فعل غفر، يغفر يملأ القرآن. الله هو الغفور او الغفّار. والانسان يستغفر. اذ ذاك، ينال المغفرة. وفي مواضع كثيرة الله غفور رحيم. استعمال الكلمتين معًا يدلّني على أنّ المغفرة الالهية ثمرة الرحمة عند الرب. المسلم منجذب بشدّة الى كلمة الرحيم الواردة في البسملة.
في الآية 17 من سورة التغابن يقيم الكتاب رباطًا بين مغفرة الله للانسان وغفران الانسان للآخر بقوله: «وان تعفوا وتصفحوا وتغفروا فان الله غفور رحيم». هذا قريب جدا من انجيل لوقا: «كونوا رحماء كما ان أباكم ايضا رحيم» (6: 16).
غير ان اله القرآن يبقى على حريته الكاملة «فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء» (البقرة 384). وهناك معصية لا مغفرة بعدها وهي الشرك وفق قوله: «ان الله لا يغفر ان يُشرَك به» (النساء، 48).
«فيغفر لمن يشاء» يقول محمد جواد مغنية صاحب التفسير المبين ان ليس لأحد ان ييأس من عفو الله فلعلّه مغفور له. «ويعذب من يشاء» ولا يأس من غضب الله، فلعلّه مغضوب عليه. اما مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي في قول (يغفر لمن يشاء) يعني انه يغفر لمن يشاء منهم رحمة وفضلا وفي (من يعذب من يشاء) يقول: ممن يستحق العقاب اذا صار الاثم من افعال القلب. عند الطبرسي (يغفر لمن يشاء) تعود المشيئة فيه الى الانسان لا الى الله ليرفع عن الله فكرة التعسف كما اظن ذلك «ان المحاسبة انما تقع على ما كسبته القلوب إما في نفسها وإما عن طريق الجوارح» كما يؤكد السيد محمد حسين الطباطبائي. الغفران الالهي او عدمه مرتبط اذًا بموقف الانسان من الله.
لا بد من العودة الى لسان العرب لنعرف تحديد المغفرة او الغفران. فالغفور (اي الله) هو الساتر لذنوب عبيده المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم. وفي هذا يقول داود النبي: «طوبى لمن غفرت ذنوبه وسترت خطاياه» (مزمور 32: 1). يعني ذلك انه تغاضى عن اقتراف الذنب لأنك صرت قريبا اليه بالتوبة، لأنك عدت اليه. فاذا كنت لديه لا يحسب ربك عليك خطيئة. هل يحفظها الله في ذاكرته؟ الله يعلم ما ارتكبت ولا يقع عليه النسيان ولكنه -اذا صح التعبير- يحفظك في قلبه نقيًا وكأن شيئًا لم يكن.
# #
#
في الكتاب المقدس في عهديه الله هو الغافر. غير ان العهد الجديد بسبب من وحدة المسيح والله بنسب المغفرة الى المسيح ايضا (راجع كولوسي 3: 13). مثلها قول يسوع لمريض أُتي به اليه طلبا للشفاء: «مغفورة لك خطاياك» (متى 9: 2) في حين انه لم يسبق لنبي في اسرائيل انه غفر خطايا. هذا كلام لا لبس فيه اذ فهم الكتبة انه ينسب الى نفسه القدرة على الغفران وأكد هو ظنّهم اذ قال: «ان لابن الانسان سلطانّا على الأرض أن يغفر الخطايا» (متى 9: 6). قول المسيح هذا يجعل قدرته من قدرة الله نفسه ويبقى مضمون الغفران واحدًا وهو تجاوز الله للخطيئة او الاثم.
في العهد القديم فكرة خاصة لا نجد لها أثرًا في العهد الجديد واضحًا وهو ان الله يغفر اثم شعبه (مثلا في المزمور 85: 2)). هذا ناتج في تصوّري عن فكرة «شعب الله» الذي يقابله الله شعبّا وهو يقابل الله ويتكوّن شعبًا باختيار الله ايّاه في حين أنّ العهد الجديد لا يقول انّ الله يغفر للكنيسة. ربما لأن الكنيسة قيل عنها انها عروس المسيح ورآها الوحي بامتدادها الأخروي. ربما كان هذا ايضًا ناتجًا عن رؤية الرب للانسان في شخصيته المستقلة المسؤولة.
أجل سبق لحزقيال أنّه تكّلم على المسؤولية الأخلاقيّة للانسان الفرد مستقلاً عن القبيلة او الشعب ولكن ما من شك أنّ المسيحيّة كشفت أهميّة الشخص بصورة لم يسبق لها مثيل لا في اسرائيل ولا في الحضارة اليونانية.
على هذا الغفران العميم الذي هو من صفات الله يقول الكتاب في سفر الملوك الثاني (24: 40) ان الرب لم يشأ ان يغفر لمنسى «لأجل الدم البريء الذي سفكه لأنه ملأ أورشليم دما بريئا». هذا الحديث عن جسامة القتل وليس حديثًا مطلقًا، نهائيا عن غضب الله.
الى هذا يتحدّث الانجيل عن غفران الانسان للانسان. في الصلاة الربيّة في الترجمة الأرثوذكسيّة: «واترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمن لنا عليه» (متى 6: 12). توضحها آية لاحقة: «إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي». غفران الله لكم مشروط بمحبّتكم لمَن أساء اليكم. هذا لا يعني أنّ للانسان قدرة على الغفران بمعنى محو خطيئة الآخر. الخطيئة في أنّه لم يسامح واذ ذاك، لا يستطيع قلبه تقبّل الغفران الالهي لأنّ من أغلق قلبه عن الانسان يغلقه بالضرورة عن الله.
# #
#
انها طمأنينة للانسان ان يعرف محبّة الله له ولا سيما في الغفران. ماذا يحرّك الله الى هذا؟ أبوّته. المسيحيّون واعون أنّهم أبناء الله وأنّ الآخرين هم كذلك وإن لم يعرفوا البنوّة لله لفظا او تعليما.
كل هذا لا يعني انّنا نصرّ على الخطيئة متّكلين على رحمة الله. رحمة الله شأنه وشأننا نحن التوبة. الخطيئة المتكرّرة تقسي القلب وقد تجعلنا بعيدين عن استرحام الله. الاسترحام يعني حوارًا والتجاءً الى الله. والرحمة من طول أناته. انت لا يحق لك ان ترمي نفسك على طول الأناة هذه. تقيم نفسك في التوبة ثم تأتي المغفرة وتنشأ بينك وبين ربّك مودّة وتستطيب بعد هذا حلاوة الرب.
«ليس احد يحيا ولا يخطئ». هذا تعليم الكتاب ونستعمل هذا القول في الجنازة الأرثوذكسيّة. هذا وضع وجد القديسون أنفسهم فيه. ولكنهم عرفوا أنفسهم في مقام المغفرة واللطف الالهيّ. عرفوا أنفسهم محضونين في الروح القدس الذي يطهّرنا من كل دنس وينقلنا الى ملكوت المحبة الذي يرى بولس انه ملكوت المسيح. هذا هو العشق الالهي الذي جاء الكلام كثيرًا عنه في تراثنا وعلى لسان المتصوّفين المسلمين. لعلّ صفة المغفرة في الله من أهم الرؤى التي تجمع المسيحيين والمسلمين وتقيمهم في مرتبة المحبوبيّة معا.
Continue reading