Monthly Archives

August 2010

2010, مقالات, نشرة رعيتي

قطع رأس يوحنا المعمدان/ الأحد 29 آب 2010 / العدد 35

جاء هذا الخبر عند مرقس مداورة اذ نص إنجيل مرقس على أن هيرودس سمع بخبر يسوع فقال ان يوحنا المعمدان قد قام من بين الأموات، ثم تأتي الرواية عن قتل المعمدان. لماذا هيرودس أمسك يوحنا وزجّه في السجن؟ الجواب لأن الملك تزوّج «هيروديا» امرأة أخيه فيلبس.

ما الخطأ في ذلك؟ لنفترض أن أخاه كان حيا. إذ ذاك، يكون هذا زنا. أما إذا كانت هيروديا مطلّقة فزواجها يخالف شريعة موسى القائلة: «عورة امرأة أخيك لا تكشف» (لاويين 18: 16). ولو كان زوجها ميتا يكون الزواج مخالفا للناموس إن كان عندها ولد إذ يقول سفر التثنية: «اذا سكن إخوة معا ومات واحد منهم وليس له ابن فلا تصر امرأة الميت الى خارج لرجل أجنبي» (25: 5). بنظر المعمدان كان في الأمر زنا او مخالفة صريحة للناموس.

نتج عن هذا التأنيب للملك أن هيروديا سعت الى قتل النبي. غير أن الملك «كان يخاف من يوحنا لعلمه بأنه رجل بار وقدّيس ويحافظ عليه». ويقول الإنجيل ايضًا ان الملك كان «يسمع الى يوحنا بانبساط» ما يعني أنه كان يتردّد على البلاط ولكنه انقسم داخليا عن هذه الصداقة بسبب سقوط الملك الأخلاقيّ.

في هذا الجو «صنع هيرودس في مولده عشاء لكبار المملكة»، وجاءت ابنة هيرويا ورقصت رقصا فرديًا لا بد أنه كان خليعا وأَعجبت الملك. وباقي القصة سرده الكتاب الإلهي. فقتل المليكُ يوحنا المعمدان. ثم دفن جثة يوحنا تلاميذه، ولا نعرف شيئا عنها، ولا عن رأسه نعرف شيئا. وتزعم كنائس عديدة في العالم أن عندها هذا الرأس، ولكن ليس شيء من هذا أكيدا. الأغلب أن الجثمان كله دُفن في فلسطين واندثرت المعالم.

الدرس الذي لنا من هذه الحادثة أن النبي يقول الحق للكبير والصغير ولا يخشى أحدا حفاظا منه على كلمة الله. الله لا الملوك ولا العظماء وحده المطاع. الدرس الآخر أن هيرودس كان أولا ضحية الطعام والسكر، ووقع ثانيا في شهوة العيون. كل هذا مجتمعا قتل المعمدان.

الخلاصة من هذا كلّه أنك إن كنتَ إنسانا روحانيا لا تُساير احدا. تلوم أباك او إخوتك او أصدقاءك بقوة كلمة الله لأنك تريدهم أن يتنقّوا من كل خطيئة اقترفوها. أنت لا تحب أحدا على الله لأنك تكون قد سلّمته الى الشيطان الذي أغراه. يمكن أن تموت لأنك قلت الحقيقة. شهادة الدم تفرض نفسها حتى يتمجّد الله بسفكِ دمِك كما تمجّد بشهادةِ كلامك.

من هذه الخلاصة ايضا أن «شهوة العيون وشهوة الجسد» كما يسمّيها يوحنا الإنجيلي في رسالته الجامعة الأولى تُبيد صاحبها ويمكن أن تجعله قاتلا. الخطيئة لها أثر على مرتكبها ولها أثر في النفوس. لا تمرّ كمرور الريح. الخطيئة رهيبة ايضا لأنها تُولّد خطيئات أخرى.

قطع رأس يوحنا دعوة كل واحد منا الى التوبة.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

الله والألم / السبت 28 آب 2010

الإنسان موجع نفسه ويرمي على الله مسؤولية ذلك لأنه يعتبره مصدر الخير والشر ويراه معاقبا لخطاياه. سأنظر الى ذلك من زاوية مسيحية. في الحقيقة ان المسيحية الغربية روّجت لهذا الطرح منذ أوغسطين والقائلة ان ثمة خطيئة قائمة في طبيعة البشر من جراء ما سمي بالخطيئة الأصلية وهي عبارة لا يستعملها الشرق وينتج عنها أن كل البشر مذنبون منذ تكوينهم في أحشاء أمهاتهم. ولهذا كان هذا التأكيد المفرط لآلام المسيح. بخلاف ذلك تأكيد الكنيسة الشرقية على قيامة المخلص وليس فيها فكرة «الفداء» على انه فدية دفعها المسيح عن آلام البشر بمعنى انه احتمل الألم بدلا عنهم ويبدو الفرق بين اللاهوت الغربي واللاهوت الشرقي على ان الفن الشرقي مأساوي والفن الشرقي انتصار على الموت.


في التقوى الغربية سعي الى الألم باعتباره تحررا من الخطيئة مثلا عن طريق جلد الإنسان لذاته او ارتداء ما يوجع.


الواضح في الفكر المسيحي الأصيل ان الله لم يخلق الألم. «ورأى الله ان كل ما صنعه حسن جدا» (تكوين 1: 31). عند الاباء الشر الأدبي (الخطيئة) والمرض والفساد والموت ليست من عمل الله. على ضوء هذا كفّرت المسيحية المانوية القائلة بأن للوجود مبدئين الخير والشر. الله عندنا صلاح كلّه واعتباره مصدرا للشر هو نفي صلاحه اذ يرى آباؤنا الشر واقعًا نافيًا للطبيعة الأصلية التي ولدنا عليها ورأوا انه نقص في الخير او غيابه. الشر من هذا المنظار طارئ وليس مبدأ في ذاته ويذهب الآباء الى التأكيد ان الإنسان في حالته الفردوسية لم يكن يعرف الآلام النفسية ولا الآلام الجسدية وان حياته كانت خالية من الحزن والخوف وما كان جسده خاضعا للفساد.


# #
#

الأصل ان الانسان خلق حرا ومالت حريته الى الشر. الحرية هبة من الرب عظيمة ويرى بعض آبائنا انها صورة الله فينا. اشعر ان بعض الناس الذين يتحدثون اليّ يقولون: «لماذا أتانا الله بالحرية». جوابي انها انتماؤنا الى النوع البشري ولولاها لانتمينا الى النوع الحيواني او الجماد. بلا حرية لسنا بمبدعين ولا مسؤولين ولا نحب ولا نسمو اي لا جمال روحيا فينا. انت تتبنى حالة الوجع لكونك تتبنى حريتك اي تتبنى ذاتك الإنسانية وفرادتك في المخلوقات وتعترف ببهاء عقلك وجمال العاطفة فيك.


الحرية لها ثمن وهو إمكان الخطأ والعثرات الى جانب العطاء المحب. نقبل الألم كما يصل الينا ولا نجعل الخالق باعثا الينا به. نقبله لنعرف كيف نتدبّره بالنعمة الإلهية النازلة لتشفيه لأن مشيئة الله نجاتنا منه. غير انه اساسي لخلاصنا ان نؤمن ان ورود الألم -خطيئة كان ام مرضا- ليس عقابا على معصية. «اجتاز الموت الى جميع الناس اذ أخطأ الجميع» (رومية 5: 12). لقد ورثنا الضعف البشري ولم نرث خطيئة.


نحن نرث ضعف آدم ولا نرث معصيته. لهذا لا نستطيع ان نقول ان كل ألم ثمرة خطيئة شخصية. «لا هذا أخطأ ولا أبواه» (يوحنا 9: 3).


الشر الشامل الذي صرنا اليه هو حب الذات الذي يدفعنا الى التماس اللذة على أنواعها. كل خطيئة هي شغف بالذات، هي ان نجعل أنفسنا مركزا للوجود بدل الإيمان بأن الله مركز الوجود. حب الذات هو انقلاب القيم فينا. واذا استغرقنا هذا نعدم رؤية النور فنهيم على وجوهنا ونلتطم بالوجود ونحزن ونقلق ونتشنج ونذوق بدايات الموت الروحي وقد نصل الى كامل الموت الروحي في الجهالة وهذا هو العذاب الأكبر. ليس وجع الجسد شيئا اذا قيس بأوجاع الروح التي تعذبها المعصية لأن المعصية في جوهرها إلحاد اذ الإلحاد هو انفصال قرارنا عن القرار الإلهي.


# #
#


عند هذا السقوط ليس من خلاص. ان السقطة الروحية هي الدمار عينه للكيان. والدمار أمامه بناء جديد اذ ليس من شيء يسمى الترميم الروحي. ليس للنفس من ترقيع. امامها القيامة فقط والقيامة بدءها اقتناع ان الموت لا تزيله الا حياة جديدة مع الاقتناع ان الذنوب عتمات تفضي الى ارتطامات لا نهاية لها وكسر للنفس لتصبح كلها شظايا نفس. وهذا ليس فقط يلغيها معناها ولكنه يدخلها في فراغ رهيب.


اما اذا أصاب الإنسان ألم جسدي وهو في حالة انهيار روحي كبير فلا مهرب له ممكنا من الوجع الا توبة كبرى. هي ليست ضمانة للشفاء أكيدة ولكنها على الأقل سلام في الوجع. السلام ممكن في الشدة الكبرى والسلام ذروة الوجود وهو اسم من اسماء الله اي انك مؤهل به لتصبح مسكنا لله ولا يؤلمك الألم، عند ذاك، في العمق. وهذا اختبار إلهي اي افتقاد من فوق.


اذا كنت طريح الفراش او على مرض مرير، طويل الأمد لا تسعَ اولا الى شيء ولكن الى البر. كل ما كان غير البرّ لهو. ومن ابتغى البر كان لا يقلقه الألم مهما اشتد لأنه أمسى مقيما في كمال البرارة ويعرف ان أوجاعه من هذا الجسد الضعيف وان بره ليس له فيه فضل اذ سينزل عليه من فوق. ويحس بأنه قد انخطف اذ يسمع من ربه كلمات لا يسوغ النطق بها.


اذا نزل البرّ علينا ينزل معه المجد. مجد مع ألم جسدي أمر حاصل عند المتقين الرب، الخائفين فقط من الخطيئة لكونها المصاب الكبير. المجد يحلّ على المنهوكة أعضاؤهم اذا كانوا في حالة الصلاة الدائمة اي اذا أدركوا مع الرب الوصال. ولا شيء بعد الوصال.


الفردوس دخلوه في هذا الوجود الحسي. ماذا بعد الفردوس للسليم وللمريض؟ المرض، اذ ذاك، ليس بشيء. في أفتك أتعابك تستطيع ان تلقى وجه ربك وتدشن بهذه الرؤية في نفسك الملكوت.

Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

توصيات بولس الأخيرة/ الأحد 22 آب 2010 / العدد 34

هكذا تنتهي الرسالة الأولى الى كورنثوس. بولس حريص على أن يتقوّى المؤمنون بالإيمان، ولا ينسى أن يوصيهم بالمحبة التي كلّمهم عليها في هذا النشيد العظيم الذي يحويه الإصحاح 13 من الرسالة. ثم يذكر أسماء معاونيه. أوّلهم استفاناس وبيته وهم باكورة الذين بشّرهم في منطقة آخائية. من أسباب أهمية هذه العائلة أنها خدمت من سمّاهم القديسين وعنى بهم فقراء أورشليم. وجمع المال لهؤلاء لعب في عمله دورًا كبيرًا.

طلبه أن يخضع المؤمنون لهؤلاء غالبًا ما يدلّ على أنّهم كانوا أصحاب مسؤولية في الكنيسة. هو ذكر القُسس والأساقفة في سفْر الأعمال. ولكنّه في رسائله الكبرى كهذه لا يتكلّم على مقامات محدودة.

بعد هذا يكرّر ذكره لاستفاناس ويذكر معه فورتوناتوس وأخائكوس. هؤلاء غالبًا الذين حملوا رسالة أهل كورنثوس الى بولس.

«تُسلّم عليكم كنائس آسيا» وبالدرجة الأولى طبعًا كنيسة أفسس العظمى وقد قضى فيها الرسول زمنًا طويلا. يضيف للتخصيص: «يُسلّم عليكم في الرب كثيرًا أَكيلا وبْرسكلة» وهي زوجته وهما عمودان في كنيسة أفسس وبيتهما يأوي الكنيسة أي الجماعة.

يُلّح بولس على إرسال السلام ويطلب أن يُسلّم بعضهم على بعض «بقبلةٍ مقدّسة». هنا يشير الى سلام في المسيح. نوع من رمز انتمائهم الى الكنيسة. بعد هذا بقليل، أي في منتصف القرن الثاني، يشهد القديس يوستينوس الفيلسوف الشهيد أن القبلة صارت جزءا من القداس الإلهي. اليوم يُمارسها الأسقف والكهنة في ما بينهم في الهيكل. لا شك أنها بقيت قرونًا عديدة تُتبادل بين المؤمنين. في الكنيسة اللاتينية استُعيض عنها بالمصافحة.

«والسلام بيدي أنا بولس». من الواضح أن بولس كان يُملي رسائله الى الكتّاب الذين كانوا يُرافقونه في تجواله. هذه الرسالة أملاها على تيموثاوس. هنا أخذ من تلميذه القلم وكتب هذه العبارة التي تدلّ على التوقيع في تلك الأزمنة. وغالبًا ما أراد أن يُعبّر لأهل كورنثوس عن شعوره الخاصّ نحوهم.

إلى هذا يفرز الرسول من الكنيسة الذين لا يُحبّون ربّنا يسوع المسيح. لا يشير الى اعتقاد منحرف عندهم وقد أشار الى انحرافات في الرسالة.

بعد «فليكن مفروزًا»، جاءت في معظم الترجمات بما فيها الأميركية العربية «ماران أَتا» الآرامية السريانية التي كتبها بولس بالحرف اليوناني وتعني «أتى الرب» أو تعني «تعال يا رب» (اللغة اليونانية لا تفصل بين الحروف، ولذا أمكنك أن تقرأها هكذا او هكذا). ربما لم يجدها المترجم الأرثوذكسي يعقوب صرّوف في المخطوطة التي اعتمدها. وينهي الرسول رسالته بقوله: «نعمةُ ربنا يسوع المسيح معكم»، ثم يقول: «محبتي مع جميعكم في المسيح يسوع». واضح بعد تعليمه العقيدة، ولا سيما في قيامة الأموات، أتى بولس على ذكر مودته الشخصية لأهل كورنثوس.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

المريض / السبت 21 آب 2010

كل مولود يولد مهيأ للعطَب. آجلا أَم عاجلا لا يبقى الإنسان سليمًا. وكلما كبر يوما يدنو من الموت. يحلم أن يعمر وقد لا يصحّ الحلم. ويحسّ في وقت مبكر نسبيًا أن هذه المنطقة او تلك من جسمه فيها هوان او خلل. هذا ضعيف الصدر وذاك ضعيف الجهاز الهضمي. ويكافح لأن هاجسه ألا يتألّم، والهاجس الكبير الموت الذي خشيه يسوع الناصريّ نفسه.


وتبقى النفس تحت وطأة هذا الهبوط. وقد يتمرّن كالرواقيين على الجبه وقد لا يستطيع. يحسّ بانهيار ما فيه. وما الدواء سوى دفع للنهاية، لنهاية هذا المركّب البيولوجي او هذا المختبر الخيمائي الذي هو الإنسان. «ما الإنسان حتى تذْكُره او ابنُ الانسان حتى تفتقده» (الرسالة الى العبرانيين 2: 6). الى الوجع، صعوبة المرض الحزن الذي هو انكفاء وجود. لا يصيب الحزن مَن مات فجأة، ولكن غير صحيح أن الإنسان يرضى بهذه المفاجأة اذا كان مُطلا على آفاق واسعة، على مشاريع يظن انه يحقّق بها نفسه. الإنسان مشدود الى المستقبلات. يظن أن له غدا وأن هذا الغد يأتيه بما يشتهيه من عمره.


تأتيه دائما نفحات وسلوة من الأصدقاء اذا أتوه وعادوه. هؤلاء إن عرفوا أن يكلّموه يجعلونه في هذه الشراكة التي تسمّى المودّة. النفس المعزّاة كثيرا ما شفت الجسد اذا أُصيب. هناك تشابُك عظيم ودقيق بين وظائف النفس ووضع الجسد حتى يُقال مثلا ان آلام الظهر نتيجة لتفاعلات نفسية بحيث إنك اذا لازمت نفسًا متوترة لا شفاء لعظمك، واذا عمق حزنك ولم تفرح تعشش آفات كثيرة فيك فيبدو جسمك تسجيلا لما في داخل أعماق الذات فيك. كل شيء يدلّ على أن النفس والجسد لا ينفصلان أبدا. ربما لذلك آثر المسيح مرة أن يقول لمشلول أُتي به اليه: «مغفورة لك خطاياك» قبل أن يخاطب جسده، ولم يقل الكتاب ان الشلل كان نتيجة لخطيئة في هذا المريض إنما قال بوضوح ان تنقية المسيح لروح المريض كانت أهم من تقويم صحته واستعادة عافيته.


لماذا يصاب هذا هكذا وذاك بصورة أخرى؟ يقول لنا الأطباء ان الكثير الكثير من تدهور الجسم موروث. لذلك قبل أن يعالجوك للسكري يسألونك إن كان انتقل اليك من أحد والديك.


ومعروف اليوم أنّ العلماء يستطيعون أن يعرفوا عند فحص الجنين أنه مهيأ لهذه العلّة او تلك ما يطرح أسئلة معقّدة في نطاق أخلاقيات الحياة عن شرعيّة التدخّل في الجنين. مهما يكن من أمر هذه الشريعة في هذا البلد او ذاك يبدو أن النوع البشري موصول بين جيل وجيل أي ان الإنسانية واحدة صعودا ونزولا وينصح بعدم الزيجات بين الأقرباء خوفا من توارث مؤذٍ.


# #
#


كانت العناية بالصحة اذًا واجبا خلقيا لأنه إن كان الانتحار جريمة وفق قول الله: «لا تقتل» يكون إهمال العافية قتلا بطيئا للذات ولا يسوغ إهمالها بدعوى تركها للرعاية الإلهية. وقد كتب لهذا القديس باسيليوس الكبير للرهبان أنه لا يحقّ لهم أن يهملوا دعوة الأطباء فالجسم شبيه بنبتة اذا زرعتها تسقيها ولا تكلّف ربك فيها تكليفا. هذا لا يستتبع أن تصرّ على العلاج في الحالات المستعصية جدا. دلّتني خبرة تفرّدي بالعلاج مرة أنه لأبسط وعكة عليك باستدعاء طبيبك وهو يشير عليك بالأخصائيين.


هذا لا يمنع -إن كنت مؤمنا- أن تلتمس رعاية الله لك. وهو وحده يتدبّر أمرك بلا معالج. ولكنك لست بديل ربك لتقرير ذلك. الجسم مجموعة أسرار ليس لك أن تسبر غورها، فالعلم شيء رتّبه الله في خلقه. «إن الطب آتٍ من عند العليّ وقد أُفرغت عليه جوائز الملوك… الرب خلق الأدوية من الأرض… إن العليّ ألهم الناس العلم لكي يمجَّد في عجائبه… اجعل موضعا للطبيب فإن الرب خلقه ولا يفارقك فانك تحتاج اليه. إن للأطباء وقتا فيه النجح على أيديهم» (يشوع بن سيراخ 38: 2-13).


# #
#

المريض المؤمن يصلّي ويدعو لأن الرغبة في الحياة أمر إلهيّ والكنيسة عندنا تصلّي من أجله. «أمريض أحد منكم فليدعُ شيوخ الكنيسة فيصلّوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب. وصلاة الإيمان تشفي المريض والرب يُقيمه وإن كان قد فعل خطيئة تُغفر له» (يعقوب 5: 14-15). وهذه الصلاة لها رتبة في التراث الشرقي والتراث الغربي تُدعى مسحة الزيت ونمارسها نحن في وسط الجماعة في الأسبوع العظيم. هذا لا يمنع أيّ علماني إن عاد مريضًا أن يصليّ من أجله ويضمّه هكذا الى رحمة الرب. كذلك في القداس الإلهي يذكر الكاهن المرضى دائمًا. الضعيف البنية إن كنت اليه وصلّيت كثيرا ما تشدّه الى التوبة. ولا تقل في نفسك داؤه مستعصٍ. ليس يعصى على الله مرض.


لا تُرجئ عيادة مريض من معارفك لأنك قد لا تجده حيّا بعد ذلك. تشدّه التعزية دائما. عندما قال يسوع: «كنتُ مريضا فعُدتموني» وحّد نفسه بالضعيف. جعل نفسه كأنه هذا المريض.


اذكر مريضك كلّ ليلة تكن حامله في حضرة الرب ولا تقل في نفسك هذا ينتهي. هذا أمر تجهله إذ ليس من طبيب جدّي يؤكّد أبدا أن هذا الإنسان يبقى له أيام معدودات ليموت. هذا سرّ الله فيه. لا يكفيه أن تزوره مرة لتُبيّن له قرباك. زره مرات إن استطعت. هذا يشدّده. هو في حاجة اليك. «ليس من مرض، هناك مرضى«. لا تكذب على صديق مريض ملاطفًا إيّاه بتعزيات غير صحيحة كقولك: »ليس معك شيء». لا تجعل نفسك طبيبًا. طبّب خاطره فقط بكلمات الإيمان. قد يقتنع بها ولو بدا لك في الماضي ضعيف الايمان. فالمرض حالة يعطي فيها الرب نفحات إيمان، وهذا يشفي نفسه، إن لم يشفِ جسده. لازمه إن تيسّر لك الوقت او ابعثْ برفقائك المؤمنين إن كانوا يعرفونه. هذا خير له ولهم. هذا يجعل في نفوسهم حنانًا، وربما أَدخل الرجاء الى قلب العليل فيفارق ونفسه أَضحت سليمة.


المرضى إخوتنا الأوّلون وأهمّهم المرضى الفقراء. إن كانوا في حاجة الى دفع أتعاب الطبيب، ابذلْ ما استطعت في سبيلهم دون أن يعلموا لأن الرب يكون قد استخدمك لتقوية سلامتهم. من المرضى الذين تعينهم تأتي سلامتك انت وينزل عليك الغفران ويرضى ربك عنك.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

مريم / السبت 14 آب 2010

أنّى لي أن أدنو الى سرّ مريم في عيد رقادها غدا وهذه لا يتحدّث عنها الا المطهّرون وانا عي امام بهائها مع أنها أخذتني أخذًا فريدًا قبل بضع من سنين. إن اجترأتُ على الكلام يسحرني صمتها وهي الماكثة في صمت مذهل لأنها كانت تؤثر أن «تحفظ كلام الله في قلبها» اي أن تنتظر إلهها يُكلّمها حتى تتكوّن هي بالكلمة.

من المعروف أن العهد الجديد لم يذكر موتها لأن الإنجيل ليس سيرة مريم، والقليل الذي ذكره عنها له علاقة بسيرة السيد، والإنجيليون همّهم أن يكشفوا قوة المسيح وجلاله. لم يظهر حديث عن هذا الموت الذي نسمّيه في الشرق رقادًا اذ المؤمن لا يفنى. لم يظهر حديث عنه قبل القرن الخامس وبدا هذا في كنائس الشرق عيدًا اي تقوى في أناشيد وتلاوات غير مسكوبة في عقيدة. مريم لها أثر قبر في القدس الى يومنا في الجثسمانية في حمى دير راهبات روسيات. بعض الآباء على رأسهم يوحنا الدمشقي كتبوا عمّا حدث بعد موتها فتكلّموا عن انتقال جسدها الى السماء. تحديد الانتقال الجسديّ جاء فقط عند الكنيسة الكاثوليكية في اواسط القرن العشرين. الأرثوذكسيون متروكون لأناشيدهم التي تبدو قائلة بالانتقال الجسدي. هذا نسمّيه في اللاهوت رأيا ولا نسمّيه عقيدة.

ولكن تفحّص هذه النصوص يدلّ على أن مريم ساكنة المجد الإلهي بحيث تكون غير خاضعة للدينونة، وتراها الكنيسة البيزنطية أكرم من الملائكة، وقد يعني هذا فيما أرى أنها تتمتع بكمال الرؤية الإلهية اي بكمال الغبطة التي ليست بعد من حصّة القديسين. ربما جاز لي أن أَستند في هذا على ما قالته لنسيبتها أليصابات: «ها منذ الآن تُطوّبني جميع الأجيال». هذا أقرأه قراءة بسيطة على أنه يعني تقديرك لها تقديرا عظيما ولكنك تعترف أنها نالت الطوبى التي لا يحظى عليها الا المقرّبون من العرش الإلهي. وهذا في فهمي يعني أنك تخاطبها وتقبل أن يجعل الله صلة بينك وبينها تتجاوز التقدير العقلي الى حالة حبّ مريميّ لا أعرف حتى الآن كل جماله وكأنها تحملني كما حملت المسيح. واذا أَكرمتني بهذا أُصبح رائيا لوجهها.

# #

#

سأتوقف عند ثلاثة أحداث. أولهما البشارة كما وردت عند لوقا. الفتاة كانت عذراء ومخطوبة ليوسف اي انها كانت «مزوّجة» شرعا ليوسف ولم تكن بينهما مُساكنة. يأتيها جبرائيل ويبشّرها بأنها ستحمل وتلد ابنا ويطلب اليها أن تسمّيه يسوع. فقالت له مريم: «كيف يكون هذا ولا أَعرف رجلا». ماذا أرادت بهذا الكلام وهي متزوجة شرعًا اي مقبلة على زواج فعليّ بالمساكنة؟

زواج بلا اتصال لا يعني شيئًا عند اليهود وهم لا يُمارسونه. جوابها لا يمكن أن يعني إلا شيئا واحدا أنها فهمت أن الملاك يقول لها بأنها ستحمل فورا قبل المساكنة. فهم الملاك أنها فهمت هكذا. لذلك قال لها: «إن الروح القدس يحلّ عليكِ وقدرة العليّ تظلّك» الى آخر الكلام. كشف لها جبرائيل أنها ستكون مطرح معجزة ليس لها سابق ولن يكون.

عند ذاك، قالت: «أنا أَمَةٌ للرب، فليكن لي حسب قولك» أي اني أتقبّل هذه المعجزة لإيماني بالله. كانت هذه طاعة لم يكن للعقل فيها دور. هذا إيمان غير مبنيّ على تأمل لاهوتي ولا على آية من العهد القديم. كان هذا ايمانا مطلقًا.

الحادثة الثانية الهامّة في حياة مريم هي عرس قانا الجليل الذي كانت فيه أُمّ يسوع. ولما نفدت الخمر قالت ليسوع: «ليس عندهم خمر». فقال لها يسوع: «ما لي ولكِ يا امرأة». رأى يوحنا الذهبي الفم أن هذا القول يتضمّن لومًا للسيدة العذراء. أقرأ هذا النص كبعض من قارئيه أن وجود الخمر وغيابهما أمر لا يعنيني. لماذا انتِ مهتمّة بأمر تافه؟ لم ترفض مريم قوله ولكنها آمنت أنه لن يترك المدعوّين الى العرس بلا فرح. لهذا قالت للخدّام: «مهما قال لكم فافعلوه». ثم كانت أُعجوبة تحويل الماء الى خمر.

تجاوز الكاتب الحديث عن الحوار الذي جرى بين يسوع وأمه. كان همّه أن يقول: »هذه أُولى آيات يسوع أتى بها في قانا الجليل فآمنَ به تلاميذه«. الأمر أعظم من أن نقول ان السيد قبل أُمنية والدته. ما كان همّ الإنجيلي أن يُظهر أهميّة هذه المرأة المتواضعة. كان هاجسه أن يكشف مجد يسوع وأن يربط بين المعجزة والعشاء السري. قانا كانت محطّة أولى في ذهن يوحنا الى آخر الطريق الذي هو موت المخلّص بعد مناولة التلاميذ كأس الخلاص. اختفت مريم لإظهار مجد يسوع. إنها دائما متسربلة بالخفر ليتمجّد ابنها. هذا دور كبير.

# #

#

ما يختم المريمية في الإنجيل هو وجود مريم والى جانبها التلميذ الحبيب عند صليب يسوع. «فرأى يسوع انه التلميذ الحبيب فقال لأمه: «ايتها المرأة هذا ابنكِ» ثم قال للتلميذ: «هذه أُمك» ». هذا تعليم وليس مجرد حادثة. يقول التراث ان التلميذ الحبيب الوارد ذكره هنا في إنجيل يوحنا هو يوحنا نفسه. ولكنه خفرا او تواضعًا او بأسلوب خفاء أدبي لم يذكر اسمه. قراءتي تتجاوز هذا لأتمسّك بالنص لأقول أن يسوع لم يكتفِ بأن يجعل مريم أُمّا ليوحنا. هذا صار ولكنه دون عظمة إنجيل يوحنا وقوته. لقد جعل يسوع مريم أُمّا لكل تلميذ حبيب.

ماذا تعني هذه الأمومة؟ أحسب أننا لن ندرك ذلك إلا اذا جعلنا هذه العظيمة حاضنة لكل قلب اشتهى أن يرتمي على حضن المسيح. تكون هي الى هذا القلب بحنان لا نعرف كل مداه قبل أن نُعاينها بعد القيامة لصيقة العرش الإلهي.

لذلك كله، نحن نُعيّد غدًا لرقادها العجيب.

Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

معيشة الإكليروس/ الأحد 8 آب 2010 / العدد 32

في رسالة بولس المنشورة اليوم: «إنْ كنّا نحن قد زرعنا لكم الروحيّات، أفيكون عظيما أن نحصد منكم الجسديّات». معنى ذلك أن الرسل لهم أن يعيشوا من تبرّعات المؤمنين وتاليًا خلفاء الرسل. ليس معنى ذلك أن الكاهن يطلب حقا له. فليس بين الراعي والرعية علاقة حقوق. إنها علاقة محبة. في البدايات كان الكاهن يعيش من مهنةٍ له بدليل أن أحد آبائنا وضع لائحة بالمهن الممنوعة على الإكليركيّ (خمّار، سائق عربة، تاجر…). والبعض في بلادنا كانوا فلاحين، وبعض هم معلّمون في المدارس اليوم. وقلّة عزيزة قد تكفيها موارد خاصة بها.

غير أن الكنيسة بسبب تكاثر المؤمنين رأت أن ينحصر الكاهن بعمله الرعائي، ودلّتنا الخبرة أن الكاهن الغيور الورع نشيط. فإلى جانب الخدم الإلهية الكثيرة عندنا، يحتاج أبناء رعيته أن يلازمهم كل الوقت اذ يطلبونه في أيّ وقت (معمودية طارئة، جنازة، زيارات عائلية).

الفكرة البسيطة التي عرضها بولس أن مَن أَعطاك حياةً روحيّة طوال نهاره وفي قسم من ليله ليس عنده متّسع من الوقت ليقوم بنشاط دنيوي. أنت تتكفّل اذًا كل معيشته ومعيشة عائلته.

ورأت الكنيسة في القرن الرابع أنه يجب أن تُجمّد ما تملك لتستثمره، وهذا هو الوقف لإعالة الفقراء والإكليروس. ثم توسّعنا في بعض الأبرشيات بالإنفاق (مدارس أولاد الكهنة، تطبيبهم مع عائلاتهم). غير أن الوقف ليس عظيما جدا في بعض الأبرشيات بحيث إن دخْله لا يكفي. هناك قرى كثيرة لا وقف فيها. وصينية يوم الأحد لا تكفي لأن المؤمنين الأرثوذكسيين في أغنى كنيسة لا يتجاوزون 20% في أحسن حال.

عليك إذًا أن تدفع مباشرة للكاهن بوتيرةٍ أنت تُحدّدها دون أن تنتظر مناسبة صلاة. تكون مثلا قد عمّدت كل أولادك وربما توفّي والداك. من هنا أن بعض الرعايا وضعت لنفسها نظام اشتراك عائليّ تُحدّده كل عائلة كما تشاء. واذا غاب هذا النظام تقنع ذاتك بأن تعطي الكاهن ما تشاء في الشهر أو السنة، طالبا فقط رضا الله عليك وغفران خطاياك بالكرَم.

وإذا تَوغّل الكاهن في معرفة اللاهوت، يزداد علمًا بالعقيدة ويُربّي نفسك على محبة المخلّص. الكاهن المثقّف قليلا او كثيرا يشتري كتبا ليتعلّم ويُعلّم. الى هذا هل فكّرت ببنيه وبناته، بعلومهم في الثانوية والجامعة؟ لماذا يجب أن يبقى ابنُه جاهلا أَم شبه جاهل؟ لماذا لا تُقدّم له كل سبل الثقافة؟ لماذا لا يسافر ليزداد اطّلاعا على ثقافات الدنيا؟ لماذا لا يشترك في مؤتمر لاهوتيّ إذا دُعي اليه؟ هذه أمور تتطلّب كلها أموالا.

لا ينبغي أن يعيش في ترف يؤذيه. ولا ينبغي أن يعيش في فقر مدقع يؤذيه. هذا الذي يطلب لك أن «تقضي بقية أيام حياتك بسلام وتوبة» ألا يستحقّ منك دعما. ما مبلغ هذا الدعم؟ عطاؤك المادي ينشئ بينك وبين هذا الرجل تعاطفا يُقوّي شعور كل منكما. هذا جزء من الحياة الروحية.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

الغفران / السبت 7 آب 2010

فعل غفر، يغفر يملأ القرآن. الله هو الغفور او الغفّار. والانسان يستغفر. اذ ذاك، ينال المغفرة. وفي مواضع كثيرة الله غفور رحيم. استعمال الكلمتين معًا يدلّني على أنّ المغفرة الالهية ثمرة الرحمة عند الرب. المسلم منجذب بشدّة الى كلمة الرحيم الواردة في البسملة.

في الآية 17 من سورة التغابن يقيم الكتاب رباطًا بين مغفرة الله للانسان وغفران الانسان للآخر بقوله: «وان تعفوا وتصفحوا وتغفروا فان الله غفور رحيم». هذا قريب جدا من انجيل لوقا: «كونوا رحماء كما ان أباكم ايضا رحيم» (6: 16).

غير ان اله القرآن يبقى على حريته الكاملة «فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء» (البقرة 384). وهناك معصية لا مغفرة بعدها وهي الشرك وفق قوله: «ان الله لا يغفر ان يُشرَك به» (النساء، 48).

«فيغفر لمن يشاء» يقول محمد جواد مغنية صاحب التفسير المبين ان ليس لأحد ان ييأس من عفو الله فلعلّه مغفور له. «ويعذب من يشاء» ولا يأس من غضب الله، فلعلّه مغضوب عليه. اما مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي في قول (يغفر لمن يشاء) يعني انه يغفر لمن يشاء منهم رحمة وفضلا وفي (من يعذب من يشاء) يقول: ممن يستحق العقاب اذا صار الاثم من افعال القلب. عند الطبرسي (يغفر لمن يشاء) تعود المشيئة فيه الى الانسان لا الى الله ليرفع عن الله فكرة التعسف كما اظن ذلك «ان المحاسبة انما تقع على ما كسبته القلوب إما في نفسها وإما عن طريق الجوارح» كما يؤكد السيد محمد حسين الطباطبائي. الغفران الالهي او عدمه مرتبط اذًا بموقف الانسان من الله.

لا بد من العودة الى لسان العرب لنعرف تحديد المغفرة او الغفران. فالغفور (اي الله) هو الساتر لذنوب عبيده المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم. وفي هذا يقول داود النبي: «طوبى لمن غفرت ذنوبه وسترت خطاياه» (مزمور 32: 1). يعني ذلك انه تغاضى عن اقتراف الذنب لأنك صرت قريبا اليه بالتوبة، لأنك عدت اليه. فاذا كنت لديه لا يحسب ربك عليك خطيئة. هل يحفظها الله في ذاكرته؟ الله يعلم ما ارتكبت ولا يقع عليه النسيان ولكنه -اذا صح التعبير- يحفظك في قلبه نقيًا وكأن شيئًا لم يكن.


#             #
#

في الكتاب المقدس في عهديه الله هو الغافر. غير ان العهد الجديد بسبب من وحدة المسيح والله بنسب المغفرة الى المسيح ايضا (راجع كولوسي 3: 13). مثلها قول يسوع لمريض أُتي به اليه طلبا للشفاء: «مغفورة لك خطاياك» (متى 9: 2) في حين انه لم يسبق لنبي في اسرائيل انه غفر خطايا. هذا كلام لا لبس فيه اذ فهم الكتبة انه ينسب الى نفسه القدرة على الغفران وأكد هو ظنّهم اذ قال: «ان لابن الانسان سلطانّا على الأرض أن يغفر الخطايا» (متى 9: 6). قول المسيح هذا يجعل قدرته من قدرة الله نفسه ويبقى مضمون الغفران واحدًا وهو تجاوز الله للخطيئة او الاثم.

في العهد القديم فكرة خاصة لا نجد لها أثرًا في العهد الجديد واضحًا وهو ان الله يغفر اثم شعبه (مثلا في المزمور 85: 2)). هذا ناتج في تصوّري عن فكرة «شعب الله» الذي يقابله الله شعبّا وهو يقابل الله ويتكوّن شعبًا باختيار الله ايّاه في حين أنّ العهد الجديد لا يقول انّ الله يغفر للكنيسة. ربما لأن الكنيسة قيل عنها انها عروس المسيح ورآها الوحي بامتدادها الأخروي. ربما كان هذا ايضًا ناتجًا عن رؤية الرب للانسان في شخصيته المستقلة المسؤولة.

أجل سبق لحزقيال أنّه تكّلم على المسؤولية الأخلاقيّة للانسان الفرد مستقلاً عن القبيلة او الشعب ولكن ما من شك أنّ المسيحيّة كشفت أهميّة الشخص بصورة لم يسبق لها مثيل لا في اسرائيل ولا في الحضارة اليونانية.

على هذا الغفران العميم الذي هو من صفات الله يقول الكتاب في سفر الملوك الثاني (24: 40) ان الرب لم يشأ ان يغفر لمنسى «لأجل الدم البريء الذي سفكه لأنه ملأ أورشليم دما بريئا». هذا الحديث عن جسامة القتل وليس حديثًا مطلقًا، نهائيا عن غضب الله.

الى هذا يتحدّث الانجيل عن غفران الانسان للانسان. في الصلاة الربيّة في الترجمة الأرثوذكسيّة: «واترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمن لنا عليه» (متى 6: 12). توضحها آية لاحقة: «إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي». غفران الله لكم مشروط بمحبّتكم لمَن أساء اليكم. هذا لا يعني أنّ للانسان قدرة على الغفران بمعنى محو خطيئة الآخر. الخطيئة في أنّه لم يسامح واذ ذاك، لا يستطيع قلبه تقبّل الغفران الالهي لأنّ من أغلق قلبه عن الانسان يغلقه بالضرورة عن الله.

#                            #
#

انها طمأنينة للانسان ان يعرف محبّة الله له ولا سيما في الغفران. ماذا يحرّك الله الى هذا؟ أبوّته. المسيحيّون واعون أنّهم أبناء الله وأنّ الآخرين هم كذلك وإن لم يعرفوا البنوّة لله لفظا او تعليما.

كل هذا لا يعني انّنا نصرّ على الخطيئة متّكلين على رحمة الله. رحمة الله  شأنه وشأننا نحن التوبة. الخطيئة المتكرّرة تقسي القلب وقد تجعلنا بعيدين عن استرحام الله. الاسترحام يعني حوارًا والتجاءً الى الله. والرحمة من طول أناته. انت لا يحق لك ان ترمي نفسك على طول الأناة هذه. تقيم نفسك في التوبة ثم تأتي المغفرة وتنشأ بينك وبين ربّك مودّة وتستطيب بعد هذا حلاوة الرب.

«ليس احد يحيا ولا يخطئ». هذا تعليم الكتاب ونستعمل هذا القول في الجنازة الأرثوذكسيّة. هذا وضع وجد القديسون أنفسهم فيه. ولكنهم عرفوا أنفسهم في مقام المغفرة واللطف الالهيّ. عرفوا أنفسهم محضونين في الروح القدس الذي يطهّرنا من كل دنس وينقلنا الى ملكوت المحبة الذي يرى بولس انه ملكوت المسيح. هذا هو العشق الالهي الذي جاء الكلام كثيرًا عنه في تراثنا وعلى لسان المتصوّفين المسلمين. لعلّ صفة المغفرة في الله من أهم الرؤى التي تجمع المسيحيين والمسلمين وتقيمهم في مرتبة المحبوبيّة معا.

Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

أعجوبة وإيمان/ الأحد أول آب 2010 / العدد 31

يكثر الحديث في عجائب الأناجيل الإزائية (الثلاثة الأولى) عن علاقة المرض (خرس، صمم) بالشيطان. طرد يسوع هؤلاء من بعض المرضى. في الأعجوبة التي يدور حولها إنجيل اليوم، عندنا وصف للخلل الصحيّ عند الولد او الشاب «يقع كثيرًا في النار وكثيرًا في الماء». هذا الرجل قال ليسوع «يا رب ارحم ابني». انه اعتَبر الشفاء رحمة من السيّد. كان قد سمع من الناس أن يسوع الناصريّ صانع العجائب وأن الأعجوبة عنده كان الناس يُحسّونها على أنها حنان. كذلك كان التعليم عند المسيح تعبيرا عن حنان.

اهتمام متّى الواضح الحديث عن الشفاء المرتبط بالإيمان. أبو الصبيّ قدّمه للرسل «فلم يستطيعوا أن يشفوه». عنهم يقول السيد: «أيها الجيل غيرُ المؤمن الأعوج». متّى يعُدّ نفسه من هذا الجيل الأعوج. لا يبدو في الأناجيل الأربعة أن التلاميذ كانوا قادرين على شيء. أعمال الرسل فقط بيّنت قدرة الرسل على صُنْع العجائب. كانوا قد تقوّوا بالخلاص الذي تمّ على الصليب بحلول الروح القدس عليهم.

في المعمودية، في المرحلة السابقة للتغطيس، صلواتٌ تُدعى استقسامات وُضعت في الكنيسة الأولى للبالغين من أصل وثنيّ «المستعدّين للاستنارة». هذه لا تتضمّن اعتقادا بأن هؤلاء الموعوظين مسكونون من أرواح شريرة. الفكرة هي طرد روح الشر مِن عقل الموعوظ.

عند سؤال التلاميذ يسوع: لماذا لم نستطع أن نشفي الغلام؟ قال لهم: لعدم إيمانكم. بعد هذا قال هذا القول الشهير: «لو كان لكم إيمان مثل حبة الخردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقلْ فينتقل». الجبل هنا يعني الصعوبة العظيمة التي لا يتجاوزها العقل ولكن تتجاوزها القدرة التي يضعها فينا الله بالإيمان.

لا يتعذّر على المؤمن شيء. فالإيمان أمنٌ ومأمنٌ واطمئنانٌ الى الرب وعدمُ خوف. أوضح السيد هذا بقوله إن هذا الجنس (يعني الشيطان) لا يخرج إلا بالصلاة والصوم. ما معنى هذا الكلام؟ الصلاة هي سُكنى الروح القدس فيك. لا مجال بها إلا أن تكون تائبًا أي طاردًا منك كل فكر شرير. عندئذ الله كلّه فيك. غدوتَ إنسانًا إلهيًا لك قدرة الله نفسه على الأشياء، على الأمراض، على الخطيئة. الصوم كذلك هو تفريغ النفس من كل ما أتاها من الخطيئة وجعل الصلاة غذاءها. تفريغ المعدة من الطعام صورةٌ فقط عن تحرير النفس مِن حُبّها للشهوات.

بعد هذا كانوا يتردّدون في الجليل، في القرى التي جاء منها كلٌ من الاثني عشر. حول بحيرة طبرية هناك تمّت معظمُ عجائب السيد والكثير من كلامه. في هذه البقعة الصغيرة من العالم وفي بيئة كَثُر فيها الأميّون انكشفتْ أعظم حقائق الكون. هناك تنبأ يسوع عن موته وعن قيامته، ومنهما كوّننا الله ورمانا في العالم ومعنا الإنجيل وحده نحيا به ونُحيي البشر.

Continue reading