Monthly Archives

September 2008

2008, مقالات, نشرة رعيتي

سرّ الموت/ الأحد 28 أيلول 2008 / العدد 39

لماذا يموت من له عشرون من العمر وآخر له تسعون وما فوق؟ لست أعلم، الله يعلم ثم ما تحديد الموت علميا؟ كل ما نعرفه ان هذا الجسد مختبر خيميائي اذا اختلت وظائفه بحيث لا تتكامل تذهب عن الإنسان روحه، واذا مات الدماغ فلا رجوع الى الحياة.

السؤال الذي يواجه المؤمن هو ان الله يميتنا كما أنّ الله يحيينا. هل يقرّر الرب او قرّر منذ الأزل ان عمرنا محدود. هل هذا مكتوب عنده ام ترك جسدنا للنواميس الطبيعيّة بعد ان اوجد هذه النواميس ليرعى بها الأرض من نبات وحيوان وبشر؟ إعتقادي ان الإنسان لا يخرج عن قوانين الطبيعة، ويموت متى اختلّ الجسم وتعطّلت وظائفه، وان الله يتلقاه من موت الى رحمته. فاذا مات توفاه أي استعاد وديعته فيه وأقامه في نطاق الرحمة حتى يوقظ جسده في اليوم الأخير ويستعاد كيانه نورانيّا في ملكوت المحبّة.

المطلوب عند الله ان نكون مستعدين لاقتبال هذا الحدث وألّا نرقد روحيا رقدة الموت. نباهة النفس هي التي تـجعلنا قادريـن عى استقبال هذا الحـدث المريع لكل إنسان. ما من شك ان هناك ناسا أقوياء بالروح القدس لا يرتعدون عند الصدمة الأخيرة لوجودنا الحي. آباؤنا النساك حضّونا على ذكر الموت كل يوم لنبقى على الورع: «احفظنا من رقاد الخطيئة المدلهمّ». هذا ما نقوله في صلاة النوم ولنا ان نردّد كصدى لكلام المخلّص على الصليب: «يا رب في يديك أستودع روحي» كي لا نؤخذ ونحن غافلون.

ما من شك أننا نلتقي الرب فور وداعنا هذه الدنيا. ليس في كنيستنا تعليم عن دينونة خاصة فوريّة. فاذا كانت الدينونة هي المواجهة، ما من شك ان لنا مواجهة للرب عندما نتخلّص من هذا الجسد. هذه المواجهة رهيبة جدا اذا قرأنا كلام بولس: «هائل هو الوقوع بين يديّ الله الحيّ» (عبرانيين 10: 31).

ليس أحد منّا قادرا ألاّ يرتجف اذا فكّر بأن المثول أمام الحضرة الإلهيّة أمر خطير جدًا لأن أحدًا لا يعرف كل خطاياه او عمق خطاياه. ولكون الله قادرًا أن يقرأ أعمالنا كلها وأفكارنا كلها ونيّاتنا كلّها، فمن يحتمل سخط غضبه. مَن يستطيع أن يقف بلا ارتجاف دائم.

«أَبعِدْ عنى هذه الكأس» (متى 26: 39) كلام لنا ايضا كما كان للمخلّص في الجثسمانية. ليس من مصالحة ممكنة بيننا وبين الموت لأن الكتاب يسمّي الموت عدوًًا بقوله: «آخر عدو يُبطَل هو الموت» (1كورنثوس 15: 26). وقيامة المخلّص لم تجعله صديقًا لأن «أجرة الخطيئة هي موت» (رومية 6: 23). القيامة وعدتنا بأننا سنُنقَذ منه في اليوم الأخير واننا نتجلّى ويبقى الموت كارثة مريعة الى ان ينقذنا الله برحمته.

اتكالنا على الرحمة لا ينبغي ان يبقينا في الكسل الروحي. فالرسول يطلب الينا ان نجاهد حتى الدم ليكون تعاملنا مع الله جديًا، لنستحق ان نصير أبناءه، لتفرح الملائكة بلقائنا متسربلين حلّة النور. ولكن البرّ الذي اكتسبناه لا يشكّل تذكرة دخول الى السماء. التذكرة تأتي من الداخل وهي الرحمة.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

الموارنة / السبت 27 أيلول 2008

ليس في الدنيا حياد. لأن الدنيا قراءة للسياسة والسياسة، منذ أفلاطون، قراءة للإنسان الحر. العبد عنده خارج المدينة. بعده اي في الأزمنة القريبة أدخلنا المرأة الى المدينة وربما ساعدتها اذا ادخلتها الى مجلس الأمة ولطفت رجاله. ويَدخل القوم المجلس أفواجا وأديانا، في ظلال الأرز الذي الله ناصبه كما يقول المزمور. وتعلم في كل ذلك انك لا تستطيع التنطح الى الألوهة. هذا ما فعله آدم فعوقِب في الخروج من الفردوس. والمبتغى العودة الى الفردوس ومنه السياسة الحكيمة.

الرشد السياسي بدا انه نزل على المسلمين والعقل نزل على الموحّدين الدروز ومرشدهم الروحي يدعى شيخ العقل. وحدهم الزعماء الموارنة الذين يتأبّطون في ظهورهم الكلامي بقية المسيحيّين في حاجة الى أن يؤمنوا بجوهر ديانتهم او بكل ديانتهم أعني المحبة. ولكنّّم في حالة انتظار حتى يأتي الترياق من العراق.

لماذا سميت الزعماء الموارنة؟ لأن دنيانا الصغيرة لبنان قائمة على الزعامات او لأن المسيحيين الآخرين ليس فيهم زعماء او لا يريدون هذا النمط من القيادة او لا يستطيعون ولأن القليل اذا عيرته بقلّته او لم تعيّره مضطر على الإنزواء في بلد التوازنات المستحيلة او قد يجد نفسه على غير صعيد ولكن هذا لا يرى في الطاحون السياسي الذي «اسمع فيه جعجعة ولا أرى طحينا».

لنقل اذًا الموارنة لأنهم الوحيدون في الميدان حتى تأتي الإنتخابات بالموارنة الجدد. حرجي في هذه الأسطر اني أسقف أرثوذكسي واني لا ألقّن درسا خارج نطاقي ما يضطرني الى كلام متواضع ولست مدعوا بحكم هويّتي ان التزم احدًا او ألازم أحدا من الإخوة الموارنة وان ضممتهم جميعا الى صدري بحكم كأس الخلاص الواحدة التي نتناولها في القداس. انا تعلّمت على مقاعد اللاهوت انك ان اكلت جسد المسيح وشربت دمه فلكي تأخذهما معك الى خارج الكنيسة اي الى سياسة المدينة. اللاهوت الكاثوليكي يعلّم انه يجوز لك في الدنيا ان تختلف مع اخيك المسيحي لأن للسياسة قواعدها وللكنيسة قواعدها. وهناك طرق للاختلاف ولكن ليس هناك طريق للخلاف ولا للإنشقاق لأنك ان دخلت هذا تكون في الكنيسة قد شربت دينونة لك فيما كنت تحسب انك شربت دم المخلّص. الحاجة اذًا الى منطق، الى ان يستوي الجميع على آرائك الحب.

هناك عبارة تتكرّر «المسيحيون ولا سيّما الموارنة». لماذا «لا سيّما» والموارنة وحدهم يصنعون السياسة ويقولون انها سياسة للمسيحيين جميعا. يخطئون وحدهم لأنهم وحدهم في المواجهة ويوقعون المسيحيين الآخرين في الجب الذي حفره الماروني للماروني ويتألّم الجميع ويضطَهدون في أزمنة الفواجع حين لم يخطئ الجميع.
# #
#
كتب مرة القديس يوحنا الدمشقي منذ ألف ومئتي سنة تقريبا في المجال اللاهوتي «لانمورنن» ولكنه كتب باللغة اليونانيّة التي ألصقت بالأرثوذكسيين. اما في المجال السياسي بعد انقضاء كل هذا الزمان فالمارونية السياسيّة وحدها قائمة ويقع على قادة الكنيسة المارونية ومؤمنيها ان يصحّحوها لأن تجربة الحرب بيّنت انها باطلة وانها أسهمت في اندحار المسيحيين وعلى تهميشهم فالمسيحيون قاسوا جميعا نتائج الغلطة التي يرتكبونها. وحان حين التوبة والاستغفار الصادق وهما وحدهما ينقذان الموارنة وفي الإنقاذ نحن واحد وما كنا واحدا في الغلط.

اذًا «تعالوا الى كلمة سواء» وعندنا نحن اتباع الناصري هي كلمة محبة اي كلمة التلاقي في الحياة الوطنيّة. انا كتبت غير مرّْة اني لا احب التكتل المسيحي لأنه يناقض التكتل الوطني. في الشأن الكنسي الوضع آخر حيث كل المسيحيين واحد. اما في امر دنياكم فالمسلمون والمسيحيون واحد كما قال جبران تويني. ولكن بعد التفسّخ العميم بتنا مضطرين الى تلاقي الموارنة بعضهم الى بعض وفي المبدأ ليس لأحد ان يعلّمهم درسا في المحبة ولكن في الواقع أشكر الله انه جمع السنة والشيعة كما يبدو وجمع الموحّدين الدروز ويبقى ان يجتمع اهل المسيح في هذا العالم المجتزئ لنتساوى في الإخاء الوطني.

ما من شك عندي ان الشعب الماروني الطيب يريد الخلاص في الاتحاد وان يصبح زعماؤه الحاليون دعاة الاتحاد وهذا ليس إزاء المجموعات الأخرى ولكن تأكيدًا لمحبة الماروني للماروني ومحبة الماروني للمسيحي الآخر على طريق المصالحة التي تتضمّن المصارحة بين اللبنانيين جميعا. متى يصيرون واحدا في الوطن كما هم واحد في المسيح؟

هذه دعوة انسان متألّم من الفرقة. فهذا بلد غير معقول بلا موارنته لا في نشأته ولا في آتيه. متــى يعقل الموارنة هذا بلا افتخار ولكن بروح الخدمة التي دعوا اليها ليكونوا مع الجميع بلدا واحدا؟

رجوعا الى الزعامات وهي لا تبدو كثيرة. نريد بينها تلاقيا كبيرا في قواسم مشتركة. انا لا افهم الكثير في السياسة أولست منخرطًا فيها. ان انكفاء الزعامات في المارونية عن التوحد المعقول يؤذن بخرابها وخرابنا جميعا. التضحيات مطلوبة ولست أقول بلا فكر ولا نقاش. هناك تلاحم بالقلب يؤتي التلاحم بالعقل. هذا ما يقوله اللاهوت الأرثوذكسي الذي أجيء منه. فالقلب المستنير يسقط نوره على العقل حتى يتلاحما. لا يفتكرنّ أحد بالاستغناء عن الموارنة. انهم أركان ولكن لا يفتكرن الموارنة بالاستغناء عن أنفسهم. فاذا سقطوا في هذه الخطيئة يموتون ويموت البلد معهم.

أنا لا أعرف الآلية التي يتّخذها الإخوة الموارنة ليصلوا الى الصلح فيما بينهم. هم يعرفون بعضهم بعضا وفن المحادثة عندهم. ولكني استنجد بطريركهم ليجمع كل طاقاته الحيّة ليعود الى ندائهم وجمعهم، ليطهرهم من داء الافتراق والى وحدة فيهم خلاقة. ناشدته في هذه الزاوية مرّة ان يناديهم امام المذبح المقدس اذ لا يبقى له أبوّة ان رفضوا هم بنوتهم له ويفقدونها ان لم يوحدوا قدسيّة كنيستهم الى قدسيّة لبنانيّتهم. انه يستطيع بروح النبؤة ان يتذكّر قول الكتاب: «اضطرهم على الدخول» الى بيت الصدق والعطاء والى التأمّل في حاجة لبنان اليهم. «اليوم، اليوم وليس غدًا» يا سيّدي. اليوم قادة الموارنة السياسيّون يجب ان يتّقوا الله من أجل نفوسهم ومن أجلنا حتى يصير البلد معافى. وبعد توحّد كل اللبنانيين كل في عشيرته لكل حادث حديث. والوحدة إن تمّت تولد الوحدة.

وأنا أصلّي، وأبناء كنيستي يسمعون صوتي على ما أحسب. بقيت وحدتكم يا أحبّتي الموارنة شرطا لنهوضنا جميعا في ظلال الأرز.


Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

اتّباع المسيح/ الأحد 21 أيلول 2008/ العدد 38

عيد رفع الصليب ممدود تعييدا من قبله ومن بعده. هذا الأحد الذي بعد العيد نقرأ معنى أساسيًا له في قول المعلم: «من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني».

من اتّخذ في نفسه قرارًا ان يصبح تلميذًا ليسوع يكلّفه هذا الكثير الكثير، يكلّفه أقصى ما عند الإنسان من جهد: أن يكفر بنفسه، بكل ما يحسبه غنى في نفسه، بهاءها، عظمتها، ملذات الجسد والمال والسلطة وهذا ما نجمعه في كلمة «أنا» الممكن ان تحوز على كل ما في الأرض.

اذًا كل شيء نظن انه يغنينا نعطيه. كل شيء نبدّده لنصبح فقراء الى الله والى القديسين. لذلك قال: «ويحمل صليبه» لأن في النكران عذابًا اذ نحن متعلّقون بهذه الأرض وبما تغذي به شهواتنا.

واذا استبعدنا عنا كل هذا نتبع المسيح. نتبعه الى حيث سار. وما سار الا الى الصليب. ولكن الصليب وعدٌ بالقيامة. قبل ذلك يجب ان تتطهّر. في حملك الصليب انت قائم، انت حي.

ثم يشرح السيد فكره: «من أراد ان يخلّص نفسه يُهلكها. ومن أهلك نفسه من أجلي ومن اجل الإنجيل يخلّصها». الإنجيل يتطلّب تعبًا شديدًا، سمّاه يسوع إهلاكًا. من أجلي ومن أجل الإنجيل، قال. لأنه لا بدّ لك ان تعلم: اذا حدت عن الإنجيل ومعناه وإذاعته فلست مع يسوع.

ثم يستفيض الرب في الشرح ويقول: «ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه»، هذه التي الروح القدس ساكنها إنْ أنت شوّهتها او مزّقتها ماذا ينفعك المُلْك لو كنتَ ملِكًا او المال لو كنتَ ثريًا. ماذا ينفعك جسدك المستقل عن إشراف يسوع عليه. اذا قمت على كل العرش وليس لك مسيح في ذاتك فأنت أتعس الناس. ماذا يعادل نفسك او ماذا يعطيك ثمنها. كيف تغذيها بمال او سلطة.

بعد هذا يقول: «من يستحيي بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ يستحيي به ابنُ البشر متى أتى في مجد ابيه مع الملائكة القديسين».

المعنى في العمق هو انك إن لم تحمل صليب يسوع وتتبعه فأنت مستحيٍ به. انت عمليا أنكرته. لذلك لا يتعرّف عليك في اليوم الأخير.

المسيحيّة تكلّف. ليس فيها مزح. فيها جهد كبير، ولكن مقابل ذلك فيها تعزية كبيرة وفرح دائم. ان انتماءك الفعلي الى يسوع يحمّلك شقاء كبيرا في أعين الناس، ولكن ترفع الملائكة بعد ذلك هذه الأثقال عن كتفيك لكي تطير معها في السماء.

واذا سُئلت من يستطيع هذا؟ تجيب: النعمة إن مدّني بها الله تحمل ذلك عني لأني رأيت ملكوت الله آتيا على أحباء يسوع وعليّ بقوّة. رأيت، لذلك تخلّصت.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

الذين غابوا / السبت 20 ايلول 2008

الأحياء اذا غابوا عنك وهم لا يزالون على قيد الحياة لا يموتون. يجعلونك تذوق بعض موت. ولكن الحياة كلّها غربة حتى يخطفك الله الى ملكوت الحياة التي لا تنصرم وهو القائل عنك لمن غيّبك: »أعطني هذا الغريب« لأنه يريد أن يجعلك رفيقه.

وقد تكون سببا لهذا الاغتراب او يكون صديقك او كلاكما كذلك حتى نعود الى الوطن السماوي حيث يجلو الملكوت وتغني مع الملائكة الإله الذي ارتضى بدم ابنه ان يجعلك له حبيبا. كل تواصل في الدنيا نسبي فمن اخترته لك قريبا قد تكتشف بعده عنك او بعدك عنه وترمى في الصحراء وتعطش فيما تتبدى على رجاء الواحات. ولكنّ الواحة قد تتفجّر او لا تتفجّر واذا أنقذك ربّك من البادية يبدو حولك جنات ما كنت تتوقّعها. ولعل الوجود كله يقذفك بين العطش والارتواء حتى ترتوي في اليوم الأخير بما أعدّّ الله من ماء الحياة الذي لا خيبة فيه. وهذا ليس لك فيه اختيار. ولعل كل الناس موتى عطش حتى يحييهم ربهم برحمته عليهم بالخيرات.

وتقضي وقتك وأصدقاؤك ما عرفوك. رسموا لأنفسهم صورة عنك وقد ينقضي معظم زمانك لقاء صور بحيث تغدو غريبا لمن حسب انك لصيق.

اما الذين ارتحلوا من موت فهم ألصق بك لأن الموت لا فراق به ولو بدأ لوعة لأن اللوعة مواجهة لا خصب فيها والموت فراق العيون لا الوجود عن الوجود ولاسيما اذا كان الذي ذهب قامة من نور فهو يضيئك والحي يطفئك احيانا او انت طافئه اي ان واحدا منك لا يقتبل الضياء الذي هو وحده الحياة كما يقول يوحنا في مطلع إنجيله. ولا ندرك كيف تنزل عليك من الذين ارتحلوا مودات ولكن هذا يقع في أعماق النفس. وتتقبل هذا المطل عليك من فوق وترنو اليه في الضيق لتتعزى عن الآخرين او عن نفسك ويساقط هذا عليك ثمار السماء واذا نزلت عليك مائدة من السماء تكون لك وله عيدا ويكون الحزن قد انقطع.

واذا أدركت الشيخوخة ورأيت انهم يذهبون الواحد تلو الآخر لا ترى نفسك، بالضرورة، وحيدا لأن الفراق ليس مقاطعة وربما كان اللصوق بالسماويين أقوى من ذاك الذي على الأرض لأن الله مشيئته فيك وفي هذا الذي صار عندك أقوى في الرفقة وأقوى في النسابة وعلى الأرض ليس من نسابة حقيقيّة الا التي لا تظهر.

هنا كل شيء من عالم المحسوس اما اذا انقضى الجسد فتذهب معه احاسيسه وينشأ فيك وفي من رحل إحساس لا يسجّل في بدنك ولكنه جقيقي أكثر من البدن الذي انت فيه الان.
# #
#
كثيرون ممن عاصرت وعايشت وأحببت منذ وعيي اي قبل سبعين سنة ونيّف ارتحلوا فاصدقائي من الأطفال والكهول والشيوخ يقيمون في الرحمة. انا بعضي هناك. نحن نعيش على هذه الأرض وفي الحقيقة اننا نحيا فوق على رجاء امحاء خطايانا وكسب الرأفة الإلهيّة. غير انه لا يسوغ القول ان من ذهب من الأحبة يحيا فيّ. ويسوغ القول انه يحيا معي اذ ليس من عشق بيننا وبين الأموات. فالتحرّك نفسي بمعنى التواد اللاهب للنفس ليس له مكان هنا. ولذلك لا نعيش في التوجّع وبعد مدة من الفراق يزول الحزن ايضا. »لا تحزنوا كما يحزن باقي الناس الذين لا رجاء لهم«.ويجوز لنا ان نفرح للأحبّة الذين غابوا لأنهم في مطرح أرحب من قلوبنا وأهم. وهم يعيشون مع أمثالهم الأبرار ويشدونا ليس الى أنفسهم ولكن الى ربهم.

واذا ذكرناهم في الدعاء ففي الحقيقة نطلب لهم الرحمة لأنهم قادرون ان يذوقوها. ذلك ان التراب لا يدوسهم ولو غطّى أجسادهم. ان اجسادهم في رعاية الروح القدوس وهو جامعها منذ الآن الى الله على رجاء القيامة والحياة الأبديّة. الشيء المشترك الواحد بيننا وبينهم هو الرجاء.

لما تأمّلت في هذه الأمورمنذ فترة قصيرة وفي عودة الى دستور الإيمان عندنا لفتني فيه قولنا »اؤمن بإله واحد« وبالابن والروح القدس وعندما نصل الى القيامة نقول: »وأترجى قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي« وذلك لنؤكّد اننا مشدودون اليها اي لأنها وعد. لماذا لا نقول فيامتي ولكن قيامة الموتى. ذلك اننا واحد معهم وان الجماعة التي تكوّنت هنا هي اياها التي تقوم مجتمعة بالحب الإلهي الذي ينزل عليها لتستيقظ من رقاد الموت. ويزول، عند ذاك، سر الموت اذ بديله سر القيامة.

انا احيا تاليا مع أصدقائي القياميين ولذلك يعطونني الآن ما كان أعظم وأجمل من الذين كانوا يعطونني لما كانوا معي على هذه الأرض الزائلة. كل بذل هنا بين حبيب وحبيب انما يشوبه الضعف البشري. وإحساسي ان ما آخذه اليوم من الراقدين ليس فيه انثلام الأنا التي كانت للصديق ولي. انا الآن أبذل نفسي عنهم بالعطاء وهم يبذلون لي ما يستمدونه من الحضرة. ولذلك بات ما نتبادله أنقى بكثير مما كنا نتبادله هنا حتى يرفعنا ربّنا الواحد الى الكنيسة الظافرة في يوم حكمته.

لذلك وجب علينا ان نساعد المدنفين على لقاء ربهم وهذا بات علما اليوم وله مؤسساته وفيه نباهة النفس ورأفة كبيرة حتى لا يخشى احد الموت بل يستقبله باىمان واتكال على ما ينزل عليه من الحنان الإلهي وقد يلمس ان حنونا مستقى من الحنو الإلهي فيشكر ويسلم لربه بفرح او بعض فرح مع خشية طبيعيّة وقد يبكي لخروجه من حضن هذه الأرض التي كثيرا ما كانت حبيبة. وربما تجلى الله لكل من دنا أجله لعله يتراءى له شيء من الأنوار الإلهيّة قبل ان يغمض عينيه. هذا الجسد فيه اقتبال للأنوار لأنه مثل جسد المسيح. ربما زال عنه شيء من الفساد قبل ان يفارق ولاسيما اذا فارق في غبطة القديسين.

# #
#
في هذه الحال هل غابوا؟ انا يحزنني ان يقول بعض اننا لا نستطيع ان نقول شيئا قبل ان تأتي الدينونة اذ ليس عندنا في الإنجيل ما هو قبل القيامة. جوابي كيف تقبلون كلمة الرب: »الله ليس إله أموات بل إله أحياء«. هنا ايضا لست في مقام سجال ولكني في مقام الحب. هؤلاء الأعزة التي حدثتكم عنهم هم معي وانا معهم وانا اعرف ان الأمر أمر لقاء دائم وليس تخيلا. هناك أربعة او خمسة من الناس أذكرهم دائما وأذكر واحدا كل يوم لأنه كان عملاقا روحيًا وعالمًا لاهوتيًا كبيرا. ليس للخيال مكان في ذكرى عظيمةة كهذه. والى شهادتي كخاطئ يصلّي هناك ايضًا خبرة القديسين الذين اناجيهم ويناجونني واكتب واتكلّم عند املائهم واذا كانوا لا يستكتبوني فأنا أتفه المخلوقات. انا اعرف انهم أنقذوني من محن كثيرة أدعوتهم صراحة ام لا أدعُ. هذه أبعاد في الوجود لا يعرفها الا الذائقون.

لذلك أكرر الا تبكوا على الأحبة اذا توفاهم ربهم اذ تكونون تبكون على مشاعركم الأرضية وتحبون الا تنقطع دموعكم التي هي من الأرض بل افرحوا لمن بلغ السلام ولمن يستطيع ان يستنزل عليكم راحة هي من التعزيات العلوية. »افرحوا في كل حين واقول ايضًا افرحوا«. اذكروا انكم فصحيون وان هذا الفصح قادر ان يستقر فيكم. لم يفنَ شيء فالمصاحبة قائمة فوق وهنا وأجواق الملائكة والبشر تنشد معا واذا اجتاز الكاهن عندنا درجات الهيكل عند الدخول بالإنجيل يقول لله: »اجعل دخولنا مقرونا بدخول ملائكة قديسين«. واذا كانت الكنيسة مطرحا للسماء فالفرق بين الذين دعاهم الله اليه والذين استبقاهم ان المستبقين لا يزالون على الخطيئة واولئك بانتظار المجد الأخير.

كلنا توّاق الى هذا المجد بعض في هوان وبعض في قوّة حتى يزول الهوان.


Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

عيد رفع الصليب/ الأحد 14 أيلول 2008 / العدد 37

الظروف التاريخيّة أنشأت الكثير من الأعياد. فقد اتخذ تحديد تاريخها قرونا طوالا. هناك أجيال اذًا لم تعرف كل الأعياد.

هذا العيد ليس احتفالاً بحدث واحد. انه مركّب. منها ان قسطنطين الملك فيما كان يتهيّأ لمحاربة مكسنتيوس ليدخل روما ظهرت له علامة في السماء نورانيّة وحولها كتابة تقول: «بهذا تغلب».

الحدث الثاني اكتشاف القديسة هيلانة في أورشليم، صليب السيّد في التراب وأنّ ميتا مرّ به القوم امامه فنهض وعاش. فأخذ الأسقف مكاريوس الصليب ورفعه عاليا وبارك الشعب به. العيد الذي نقيمه اليوم ابتدأ في ذلك الظرف.

ثم ان الفرس غزوا اورشليم عشرين سنة ونيّف قبل الفتح العربي، واستولوا على الصليب الى ان غلبهم هرقل امبراطور الروم واستردّه وعاد به الى أورشليم.

طقوسيًا في آخر صلاة السَحَر يرفع الكاهن الصليب امام الشعب ويبارك به الشعب وكان واضعه بين الرياحين والزهور، فيأتي المؤمنون اليه ساجدين ومقبّلينه، فيدفع الكاهن الى كل واحد زهرة ليوحي اليه انه «بالصليب قد أتى الفرح لكل العالم».

في القداس تلاوة الإنجيل المنشور هنا تروي حادثة الصلب كما وردت عند يوحنا. اما معنى الصلب فيعطيه بولس في الرسالة ويعرّف الصليب اي موت المسيح على انه قوّة الله. ثمّ بالمقابلة مع حكمة اليهود الذين اعتبروا الصلب شكّا او عثرة لهم، وبالمقابلة مع الوثنيين المسمّين هنا يونانيين الذين اعتبروا الصلب جهالة او حماقة، يؤكّد الرسول ان المسيح بموته أعلن برنامج الله الخلاصي اذ «المسيح قوّة الله وحكمة الله».

حولنا من ينكر الصلب الذي شهده شهود وتحدّثوا عنه في الأناجيل وكل بقيّة العهد الجديد. من الناحية التاريخيّة لا يمكن احدًا ان ينكر الحادثة ولا يسعك ان تقبل كلام الذين لم يكونوا هناك وأنكروا.

السؤال الأساسي هو هذا: هل نحن نؤمن بالصليب على أنّه مكان الخلاص وأداة الخلاص. كل الديانة المسيحيّة هذا محورها مع القيامة، والباقي تعبير لاهوتي وطقوسيّ عن إيماننا بالفداء.

في الحقيقة عندما نعلّق الصليب في عنقنا بعد المعمودية ونعي ذلك عند الرشد، نعلن أننا نلنا الخلاص بالمصلوب الذي مات وقام.

نحن معلّقون هناك. نحن متعلّقون بهذا، واذا عدنا الى المصلوب بعد كل خطيئة نكون عائدين الى الحياة.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

عيد رفع الصليب / السبت 13 ايلول 2008

مرة سألني واحد من شهود يهوى: لماذا تكرّمون الصليب، هل تكرم ام قتل ولدها بمدفع العدو هذا المدفع؟ أجبت: عند المسيح أداة موته هي اياها اداة حياته. وغدًا الذي هو تذكار رفع الصليب يحمل الكاهن في كنيستي الصليب على صينيّة مليئة بالرياحين او الزهور ويطوف به بين المؤمنين خمس مرات ويسجدون حتى تلمس جباههم الأرض اي يلتحمون بها كما يلتحم الميت بالتراب ثم يقومون كما قام المخلّص وفيما هم ينتصبون يقول الجوق: يا رب ارحم ويتصاعد النغم ما صعدوا.

وبعد السجدات يقبّلون المصلوب ويدفع اليهم الكاهن ريحانة او زهرة حتى تزهر حياتهم من سر المصلوبيّة التي ارتضاها السيد لخلاص العالم.

هذا الوصف يوحي اليك ان الكنائس التقليديّة تستعمل الرموز لتتكلّم. هي لا تكتفي بالتلاوة ولكنها تجعل مؤمنيها يتحرّكون استجابة للنعمة التي تنزل على لسانهم وجسدهم. ماذا يعني ان يقبّلوا الصليب؟ لا يمكن ان يعني الا انهم يقبّلون المصلوب تأسيسًا على هذا المحسوس عند جميع الشعوب التي فيها شِعرٌ ولحن ورموز اي تعبير. هذا هو أساس الأيقونة القائمة على ان ثمّة قفزة لعيني المؤمن من الصورة الى المصوّر عليها، من الأرض الى السماء. هذا يجري في النفس التي تحس المعنى وظاهره معا. اما الذين حاربوا الأيقونة ليس فقط في امبراطوريّة الروم بين القرن الثامن والقرن التاسع وكل محاربي الصور في الدنيا المسيحية وربما في الحضارات الأخرى توقفوا عند الكلمة المقولة باعتبارها الأيقونة الأخيرة اي المطهر الأخير لذاتها.

واذا قلّدنا الطفل عند معموديّته صليبًا معلقًا في سلسلة فليس لأنه يحمل في ذاته قوّة شفاء او تقديس ولكنه مكان تخاطب بينك وبين المسيح اما اذا كان يحمل بحدّ نفسه قوّة فاعلة يكون تعاملك وإياه سحرا.

يوم الخميس العظميم مساء وقت للطواف بالصليب وهذا بعد قراءة إنجيل وعندما نضعه في وسط الكنيسة نقول: “نسجد لآلامك ايها المسيح فأرنا قيامتك المجيدة”. فكيف يقول بعض: اننا عبّاد صليب او خشبة؟ آسف ان حرب الأيقونات جعلتنا نتعلّق بالصورة لغة. من يكفّرنا بسبب من استعمالنا الأيقونة يقف عند ألوهيّة المسيح دون العبور الى بشريّته والى اعتبارها مملوءة من الألوهة. الصليب عندنا أيقونة اي صعود الى السماء بالفكر والقلب قبل القيامة العامة.

الصلب عندنا كشف لله على وجه مسيحه ونصر لله في عذاب مسيحه.

# #
#

اما كان لله كشف قبل مجيء السيّد؟ ما من شك ان الرب كشف عن ذاته بالأنبياء، بكلمات هي من عنده. ولكن اذا سمّى الإنجيل يسوع الناصري كلمة فمعنى هذا ان الكلمات القديمة انصبّت فيه. مع ذلك نلجأ اليها لأنها كتبت عنه وهيّأت له. وعندنا انه مطرح الله الأخير وتجلّيه الكامل فيه. عندنا ان الله سكن بشريّة الناصري سكنى كاملة وانتهى بذلك النهج النبوي وفي المسيح انتهت الوساطة بين الله والبشر. ما كان الأنبياء الا مرسَلين. صحّ ان المسيح يقول ان الله أرسله ولكن معنى ذلك انه أرسله في البشرة وانتهت بذلك السيرة النبويّة ليحلّ محلّها الإعلان الكامل عن الله. ذلك ان المسيح هو كلمة الله. والكلمة قائم بقيام الله. اي لم تكن لحظة في الكيان الإلهي بلا كلمة في هذا الكيان. من هذه الزاوية نقول ان المسيح من حيث كونه كلمة أزلي.

به اذًا تغير المنهج النبوي ليحلّ محلّه نهج بلا مرسلين، نهج كلمة الله فيه بابنه مباشرة وان استعمل بولس هذه العبارة ليدلّ بها على بشريّة السيّد وتحققها الكامل بالخلاص.

قضيّة الصلب في كل أبعادها هي هذه: هل الله بشّر قديمًا بالخلاص الجامع الشامل لكل من آمن به؟ نظرة الأنبياء القدامى ان ثمّة مشروع خلاص أعدّه الله لكل الذين يحبّونه اي انه مشروع تكافل في الحب بين الله وعبيده او تناجي حب وليس فقط وعدا بالغفران لكل من تاب. هذا الغفران عندنا نحن هديّة إلهيّة لكل الجنس البشري مجتمعا. هي علاقة الله بالإنسانيّة وليست فقط علاقة عمودية بينه وبين كل فرد يتوب. الحقيقة هي ان الله مخلّص او ينتدب مخلّصا للقيام بعمل يمسّ البشر جميعا. هل الخلاص هو للبشريّة المفتداة بدم يسوع اي بحب يسوع للناس جميعا ويكتسبه بنوع خاص- وما قلت بنوع حصري- من آمن بهذا الحب؟ هل هذا تلاقٍ بين الخالق والخليقة كلّها في زوال الشر والخطيئة والموت وانت تدخل في هذا المشروع بانتمائك الى الجماعة التي وُعدت بالنجاة؟

ما هو أسبق اذًا من حادثة الصلب هو الإيمان ان هذا الصلب اذا حدث فإنّما هو ينبوع الخلاص وتلقي الخلاص. اذًا لا بدّ لنا ان ننتقل من حادثة الخلاص الى فكرة الخلاص. والى الايمان بمحبوبيّتنا عند الله.

في اعتقادنا ان تعريفنا عن الله ينتج عنه تعريفنا للإنسان الذي أصبح وجه الله بعد ان رسم يسوع معالم وجهه المنور على كل وجه.وبهذا المعنى نصبح سماء ونندمج بأزليّة المسيح وأبديّته.

# #
#

عيد رفع الصليب لا ينحصر بأن هرقل قد أعاده الى القدس من بلاد فارس بعد ان وضع الملك خسرو يده عليه وبعد ان غزا اورشليم في العام 614 وعاد به الى عاصمة المدائن حتى تمكّن قيصر الروم هرقل من استرداده وإعادته الى كنيسة القيامة.

المسألة لا تنتهي بهذه الحادثة. فالأعياد عندنا وان استندت الى وقائع الا انها اعياد فكر. الفصح فكر القيامة والباقي يتفرّع عنها. والفكر تنقية قلب تشارك العقيدة. واذا شهدنا لصلب يسوع نكون قد دخلنا عهد حبّه. وكل من أحبّ فهو شهيد ويحمل في نفسه المصلوبيّة. وهذا يعني ان عيد غد دعوة الى التطهّر ومن مكوناتها ان تتنقى من الرذائل وان تتسربل البهاء الإلهي لكي تقيم في الحياة الأبدية، لكي تصبح انسان الملكوت ولو كنت تعدو على الأرض. فاذا تأمّلت في علامة الصليب حيثما حللت يقيم الله بينك وبينه رباطا وقفك رتباطك بمعاصيك وبذا تصبح انسانا جديدا اي عبدا للبر بعد ان كنت عبدا للخطيئة.

تلك هي طريق الحياة. لذلك أخطأ الصليبيّون الإفرنج لما أراد هؤلاء قتل اهل هذه البلاد اذ كانوا على دين آخر او مذهب آخر. الصليبيّة كانت الشرخ بين الغرب والشرق، كل الشرق في منطقتنا. لذلك لم تكن لنا علاقة نحن المسيحيين الشرقيّين بهؤلاء الغزاة ولم يكن للصليب علاقة بهم. جاؤوا ليجعلونا مصلوبين.كنا عائشين في السلام مع أهلنا الآخرين وفرقنا هؤلاء المحاربون باسم علامة المحبة. وبهذه العلامة الطيّبة فتحوا القسطنطينيّة السنة الـ1204. لماذا وجهوا الحملة الصليبيّة الرابعة الى عاصمة المسيحيّة الشرقيّة ولماذا دنّسوا كاتدرائيّة الحكمة المقدسة.

نحن نسينا وغفرنا ورئاستهم الروحيّة اعتذرت مؤخرا عن هذه الفاجعة. في هذا الشرق نحن نقدّم لسكان بلادنا صليب وداعة لا تقتل احدا. اذكروا ان الصليب نسميه شجرة كما في الطقس البيزنطي يوم هذا العيد ممتدة الى السماء عموديا والى الآفاق جميعا. علامة لا نرذل بها احدا ولكنا نعانق من كان مستعدا لمعانقتنا. نحن نصلب شهواتنا لنكون مؤهّلين للعناق الكوني ومنه يفيض النور.

عيد رفع الصليب بات اذًا تهليلنا بالكونيّة ووعدا بلقاء المحبّين من كل صوب. نحن نقدّم مصلوبيّتنا ولا نقدّم صالبيّة. نحن نُمات كل يوم لنحيا ويحيا الجميع، لنبقى هكذا شهداء للرب ويصبح كل انسان على طريقته شهيدا. ليس في عقيدتنا مضمون غير الحب. فمن رفضه رفض ربّه، هذا الذي نقول في لغّتنا انه ابو الناس جميعا.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

الأحد قبل الصليب/ الأحد 7 أيلول 2008 / العدد 36

الرسالة والإنجيل كلاهما عن الصليب. بولس يقول لأهل غلاطية الذين كان بينهم متهوّدون انهم يريدون فرض الختان على كل من أراد ان يعتنق المسيحيّة. ويقول انّ هؤلاء يفتخرون بختان الوثنيين اي ان يحافظوا على ناموس موسى، وكان مجمع الرسل في اورشليم حرّر الوثنيين المنضمّين الى يسوع من الخضوع لشريعة موسى، ويجابههم بقوله: «حاشى لي أن أفتخر الا بصليب ربّنا يسوع المسيح الذي به صُلب العالم لي (أي مات هذا العالم بالنسبة لي) وانا صُلبت للعالم». والمعنى ان هذا العالم اذا اعتبر نفسه شيئا فأنا ميت بالنسبة اليه.

ثم يوضح ان الختان ليس بشيء ولا القلف (اي عدم الختان) شيء بل الخليقة الجديدة التي تكوّنت بالإيمان والمعمودية. ثم يبيّن ان السلام والرحمة هما على «اسرائيلِ اللهِ» اي اسرائيل الجديد الذي هو الكنيسة.

ويلفت اهل غلاطية انه حامل في جسده سمات الرب يسوع اي الآلام التي تحمّلها من أجله، ويعدّدها في الرسالة الثانية الى اهل كورنثوس، ويختم الرسالة بقوله: «نعمة ربّنا يسوع المسيح مع روحكم».

ثم يجيء مقطع من إنجيل يوحنّا حيث يقطع ان احدا لم يصعد الى السماء الا الذي نزل من السماء اي هو، ومع نزوله الى الأرض بقي في السماء مع الآب والروح. ويتنبأ عن موته بقوله: «ينبغي أن يُرفع ابن البشر» أي أن يصعد إلى السماء بعد قيامته، ويختم بقوله: «هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد»، ويوحي بأن «كل من يؤمن به وبفاعلية صليبه له الحياة الأبدية» التي بدأت في الثالوث ولا تنتهي، وهكذا ينقل المؤمن بالصليب الى حياة الأزل التي كانت في الله والى حياة الأبدية التي لا تنتهي ويؤكد ان «الله لم يرسل ابنه الوحيد الى العالم ليدين العالم بل ليخلّص به العالم».

فالمؤمن ليس عليه دينونة لأنه وريث الخلاص اذا بقي على الإيمان بالصليب وعاش في التوبة. فالخلاص نرثه الآن بإيماننا بالمصلوب الذي غلب الموت في كل إنسان وجعله قائمًا من موت الخطيئة منذ الآن.

هكذا يتبيّن من القراءتين اللتين تهيئاننا لعيد ارتفاع الصليب، ان الصليب مركز حياتنا وكل ديانتنا. وكل ما نقوله في الكنيسة ونعمله انّما ينطلق من صلب السيّد وقيامته.

كل عباداتنا تقودنا الى الصليب الذي هو كل حياتنا على الأرض لأنه عطاء الله ذاته لنا. ونعلّقه عند انتهاء المعمودية في عنقنا لنذكر اننا مصلوبون مع المسيح وشركاؤه في قيامته وهو مبدد كل أحزاننا وآلامنا وزارع فينا الفرح الآن وغدا والى دهر الداهرين.

وقد استشهد الشهداء لأنهم آمنوا بأنّهم ينالون الحياة بدمائهم المختلطة بدم المخلّص.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

القداسة / السبت 6 أيلول 2008

القداسة ابتغاؤنا. كل شيء عظيم بعد نفحات النعمة ينشأ بالجهد. النعمة يجب ان تحبّها وتتلقاها وتعمل على إثمارها لأنك أنت التربة. وهذا ممكن لأن الله يحبك ولأنك قادر على طاعته، الطاعة حتى شهادة الدم إن طلبها الرب.

عندما ندعو أحدا الى القداسة كثيرا ما يقول: «شو أنا المسيح؟» المضمون في هذا الاعتراض أن القداسة استثنائيّة او هي لنخبة نادرة وبخاصة جماعة الرهبان. ربما لأن أكثر المطوبين منهم ما خلا الشهداء ولكن عندنا في التقويم مجموعة من المتزوّجين منهم ملوك وعسكر وفلاحون اذ المسيحيّة ليست كمّ الصلوات لكن طهارة القلب واستقامة المعتقد والبساطة والتواضع والغفران والمحبة. فالفضيلة ليست حكرا على أهل الأديار وخدام الكنيسة. انها نوعية وجود بقهر الشهوة الضارة والبقاء على الرغبات الشرعيّة وان تصير النفس والنيّة انجيلا حيا فحيثما يتجلّى المسيح في انسان بالكلمة والسلوك فهناك رسالة لله غير مكتوبة.

هؤلاء المرتبطون بالسيّد والمتعلّقون به منذ نشأة المسيحيّة حتى اليوم هم الكنيسة. هؤلاء كان الروح القدس معلّمهم لما كان كاهنهم تافها او مؤذيا. الكثيرون من الناس في الكنيسة نفايات بشر والقلّة التي تنقت رباها الله من السماء. قامت بالممارسات التي كان القيّمون عليها يتممونها بلا روح، بلا فهم، بلا قناعة ولكن مضمونها، ملفوظًا، ينزل في القلوب بدفع إلهيّ.

هذا لا يعني اننا نستغني عن البشر- القدوة. فهناك تشبه بالذين هم للمسيح الذي يرتسم فينا سلوكهم. الفضيلة فيها جانب تقليدها من جيل الى جيل وكل الرهبانية قائمة على أن المبتدئ في نسكه يتربى على يد أب روحي وهذا ينشئ المسيح فيك. وابن الكنيسة البار المنتمي الى مصف العوام (يسمونهم اليوم علمانيين) يتخذ ايضا لنفسه أبا روحيا من المتقدمين في معرفة للنصح وتقويم السيرة بالمجاهدة وكفاح الخطيئة. غير انه ليس كل كاهن أبا روحيا. نعت الأب الروحي معطى للكاهن قائم في كتبنا الطقوسية ولكنه كثيرا ما كان تجاوزا للواقع اذ ليس كل كاهن يلدك في المسيح. غير ان القديس نيل المتنسك في برية سورا الروسية يقول ان لم تجد ابا روحيا فاتخذ الكتاب المقدس ابا وفيه من الإرشاد ما يكفي. ولكن هذا يفترض ان يجعلك الرب مبتلعا لكلماته، ممتصًا اياها في جوف كيانك لتصيرها.

هكذا ينشأ الراغبون في القداسة على القابض على تراث البر او تطول قامتهم الروحية بكلمة الله المباشرة.


# #
#

»إرادة الله قداستكم» (1تسالونيكي 4: 3). هذا كلام مرسَل الى جميع الناس وليس فقط الى طغمة معيّنة ذات مناصب او مسؤوليات معيّنة في الكنيسة. ذلك ان الله قال ايضا: «كونوا قديسين كما اني انا قدوس» (1بطرس 1: 16). وهذا ليس المقصود فيه القديسين المطوّبين. فغير القديسين في السماء لم تعلن الكنيسة قداستهم. والقديسون على الأرض كثر ويتعاطون جميع الأعمال في دنيانا. والقداسة مطلوبة من جميع الأعمار والأجيال. وليس صحيحا ان الأبرار فقط من الكهول والشيوخ اذ القداسة ليس لها عمر ومداخلة الله في كل القلوب ممكنة حسب مقدار الطاعة. ذلك ان الجهد يريد الله كل أبنائه ان يبذلوه. والطهارة ممكن تقبّلها في اية سن.

القداسة ليست نزاهة عن كل ضعف او سقطة لأن القيام ممكن بعد كل وقعة. ولكن المهم الا يستسلم المرء الى أهوائه ورغباته الساقطة وان يؤمن ان قيامة النفس من الخطيئة ممكنة ابدا. ان الذين اطّلعوا على تاريخ آبائنا القديسين يعلمون انهم عانوا التجارب وان هذا او ذاك منهم لم يتمجّدوا طوال حياتهم على خط مستقيم وقيامات مطردة. هناك سقوط وهناك قيام. المهم ان يعرف المؤمن قواعد القيام وان يتوب في عمق وان يصمم على استضافة الله في قلبه بعد كل إغراء أصابه. المهم الا يصالح الانسان خطيئة وقع فيها وان يكرهها كليّا. المهم ان يحب معايشة الرب. «ما أحلى الرجوع اليه». المهم ان يجد فرحه في المسيح وان تتمزّق أحشاؤه ان هو أخطأ. المبتغى ان يسعى الى ان يكون انسانا فصحيا لا مكانة فيه للاستلذاذ بالشر وان يبغض الخطيئة في كل انسان آخر حتى نخرج جميعا الى القيامة لأن القيامة هي الحرية.

وحيث الحرية فهناك روح الرب ونصبح، اذ ذاك، روحًا واحدًا معه. عند ذاك لا مجال لعبوديّتنا للشر. ليس من الحقيقة ان الانسان ميال الى الشر بالدرجة الأولى. هناك عشاق للخير وغلابون للميول الفاسدة فبهم. هناك من تلألأ بالحب الإلهي وجعله صبغته الدائمة كائنة ما كانت الجهود لحفاظه على البر. ذلك ان البر مكلف والتدثر به تعزية لا توصف. نظهر اننا ندوس غبار هذه الدنيا ولكننا معلقون حقا في السماء. ورأسنا يصل كل يوم الى عتباتها حتى يخطفنا الملكوت في فرح يفوق بلا تصوّر لذات الدنيا.


# #
# لم يمنعنا الرب عن اللذت الشرعيّة في دنيانا ولكنه لا يريد ان تدخل الى قلوبنا. هو حريص على ان يسكن وحده القلب البشري. والدنيا نستعملها ولا تستعملنا. نستعبد الأشياء التي في حوزتنا لأن من ساده الله يسود هو كل شيء. والدنيا تترجَم مالا وحذّرنا يسوع ان نعبده عبادة لأن الله واحد ولا يقبل الشرك. نتزوج وزوجتنا اخت ورفيقة درب ولكنها مشاركة ايانا في محبة الرب. الطريق الى الرب تستعمل كل الطرق المؤدية اليه. الله هو المحبوب الوحيد والأخير وان كانت لنا مودات اباحها الخالق وأباحها الفداء واذا كان لنا جسد فلا نطلبنّ ان نكون ملائكة ولكن نسعى الى ان نتخلق بأخلاق الرب وان نتأله بالنعمة.

هكذا نكون واحدا مع جميع القديسين الذين في السماء والذين على الأرض. نناجيهم ويناجونا ويكتمل فرحنا بهم. هذا ما نسمّيه مشاركة القديسين. وهؤلاء هم أهل الله وهكذا ننجو من العذاب ولو أصابنا المرض وكثرة من العذابات. وهذا هو الصليب الذي لا يبلغ احد بدونه القيامة وهو نفسه بدء القيامة هنا. فالمسيح هو مركز وجودنا أكنّا أصحاء او مرضى، مثقفين كنا ام غير مثقفين. فاذا استنار القلب بالروح القدس يكون للعقل سلامة الله ولا يبقى العقل معقدًا او مرتبكًا او شاكًا اذا كان فيه ما سماه بولس «فكر المسيح».

وبه نترك كل فكر مناقض ونعقل كل الوجود كما يعقله الله. بذا نصبح عشراء الله ومن لحم المسيح وعظامه اي كل من المقدسين يصير مسيحا بدوره كما تعلّم كتبنا. العقل، اذ ذاك، يتمسحن وكذلك القلب ونغدو كيانات من نور وتزول عنا الترابيّة فنغدو في الأخير نورًا محضًا ويرانا الله من ضيائه. وفي اليوم الأخير بسبب من تنوّر البشر يصير الكون المادي كله نورا كما يعلّم مكسيموس المعترف ونورنا يتعرّف الى نور الكون. وهذا النور المعمّم يصبح مسكن الله.

تلك هي القداسة التي نعرفها من الكتب الإلهيّة ومن تراث الطاهرين. ويلحّ الله علينا ان نتسربل هذا النور كما هو متسربله. نحن مدينون فقط لهذا العطاء النوراني ولا نستطيع ان نرتضي شيئًا دونه اذ لا تبقى رغبة الا فيه.

Continue reading