذلك وحسب. هي أمرٌ إنسانيّ، أمرُ المظلومِين والمجرَّحِين منْ كلِّ صوب. غير أنَّها ليست كذلك فقط. شأنُ العرب، اليوم، هو شأنُ المسيح في محاربتِه وحشَ الرؤيا. العربُ، اليوم، هم تماسّ التاريخ لما بعد التاريخ. العرب، اليوم، بابُنا إلى المطلَق.

Continue reading
1967, لسان الحال, مقالات

العالمُ المسيحيّ / الأحد 10 آب 1967

كانتْ محنةُ العَرَب آخرَ دليلٍ للتفريق بين «العالم المسيحيّ» والدين المسيحيّ. في بعضِ الأذهان، كان ثمَّة شيءٌ يُسمَّى الدنيا المسيحيَّة. لقد استمرَّ هذا المفهومُ بعد القرون الوسطى لمَّا كانت أوربا ما تزال تتكلَّمُ عن حضارةٍ مسيحيَّة في القرن الماضي. ثمّ باتَ منَ الواضح أنَّ الماركسيَّة والرأسماليَّة – وكلاهما غيرُ مسيحيّ – توزَّعا العالم. في الشعوب البيضاء، لم يبقَ الدينُ مهيمنًا على المسيرة الحضاريَّة، ولو كانت هذه تحملُ رواسبه. فبانحلال الإمبراطوريَّات المسيحيَّة وتفشِّي العلمانيَّة[1] والفكر التقنوقراطيّ، تفرّغ مفهوم «العالم المسيحيّ» من كلِّ فحوى. وصارتِ الكنيسةُ المسيحيَّةُ أقليَّةً في الدنيا المسيحيَّة عينها. ومنْ جهةٍ أُخرى، أَخذَت أجزاء أخرى منَ العالم تنفتحُ إلى قيمٍ مسيحيَّة. ولعلَّ هناك تلمّسًا لحقيقةِ اللهِ في الفنِّ وصدقِ الكفاح السياسيّ وعدالته، وذلك في بقاعٍ لم تكن نصرانيّة يومًا أو بُترتْ عن مصادرِها النصرانيَّة.

أعتقدُ أنَّنا، ابتداءً منَ الإيمان، يجبُ أنْ نهلِّلَ لزوالِ «الدنيا المسيحيَّة». إنَّها كانتْ عالمَ الكذب الذي يَخلطُ فيه المراؤون، من كلِّ صوب، بين الرموز والحقائق. لقد ذهبَتْ إلى الأبد مملكةُ الروم و«أوربا المسيحيَّة»، لكي يُتاحَ مجالٌ للمسيحيَّة الشرقيَّة والمسيحيَّة الغربيَّة أنْ تعيشا للمسيح فقط، لا للمنافع الدنيويَّة. طوبى للمسيحيِّين لكونِهم خسروا الدولةَ وكلَّ سيطرة. هذا هو حظُّ الله الوحيد في السيطرة عليهم. كانوا يمنعون الله عن الناس، لأنَّهم كانوا يثبتون برَّ أنفسِهم. أمَّا الآن، فالمؤسَّسة المسيحيَّة، والحمد لله، كلُّها في أزمة. لقد انقرضَتِ الأمجادُ «المسيحيَّة» الباطلة، ليكونَ اللهُ وحده قيومًا صمدًا.

مع ذلك، ما يزالُ البعضُ يقولون بوجود دولٍ مؤمنةٍ ودول ملحدة. في اعتقادِنا، النهضةَ المسيحيَّةَ في العالمِ لن تتمَّ إلاَّ إذا انهارتْ آخرُ دولةٍ محسوبةٍ على المسيحيَّة. قيامةُ المسيح –وهي المبتغاة– قيامته منْ ترابِ التاريخ في فجرٍ جديد رهنُ هذا الإنهيار. يجب أنْ تتلاشى أحلامُ العزِّ والسؤدد كلّيًّا منْ قلوب المسيحيِّين، ليصبحَ المسيحُ غلاَّبًا فعلاً. المسيحُ لا يُلازمُ تاريخَ أُمَّةٍ أو مجموعةِ أُمم. إنَّه غيرُ مرتبطٍ «بكياناتٍ» مسيحيَّة. المسيحيَّةُ هي المسيح، كلمتُه وتجلِّيه، عدله وتواضعه. أما ما ينشأ منْ مال وجول وطول على ضفاف المجرى الإيمانيّ، في انسيابهِ إلى الأبد، فلا شأنَ لنا به. ليس هو كنزنا. من هم للمسيح، لا يوالون كتلةً ولا جبهة، ولا يخشَون أحدًا. لا يستطيعون أنْ يفهموا العلاقةَ بين إيمان تدَّعيه دولةٌ وبين قصفها مدنًا آمنة. اللهُ، عندهم، لا ينصر بالسيف أحدًا.

فإذا كان الأمرُ كذلك، جازَ للمؤمنِ أنْ يتساءَلَ، مثلاً، في أيَّةِ جبهةٍ منَ الفيتنام هو المسيح. أيمكن أنْ يكونَ مع صليبيَّة؟ أليس هو، دائمًا، منْ جهة الضحيّة كائنةً ما كانت عقيدتُها؟ أَليستِ القوَّةُ هي التعدِّي؟ وإذا اضطرَّ الضعيفُ إلى أنْ يهابَني، ألستُ أنا مضطهِدًا الضعيف؟ العنف، كلُّ عنفٍ يطردُ الربَّ خارجًا. عندما أظهرُ ذكائي بحيث يصبحُ رهيبًا للجاهل، ألستُ، بفهمي، متحدِّيًا الجاهل؟ إذا لم أَخدمِ الناس، كلّ الناس، لا أقدر على أنْ أَرفعهم إلى رتبة أحبَّاء. وإذا لم أَجعلْهم أحبَّاء، فإنَّهم عبيدٌ لي، وأنا عدوٌّ لإنسانيَّتِهم وعدوٌّ لنفسي.

المسيحيُّون هم مَن دعاهم ربُّهم، ليكونوا له على هذه الصورة. الإنسانُ لا يُولدُ نصرانيًّا، وبالحقيقةِ لا ينصِّرُهُ أحد. هو يقبلُ صبغةً تُغيِّرُ كيانَه، أو لا يقبل. المسيحُ ليس معطى لنا نهائيًّا. المسيحيَّةُ في ديمومة سعي.

المسيحيَّةُ ليستْ دنيا، ليستْ قصَّة، ليست تاريخًا، إلاَّ إذا كانتْ دنيا اللهِ وقصَّةَ الله وتاريخَ الله. ولعلَّ تاريخَ الله يُكتَبُ اليوم، في كثيرٍ منْ صفحاتِهِ، خارج «العالم المسيحيّ». العالم الثالث، هذه الصرخة منَ العدل، فيه منَ الحقيقة ما هو أبعد وأعمق منْ كلِّ الحضارةِ البيضاءِ، لأنَّ الحقيقةَ دائمًا منْ نار. مسيحيُّ العالم الثالث ليس جزءًا منَ المدنيَّة «المسيحيَّة» المترفة. هو منْ دنيا المحرومِين، ولا يستطيعُ أن ينفصلَ عنهم، لينضمَّ إلى مدنيَّة المال ومدنيَّة القوَّة.

حنين المؤمنِ، اليوم، هو إلى أفريقيا وآسيا وإلى العرب. قد يكون هذا الحنينُ المحكَّ الوحيدَ للإيمان الحيِّ اليوم.


[1] لا أقصد بالعلمانيَّة، هنا، استقلال بنية الدولة عن الإدارة الكنسيَّة. العلمانيَّة، بهذا المعنى، قيمة مسيحيَّة لكونها تميِّز بين الأبديّ والزائل. لكنِّي أقصدُ بالعلمانيَّة كلمة sécularisation الأجنبيَّة وهي الدعوة إلى بناء كلِّ فكر وكلّ حضارة بلا رجوع إلى الله.

Continue reading
1967, لسان الحال, مقالات

العربيَّة وحياتنا الروحيَّة / الأحد 11 حزيران 1967

«اللغة أداة تواصل وتفاعل»، قالها أدونيس الإثنين الماضي في الندوة اللبنانيَّة. واللغة واحدة، أو كذا يجب أن تكون، لأنّ الوطن واحد، أو هكذا نرجو أن يصير. اللغة روح وتراث وتطلّع، قالب للرسالة التي نحمل، وشيء من مضمون الرسالة. الشكل والمعنى يتزاوجان تزاوجًا بديعًا. قد يكون العقل الإنسانيّ واحدًا في العالم المتحضِّر، ولكنّ الأرض والشعر وطريقة التعبير تلونّه. العقل، الذي لا ينحصر في العلم، ليس واحدًا في الدنيا. ولذا العقل – الفنّ، العقل – الحياة، العقل – الحسّ الاجتماعيّ له لونه إذا كانت العربيّة أداةَ الإحساس والتعبير، أو كانت لغةُ أخرى أداةَ هذا الإحساس.

من هذا القبيل الحياة الداخليّة، التي تغلي وتتحرّك، لا يمكن أن نسكبها إلاَّ في قالب لغويٍّ واحد مألوف. قد نتموّج بين لسان ولسان في حقبات مختلفة منَ العمر، ولكنّنا نبلغ مرحلة يتركّز فيها حسّنا الداخليّ، وينتقي لنفسه الثياب اللغويّة التي يراها ملائمة لحقيقته. هذا لا يمنع أن نفهم شعرًا أجنبيًّا ونتحسَّسه، وهذا لا يحول دون الإفصاح عن فكرِنا بلغة أجنبيَّة. ولكنَّا مدركون، بآنٍ، أنّها مستعارة، أنَّها أمستْ من غير كياننا. نستعملُها لأنّها مفيدة، معاشية، ليس لأنّها نحن.

لماذا يختار العربيّةَ مَن يختارها؟ قلتُ من يختارها، أعني به ذلك المثقَّف الذي تروّض الفرنسيّة تروّضًا كبيرًا، واستخدمها خطابة وكتابة؟ هذا الذي كانت له قدرة على الانتقاء، لماذا يلازم العربيّة؟ الجواب الوحيد هو أنّ هذا الإنسان اكتشف أحد أمرَين: تجذّره وتجذّر بلاده بالتراث العربيّ، وضرورة استيعاب هذا التراث للإبقاء على بلادِه في محيطها الطبيعيّ والتاريخيّ، أو أنّه اتّصل بالشعب العاديّ اتّصالاً جعله يستمدّ حساسيّة جديدة من البسطاء الذين لا يتقنون لغة أجنبيّة. في الحالتين، هذا الإنسان امتدَّ امتدادًا روحيًّا. كان هذا الإنسان «ثابتًا في الحقِّ الحاضر»، كما يقول بطرس الرسول. استقى من الماضي في الحالة الأولى، واستحضره خدمةً للناس، أو لَطَمَهُ الناسُ العاديوّن على وجهه، فاستيقظ من تغرّبه الحضاريّ، ليكلّمهم لغتَهم، ليقول لهم إنّهم أحياء ويساوون كلّ مثقّفي الأرض. العربيَّة، بهذا المعنى، اختيارٌ أخلاقيّ، تركٌ للترف العقليّ، اندماج بالعامّة.

هذا لا يعني أنّ العامّة يفهمون بالضرورة كلَّ ما يُكتب بالعربيَّة، وقد يطرح هذا مشكلة المبنى في العربيّة ذاتها. ولكنّ العامّة في رجاء أن تفهم إذا كان الأدب قائمًا بلغتها. أدونيس لا ينفي أن يكون ثمّة أناس قلائل قد أدّوا خدمة بلسان غريب، واضطروّا هم إلى استعمال هذا اللسان لظروف تتعلّق بحياتهم أو حياة فئة من اللبنانيِّين. هؤلاء مَن ينكر فضلَهم ومساهمتهم الكبرى في تأسيس البلد؟ ولكنّهم من جهةٍ نضجوا في ظلِّ الانتداب، وكان بعض شعبنا في حيرة من أمرِ مصيره وأمر ارتباطه مع الجوار. والأفراد القلائل، الذين نبغوا في الشعر والسياسة، لا يصحُّ اتّخاذهم قاعدةً لتنشئة البلد.

البلد، إذا بقي مُحيَّرًا بين لغتَين، محيرٌ ليس فقط بين ثقافتين، لكنّه متردّد أيضًا بين عالمَين. اللغة رمز، ولا شيء مثلها رمز. الثنائيّة اللغويّة، أي اعتبار لبنان على لغتين أصيلتين، إنّما هي اختيارُ لبنانَين، استمرارٌ للفئويّة فيه.

أنا لا أقول، بالضرورة، إنّ هذا التقسيم تقسيم طائفيّ. فلدينا الآن مثقّفون مسلمون يؤثرون استعمال الفرنسيّة أو الإنكليزيّة أداةً لهم للتعبير. ولكنّ الثنائيّة اللغويّة هي، قبل كلِّ شيء، تكريس لسيادة الحضارة البرجوازيّة في لبنان، وللسياسة البرجوازيّة فيه. إنَّه لبنان الصالونات والترف العقليّ واللاعقليّ، كلّ هذا الذي تلفظُه المدنيّة الغربيّة في احتضارها.

اللغة الأجنبيّة، في كلّ بلدان العالم، كانت لغةَ المجالس المستريحة. وقد يكون السؤال: لماذا تريدُنا أن ننتقي بين هذه الثقافة البرجوازيّة اللطيفة، الغنيّة، وثقافة لم يثبت شيء أنّها قادرة على اقتحام الوجود؟ بالضبط، كان أدونيس يتنكّر «للجمود وللجوء إلى الماضي والنوم في الموسوعات». قال عنها إنّها «قبورٌ محفورة بإتقان بارع لدفن هذه اللغة». الدعوة دعوة إلى الحياة، والحياةُ هي في الشعب كلِّه. وهذا الشعب قادرٌ على أن يوحي لغةً جديدة. تولستوي ولرمنتوف وغيرهما في روسيا لم يكن أدبهما ما كانه إلاَّ لكونهما اتّصلا بالناس العاديِّين. ثمّ من الذي قال إنَّنا سنقرأ المتنبّي وأبا العلاء وحدهما من دون دانتي وشكسبير وجوته؟ ولكنَّ المهمّ أن نتمثّل هذا التراث الأجنبيّ وأن نخلق، بعد هذا التمثّل، أدبَنا الخاصّ. الكبار لن يفعلوا في أمّتنا ما لم يكونوا مقروئين بلغة هذه الأمّة، ما لم يتحوّلوا إليها طعامًا تقدرُ على هضمه. إنّ لقاء الموروث، عربيّة وغربيّة، بعقولنا لقاء غير ممكن ما لم يكن الأدب كلّه أدبًا متطلِّعًا إلى كلِّ الناس في بلادنا. كلُّ ترداد لأيِّ أدب في الماضي مضرّ أعربيًّا كان أم أجنبيًّا. العربيّة، التي نتكلّم عليها ليست استظهارًا لما كان، لكنّها اللغة التي تتفاعل مع ناسِ اليوم.

من هذا القبيل، اللغةُ الواحدة كانت، في رأينا، ضرورةً روحيّة. إذا كان تثقيف الكلِّ هاجسَنا، إذا كانت ترجمةُ الروائع العالميّة همَّنا، إن كنّا نبتغي لغة تحمل عصريَّةَ الفكر لأهلِ البلد، فالعربيّة وحدها محمل كلّ ذلك. العربيّة واجب مَناقبيّ.

Continue reading
1967, لسان الحال, مقالات

مفرقعات الأعياد / الأحد 7 أيار 1967

لم يمت الإله الوثنيّ فينا، ولم نتجاوز ذاك الذي كان يظهر بالبرق والرعد. وعندما كانت الإنسانيّة تتصوّر ربّها على هذا الشكل الناريّ، إنما كانت تلتمس فيه شهوة العنف التي فيها. والغرائز متأهّبة دومًا للتفلّت. ومن مظاهر انفلاتها، الرصاص والمفرقعات التي يستعملها شبّان، صاحون أو سكارى، عملاً بالمادة 6 و6 مكرّر. والحقيقة أن الخلاف ليس بين المسيحيّة والإسلام بل بين الطوائف – الأحزاب، بين مجوسيّي الإسلام ومجوسيّي المسيحيّة، لأنّ المتعبّد للنار مجوسيّ إلى أيّة ديانة انتمى. فالوثنيّة لا تنقرض. حسبنا الإهمال لتعود قويّة تتحكّم بمن يوحّد الله تحكّمًا شرسًا. والله ظرف من ظروف الرجعة الوثنيّة وشهواتها. والناس سذّج إذا سمّوا لهيصة ابتهاجًا. والذي يخدع البشر مجرّد قيام «الهرج والمرج» يوم التعييد، فيحسبون أنّ العيد مرتبط بالتهييص. والحقيقة أن الرغائب الحيوانيّة تتدفّق في المواسم، لأنّها تستحيي أن تظهر بلا مبرّر. تصطنع التبرير، فتطلي الشهوة بشاعتها بمسحة من تقوى. وبعض التقوى نافع للخطيئة في قحتها.

والمصيبة أنّ المفرقِعين ومن يتساهل معهم، لهم لغة، وللمؤمن الحقّ لغة أخرى. المؤمن يذهب إلى الله ليلقاه في التواضع والسلام، ليُسكت كلّ شهوة في حضرته. واللاعبون بالنار يؤمّون ساحات المعابد ليلعبوا. إنهم طلاّب لذّة. والذين لا يحتجّون عليهم إنما يتسلَّون بتسليات أولئك. يترفّعون بسبب من رهف وتهذيب. ومع ذلك يحبّون أن يلعب ولدان الحيّ البالغون بهذه الدمى. المهذَّبون لا يفقدون يدًا ولا عينًا ولا حياة. لا يفهمون إذا شرحنا لهم أنّ هذا كلّه يقضي على العبادة إداء وسماعًا وخشوعًا، كأنّ أحدًا لا يهمّه جديًّا أن تكون الأعياد تقديسًا والمواسم معارجَ إلى السماء. كلّ موضوع الله وقضيته ملهاة لكلّ هذه الجماعة الراضية عن هذا السيرك.

مذهلة هذه الفوفاشيّة التي نواجه فيها المهزلة. فاللاعبون في السيرك يعرفون كلّهم قواعد اللعب. أمّا المتفرّجون فلا يعرفون. المصلّون الذين يتغاضون عن الرصاص لا يدركون أنّ مَن تسمح له بالنار إنما يستزيد. ولذلك من تكلّم عن توجيه هذه التظاهرات أو تحديدها أو حصرها في وقت معلوم إنما يهذي. منطق النار أن تبقى، أن تلهب، أن تلتهم الدنيا. النار تجعل في نفس القابض عليها نشوة. ولها عشّاقها المدمنون. وإذا كانت الزقّ هنا فكيف يرتدع السكير، أو كان الرصاص وما إليه بمتناول اليد فمن يقمعه؟

لذلك يجب ألاَّ يُباح دخولها إلى ساحات المعابد أو داخلها. السلاح يدنِّس الهيكل. والنار دائمًا سلاح الشيطان، وسيلة مجنونة تعطل الشعائر. والدولة، بتغاضيها، مسؤولة عن هذا التعطيل. والمصلُّون الودعاء ليسوا شرطةً ليقمعوا بدائيّة هوجاء تنتهك حرمة مقادسهم. القانون الجزائيّ يحرِّم التعدي على العبادات. أيّ التعديات أقوى من هذا؟ القيّمون على الحياة الروحيّة لا يستطيعون أن يشوا بأحد ولو أساء إلى ربهم، وقد لا يطاعون إذا نبّهوا ولاموا. السلطة المدنيّة مسؤولة، أكانت الأدوات المستعملة مرخَّصة أم غير مرخَّصة. المادة الجزائيّة هنا ليست حمل أسلحة أو متفجرات. فقد يدوي المسموح به ويعطل الصلاة. الدولة تستطيع أن تبتر. إنّها تستطيع أن تحمينا من العدوان، من عدوان أبنائنا. فقد تكون نيّة ابنك حسنة إذا جاء ليقتلك. هذا لا تبحث أنت فيه، ولكن تتمسك بحياتك. الشبّان الصاحون أو السكارى، وكثيرًا ما يكونون لطفاء خارج معركة المعابد، هؤلاء بأطيب نيّة أعداء حريّتنا الدينيّة. يمنعوننا من الوصول إلى إلهنا. سِيركهم يجب أن نطرد أو ننكفئ إلى البراري لنصلّي. فما دامت النار في حرم كنائسنا نحن في حالة اضطهاد.

Continue reading