Monthly Archives

June 2007

2007, جريدة النهار, مقالات

حول الكتابة / السبت في 30حزيران 2007

السؤال الاول: لماذا يكتب مَن كَتب؟ الجواب ان كان أديبا انه لا يستطيع ان يفعل غير هذا. تلك حالة الرسام او بيتهوفن لـمّا وضع السيمفونية التاسعة. كان أصم أي لم تسمعها أذناه. كيانه وضعها وكيانه تقبّلها بعد ان أعاد قراءتها. فيك جنين  ان كنت اديبا وهذا الجنين يجب أن يخرج، أنت تلد ولا تسأل نفسك لماذا تلد ولا يمكنك ان كنت مبدعا ان تضع الجنين لحظة واحدة قبل ان يشاء هو ان يخرج. اجل هناك لعبة بين انفعالك وصياغتك. ذلك لان الابداع ليس خارجا عن العقل. ولكن ان استخدمت العقل وحده فأنت عالم (في التاريخ، في الاقتصاد، في الفيزياء) ولكن ان خرجت الى الكون شاعرا ام ناثرًا شبه شاعر فالقلب والعقل متمازجان او متناضحان.

            نحن في سر كامل في ما يتعلّق بنشوء الجنين. كان الشاعر الالماني العظيم ريلكه يقول: «لي قصائد لست أنا واضعها» وأراد بذلك الإلهام او شيئا أعظم منه او وراءه. وقالت لي شاعرة: «عندما أعيد قراءة قصائدي لا أصدق اني كاتبتها». في العصور الوثنية كانوا يؤمنون بآلهة الشعر، وعند العرب عبقر موضع كثير الجن. ويقال عن إنسان انه عبقري لاعتقاد القدامى ان «روحا» ما وراء الخلق الغني الجميل.

            مَن أنتج جمالا باهرا قولا او كتابة وكان فيه مسحة روحية له ان يحس ان هذا أتاه من الله اذ تدل المقارنة بين النصوص ان بعضها ضعيف او عادي وان اي من أخذ القلم قادر عليه، ولكن ان كان ثمة التماعات نادرة الوجود في النطق فله ان يحس ان هناك من دخل الى روحه او حركها او ألهبها وانه يأتي هو من آخر. غير ان هذا النتاج لا يمكن ان يكون إلهيا ما لم يكن ملتصقا بالحقيقة والسمو. الفاسد خلقيا لا ينتج شعرا عظيما او قولا حلالا. علّمَنا الإغريق ألّا نفصل بين الحقيقة والخير والجمال. قلمك بديع ان كانت نفسك بديعة عندما تنتج. لذلك كان التأليف الجميل ثمرة التوبة او طريقا اليها. قد يكون فيك شوق الى البهاء الروحي فتضعه كلمات او تكون بعد تمزق ملت الى الله فتعبّر عن روحه بكلمات بشرية.

#           #

#

            السؤال الاخر الذي يطرحه الناس كثيرا: لمن تكتب؟ عندي جواب بسيط وجواب اكثر تعقيدا. اذا اتخذت موقف المعلم لفئة الصغار او فئة اكبر ولكنها ليست عظيمة الثقافة تضع الكلمات القادرة هذه الفئة ان تستوعبها اي يكون أسلوبك التربوي كثير الوضوح وتبسّط الكلمات والتركيب حتى الشفافية الكاملة الانك اخترت ان تكون مربيا او اختار لك ذلك وضعك. وتبقى مع ذلك عندك لعبة القلب والعقل فتبقى لك نفحات القلب ضمن تغليب العقل المربي. واذا لم يكن عندك قلب ملتهب لا ينفع عقلك في حال ولكنك تحاول تطويع الشعور للفكر بعد ان اخترت التبليغ رسالة لك.

            أما الشق الاكثر تعقيدا في السؤال فينشأ اذا اخترت نخبة من القراء وقدرت انك تستطيع ان تبلغهم ما شئت تبليغه. مع ذلك قيل لابي تمام: لماذا تكتب ما لا نفهم؟ أجاب لماذا لا تفهمون ما أكتب؟ هناك تمرين على البلاغة وعلى امتصاص الكلمة ان شئت على الا تفوت عن نفسك الجمالات.

            اما اذا أحس الكثيرون انهم لا يفهمون هذا مبدئيا يشعر ان الكثافة الوجدانية فيك بلغت مبلغا لا تقرب منها الكثافة الوجدانية عند بعض من قرائك. وقد يعثر بعض منهم على مفردات لا يعرفونها او على تركيب لجملك لم يألفوه. لذلك وضع العرب شروحا لدواوين كبار شعرائهم ظانين ان تحويل الشعر الى نثر يقرب القارئ من الفهم. عندي ان هذا يساعد قليلا لان الشارح ولو استطاع ان يوضح المفردات الا انه لا يستطيع ان ينقل لك الحالة الشعرية. لذلك كان السؤال الحقيقي: كيف تتقبل؟ هل تكون هيأت نفسك لدخول الحالة الشعورية عند من كَتب؟ هل صرت انت من طبيعة هذا الذي كتب؟

            الحقيقة ان الذي أبدع حقيقة كلامه لا يستطيع ان يخلق الجنين الذي فيه، فيأتي الكلام بلا افتعال ولا يكتب عند ذاك كمجرد معلم للأطفال او من كان تجاوز الطفولة الفكرية. يكتب لانه أحس ويرصف كلماته طاعة لما أوحي اليه ويعرف ان غير ذلك إسفاف. عند الوجدانيات العميقة لا يكتب الكاتب لجمهور محدد. ولكنه طبعا يتوخى التواصل بعد ان عجز ان يكبت ما في نفسه، فتأتي نفسه كما نحتها الله كتابة، ويبقى عند القراء ما يبقى وقد ترث قلة ما أعطيت وتنقله بأسلوبها للآخرين او تطلع الاجيال الآتية فتفهم.

            واحيانا يذهلك ان من نسمّيهم بسطاء يصلون الى عمق قصيدة او ما يشبه القصيدة لان قلوب هؤلاء تكون قد فتحت عقولهم لتتلقى، وكأن المسألة لم تبقَ مسألة فئوية اذ الاصطفاف ليس دائما اصطفاف كتل عقلية بل كتل روحية. ان ذلك سر لا نستطيع سبر غوره حقا.

            لذلك لك ان تصبح قادرا لتحسس نص يضعه مَن اختلف عنك بالمعتقد او بالمذهبية الشعرية او النثرية اذ يدق الموضوع والمرصوف باب فهمه وتنشأ وحدة بينك وبين قارئ يكون على الضفة الاخرى من المعتقد او المذهب الفني لان هناك عمقا واحدا عند المتحضرين او المؤمنين بالقيم العليا التي توحد نفوسهم والنص. هناك انصهار روحي مهيأ بين نفس الكاتب وإدراك القارئ، ذلك اذا كان النص على كثير من الوضوح عند من ألّف واذا كانت نفس القارئ على هذا الوضوح.

            انا من أتباع الوضوح اذ لا بد من جسر بينك كاتبا وبين من يقرأك اي اذا كان هناك بلورية مشتركة، لان الغموض لا يصل اذ لا بد من شيء من المعقولية لتخاطب القلوب ولا يكفي ان يرمي علينا الاديب انفعالاته لتبلغ نفس القارئ. المضمون المعقول يبلغ من وجب إبلاغه. هذا لا مفر منه اذا اعتقدت ان نفسك حاملة رسالة.

#               #

#

            الشيء الآخر الذي لا بد لي من قوله في هذا السياق ان الكاتب يجب ان تكون نفسه موحَّدة انا اقول مع ربها وقد اقول موحَّدة بالقيم. والذي لا يحيا هذه القيم او كانت نفسه معطوبة فليس عنده ان يعطي شيئا. يقدم ظاهر الكلام وألفاظا قد تكون جميلة على الصعيد الاستاطيقي ولكنها لا تقع جميلة في النفس فلا تجملها. واذا لم تستلم حلاوة داخلية لا يكون القائل حاملا هذه الحلاوة.

            سؤال آخر طرحته قديما على نفسي غير مرة وهو ما الفن؟ هل هو نتيجة تمزق داخلي او ألم، وهل الالم وحده ناطق ام للفرح ان يكون ناطقا؟ مررت طويلا بهذه المسألة حتى نبّهني احد ان المتصوفين عندنا وعند المسلمين اهل فرح بالله، وفهمت ان الله الذي في هؤلاء أعظم شاعر. الحلاج لم يكن ممزقا او متعبا. القديس سمعان اللاهوتي الحديث في بيزنطية لم يكن ممزقا ولا متعبا. واستطيع ان اذكر غير هذين ففهمت انه اذا كان من ألم داخلي عند شاعر فلا يستطيع ان ينتج شيئا عظيما الا اذا وضع نفسه في حالة الخروج من الالم. أفهم ان الالم يصدر عنه صرخات شعرية، ولكني اعرف ايضا ان الفرح يصدر عنه تنهدات تأتي من الاقتراب من الله وان كان لا بد من لعبة شعرية يلبسها فرحه. نبقى في السر الكامل.

            غير اني ابقى حزينا بعد أن أمست البشرية عندنا وعند الآخرين قليلة الإنتاج للشعر او ما يشبه الشعر وصارت مسطحة الإدراك للكلمة الوجدانية. هل نحن تحت تأثير الصورة وبتنا في حضارة الصورة وهل أغلق الكتاب؟ لا أفقد أملي بأن الكتاب لا يموت وان التكنولوجيا المصورة لن تسعدنا الى الابد. انا واثق ان الصورة التي تردنا وحدها لا تنقل الينا النفس المعذبة او النفس الفرحة وان الإنسانية بعد هذه السكرة لا بد لها ان تستيقظ لتتمتع بالكلمة الجميلة تلك الناقلة للحق، ذلك لان الصورة وحدها لا تحرر والحق يحرر.

            انا لست ضد الكتابة ان كانت غاية في التبسيط فهي لها منافع لاوساط كثيرة، ولكن الكلمة الملهمة اذا انبثقت عن الكيان الداخلي عميقة براقة فيها دائما تكليم وان الحقيقة التي في كل انسان متنور تتقبلها. من يعطيني ان  تكون مجموعات من البشر أفاض الله عليهم نورا قادرة ان تتحرك داخليا وان تسمو وتتطهّر.

            والقارئ الكبير يصير ما يقرأ، فإن قرأت ما هو عظيم تصبح بدورك ما انت قارئ. إن علماءنا في الاسكندرية في القرن الثالث للميلاد لما ابتغوا ان يشرحوا كلام المسيح: »انا خبز الحياة« قالوا انما هذا الخبز هو كلمة الحياة. سعيك اذًا ان تفتش عن كلمات  تحيا بها. هناك في البشر من له ان يعطي كلمة حياة اذا هو بلغها كائنا ما كانت طريقته في الاداء. قد يكون فقيرا في اللفظ ولكنه اذا تفوه بكلمة نارية تصبح فيك نارا ونورا.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

مولد يوحنا المعمدان/ الأحد في 24 حزيران 2007 / العدد 25

الواضح من قراءة الأناجيل الأربعة أنها تخصص نصوصا طويلة عن القديس يوحنا السابق (لمجيء المسيح) والصابغ (والصبغة بالعربية هي المعمودية). وهو من القلائل جدا الذين لهم عيد مولد. بعض القديسين نعرف تاريخ وفاتهم او استشهادهم، ويوم الشهادة نعتبره يوم مولدهم الحقيقي. لعل تخصيص فصول كاملة ليوحنا مرتبط بأن أول بشارة السيد: «توبوا فقد اقترب ملكوت السموات» هي إياها التي نادى بها يوحنا، أَم كون يوحنا دلّ على السيّد بقوله: «هذا هو حَمَلُ الله الحامل خطايا العالم» وتاليا تنبأ عن صلبه مباشرة كما لم يفعل نبي قبله بهذا الوضوح، أَم السبب يعود الى كون الثالوث القدوس قد ظهر على نهر الأردن فيما كان يعمّد السيّد، أَم ان السبب هو ان يوحنا آخِر نبي في العهد القديم الذي كان موته صورة عن موت السيد. هذه كلها أسباب تجعلني أُقدّر ما دعا الإنجيليين كلهم الى أن يتحدثوا عنه بهذا المقدار.

الفصل المتلوّ اليوم مؤلف من ثلاثة مقاطع جمعتها الكنيسة من مطلع إنجيل لوقا، ونسبها هذا الى التراث الشفهي السابق لكتابته. تقصّى هذه الأمور ولا سيما ان لوقا لا يعرف ما يتعلّق بيوحنا مباشرة لكونه كان أنطاكيًا اي من خارج فلسطين، ولكنه أراد ان يؤكد انه تقصّى عن هذه الأمور مِن الذين سبقوه في كنيسة اورشليم.

روى ما حدث لزخريا والد يوحنا، وذكر ان هذا المولد فيه تدخل إلهي ويُسمّيه الولدَ المنتظَر يوحنا وهي تعني ان الله حن،ّ ولا شك ان الاسم يتجاوز الشخص الى الدور الذي سيلعبه في كشف المسيح للناس. ولهذا السبب يكون عظيما. وهذا الكلام هو من جبرائيل الملاك نفسه الذي بشّر مريم. وهو يشبه والدة الله بأن الملاك قال عنه «ويمتلئ من الروح القدس»، والملاك قال لأم يسوع الشيء نفسه لما سمّاها الممتلئة نعمة.

الجانب السياسي في شخصيته انه يتقدم امام الرب «بروح ايليا وقوّته» أي بحماسة ايليا وشجاعته. ذاك قاوم آخاب الملك، وهذا قاوم هيرودس الملك. ولا مبرر لأن نقول كإحدى الطوائف في بلدنا ان ايليا تقمّص في يوحنا المعمدان. «بروح ايليا» تعني بفضائل ايليا ونفسيّته وأسلوبه في تحدّي العظماء ولا سيما ان اليهود لم يكونوا يعتقدون في التقمّص.

وما شدد عليه لوقا ان أليصابات أصرّت على ان يُدعى يوحنا ولم تتشاور وزوجها حول هذه التسمية لأن زخريا قد صار أبكم، وما عرف الناس رأيه باسم ابنه الا بعد ان أعطوه لوحًا فكتب الاسم ذاته، وعند لوقا هذا يعني ان الاسم جاء للولد بوحي إلهي لزخريا وامرأته.

اذ ذاك انفتح فم الرجل ولسانه. وهو بدوره امتلأ من الروح القدس، وايمان كنيستنا ان أنبياء العهد القديم يحلّ عليهم الروح القدس ليكتبوا. ولذلك نعتبر كلاً من الستة عشر نبيًا الذين وضعوا 16 كتابا قديسين، ويُسمّى المسيحيون بأسمائهم.

في صلاة زخريا يقول: «انه افتقد وصنع فداء لشعبه». معنى ذلك ان زخريا كان يتكلم عن المسيح، لأن المعمدان لم يصنع فداء لشعبه، وتنبأ عن ابنه قائلا: «انكَ تسبق امام وجه الرب لتعِدّ طرقه»، وكأن هنا لوقا يشير الى نبوءة إشعياء التي اتخذها الإنجيل: «أعدّوا طريق الرب».

بعد هذه النبوءة، ينهي لوقا الانجيلي قوله عن الصابغ بهذا الكلام: «اما الصبي فكان ينمو ويتقوّى بالروح» ويريد هنا الروح القدس. ثم يقول: «وكان في البراري الى يوم ظهوره لإسرائيل» اي الى الفترة التي عمّد فيها الشعب. هذا هو الجانب البتولي عنده، وكان هذا النوع من النسك معروفا عندهم ولو قليلا.

العيد العظيم لقديسنا يبقى طبعا عيد قطع رأسه. اذ ذاك ظهر مجد الله فيه.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

من هم عظماؤك؟ / السبت 23 حزيران ٢٠٠٧

كل منا له مثال يعظمه او يقتدي به لان كل إنسان له تصوّر للأعلى او للأسمى. فعظيمك الانسان الجميل او الغني او السياسي او المثقف او القديس. قل لي من عظيمك أقل لك من أنت. هذه هي طريقة لامتحان قلبك امام الحقيقة.

                 انا أفهم ان تحب الجمال. هذا شيء لا يحيد عنه الابرار اذا استقلّوا روحيا عن هذا العالم ولكنه مسعى باطل اذ لا تقدر كما قال السيد ان تزيد على قامتك ذراعا واحدة، ان تقصّر مثلا أنفك الضخم او ان تغيّر لون عينيك. لا تستطيع ان تقتدي بالآخر تشريحيا ولو اقتديت بالاناقة. حتى هذه لا  تُكتسب اكتسابا اذ تحتاج الى ذوق فيك. ثم ما يعني الجمال وما هي فائدته في العمق؟ اذا سحرت الصبية بذكاء مفرط او سمو خُلق تستغني عن فتنة جسدها. خذ مسافة من المنحوت البشري لانه ليس مكان لقاء حق. هذا سر الله في مخلوقاته وليس لك فيه شيء.

                 راقب إعجابك لان كل إعجاب التزام كما علّمني مرة بطريركي السيد اغناطيوس الرابع. ما تتأمّله اعرف مداه واحتشم في الكلام لان انفراط الكلمة يؤدي الى التفرّط بالعمل ودع الله وحده يسرّ بخلائقه.

                 بقوة هذا الخطر اغراء نفسيتك بالمال هذا الذي قال الله عنه انه ينافسه في الربوبية وقال فيه بولس مفسّرا: «محبة المال أصل كل الشرور». الاكتناز فرصة عشق والعشق له مكانة موقتة في نمونا العاطفي حتى ينتهي بالزواج. اما استمراره فمصدر اضطراب او خلل مقيم حتى يضربه الله بنعمة من عنده. هذه شهوة عدّها آباؤنا من الشهوات المؤذية. اذا أدركت سلطانك على المال وجعلته لا شيء في عينيك فتَدبَّر امره بمشاريع عظيمة او أغدقه بالإحسان. عندئذ يعظم في عينيك الكريم من اصحاب الثراء لان هذا يكون قد صار محبا ويكون قد تحرر من رؤية نفسه ذا كرامة خاصة.

                 انا ما قلت لك الا تجتهد لتحصيل الثروة بالطرق المشروعة. ولكن اذا لم يحصل هذا فتبقى على بهائك الروحي وعلى فهمك وتأكل خبزك بعرق جبينك وتكتفي بما تيسّر اي ما أتاك من يسر الله.

                 خشيتي من الوفرة لانها باب السلطة والسلطة طريق الى التسلط. اذ ذاك انت معبود. واذ ذاك اخشى عليك منافسة الله. خوفي ان تشتهي ان يتوسّلك الناس وان يتملّقوا حولك اشتهاء منهم لبعض مما عندك. عند ذاك لا يقيمون معك علاقة انسان بإنسان لانك قد صرت فرصة لشهوتهم وقطعت حقا علاقة القلب بالقلب.

                 في كل هذا اسهر على استقلالك عما بين يديك، عما تعطيه وما تأخذه واسعَ فقط الى انسكاب قلبك في قلوب الآخرين بالوداعة غير مقتحم أحدا تجد ميزانا لاستعمال المال. هذا يهديك الى العطاء والعطاء يزيدك محبة.

#          #

#

                 اما السياسة عندنا فهي، في واقعها، ويلة الويلات وان كان لا بد منها، وفي العالم اجمع هي كابوس على من يقوم بها ان كان مستقيما، وتجاورها اخطار كثيرة في الديموقراطيات اذا انحزب الناس ام لم ينحزبوا. ان يكون عندك سلطة وتمارسها بلا شهوة فأمر يكاد يكون مستحيلا. انا لست اقول ألا تتسيس ففي هذا خدمة للبلد، ولكن اعرف الا تدوس الناس وان تخاصم بشرف، بلا شتيمة ولا شماتة من اجل علو البلد ونقائه وقوته. قد لا يكون شيء فيه ترهب مثل النشاط السياسي. قد عرفنا ممن تبوأ أعلى سلطة في لبنان كادت طهارته تبلغ حد القداسة وفهم شعبنا في أويقات ان خدمة البلد في الإدارة والقضاء والجندية ممكنة نقاوتها. جل ما اوحي به اليك الا تتزلّف فالزلفى امام انسان آخر تقزّم. اجتنب هذا وكن مرفوع الرأس في دنياك اي مطأطئه امام الله وحده.

                 صعوبة المواطن العادي ان تقويمه للوضع السياسي يتطلّب معرفة كبيرة بما يجري وهذا لا يتوفّر الا لقلّة. والصعوبة الثانية في البلدان الصغيرة التأثّر بعوامل المنفعة الخاصة والطائفية وما اليها وهذا فيه بعض من خوف. وهذا ليس غريبا عن بلدان كبيرة. فعندما تتبّعت الانتخابات الرئاسية الاخيرة في فرنسا لاحظت ان عناصر كثيرة في الاختيار لم تكن دائما اسبابا سياسية واقتصادية وما اليها ولكن كان ثمة عناصر عاطفية كثيرة لا تمتّ الى الفحص السياسي بصلة.

                 كن في كل هذا داعية خير وداعية فهم وتحاب بين الطوائف وأقرب الى الوفاق ولو كان في الوفاق بعض من تسويات تخسر انت فيها ونحن لا نعرف دائما الاقْوَم اذ السياسة في الاخير تجربة وان باتت ضمن الاخلاق. تحصن بهذه واعرف وفي بلدنا لا تتبع الذي يقوم لك بخدمة شخصية فله فيها حسابات، ولكن انتصر لمن اختبرته محبا للبلد ساعيا اولا الى وحدته. من هنا انك تستطيع بما هو ممكن ان تستقل عن الدوافع العاطفية ليبقى ميزانك صحيحا.

                 واذا علمت ان معرفتك بهذا الزعيم او ذاك خيبتك فليكن لك خيار آخر وليس في التغيير عيب لاني اقول لك ايضا اننا في السياسة في عالم التجربة. هذا يذكرني بما قلته لقسس بريطانيين جمعني بهم مؤتمر ديني عندهم منذ ستين سنة. قلت لهم لماذا تعدون الشعوب بخيارات لكم وتغيّرون مواقفكم؟ قالوا نحن لا نكذب ولكنا نجرب واذا اخفقت التجربة نحاول أخرى. انا افهم هذا الموقف في لبنان فلا تتحزب بسبب من علاقاتك او عائلتك او طائفتك او كتلة كنت فيها، ولكن حصّل ما استطعت من الوعي الوطني واختر ودقّق في حسن اختيارك فترة بعد فترة ولا تعشق اي زعيم بعمى حتى يتبين لك الخيط الابيض من الخيط الاسود.

                 فوق الجميل والغني والسياسي نموذج المثقف عملا بقول الإمام علي: الفهم، الفهم. فقلّة التحصيل سبب لخلل في السلوك والخيارات والعصبيات. كان برغسون الفيلسوف الفرنسي يقول انت لا تستطيع ان تعرف لغة وتبغض شعبها. فالمعرفة تذيقك جمالات العقل وغنى الحضارات، وكلما عظمت تزيدك إحاطة بالكون كله فيستقيم ميزان القيم عندك فتتحوّل الثقافة الى قدرة في دنياك وربما كشفت لك عظمة الله وتجعل لك ذوقا رهيفا وغالبا ما قادتك الى تهذيب كلامك واستقامة تعاطيك وتبطل عندك الكسل. انها ليست كثرة معارف. هي تنوّع في المعارف ينزل الى القلب وكثيرا ما طهرت الاخلاق، فالمثقف الكبير لا يكذب لابتغائه الموضوعية ولا يتحزّب لنفسه في النقاش ويُسلم للحقيقة اذا انكشفت.

                 احيانا يتفاخر المتعلّم بعلمه ولكن الشائع ان المثقفين متواضعون ليقينهم بأن علومهم اكتسبوها من الاسلاف وقد بنوا شخصيّتهم بتعب كبير. وما من شك ان الجهل مؤذٍ ولا يعوّض عنه الا البر العظيم.

                 هذا يقودني الى قناعة لا تتزعزع ان اعظم البشر هم القديسون وهم قلة عزيزة. انها قداسة الله فيهم. فاذا تشبهت بهم تصبح منذ الآن انسانا من الملكوت. ان تقهر شهواتك المضرة في دنياك هو إعلان السماء انك صعدت اليها. هو فرح الله بك ليقود خطاك على الدرجات العلى من السمو. الكون يحفظه الابرار كما يوحي بذلك الكتاب الإلهي.

                 هذه الدنيا المتعثرة خطاها، الرازحة تحت خطاياها لا ينقذها الا الطاهرون وهؤلاء لا يزحزحهم إغراء مهما عظم ولا يتعصّبون لمخلوق ويهمهم فقط ان يجيئوا في كل قرار لهم من كلمة الله. هؤلاء وحدهم يعرفون كيف يتصرفون بالمال والسياسة والثقافة وكل مجال من مجالات الوجود. وهم احرار من الغنى اذا كان لهم ومن الفقر اذا كان نصيبهم ولا يفرحهم العلم، وان اضطروا الى معاملة السلاطين فلا يحابونهم وقد يوبخونهم او يلومون باتضاع. انهم ليسوا خارج هذا العالم اذ يأكلون ويشربون ويلبسون ولكن لهذه كلها صلة بقلوبهم.

                 انهم يحبون حرية الناس جميعا بلا تفريق مذهبي ويسعون الى الحق كائنا ما كان قائله ويرون خيرا كثيرا في كل الديانات ويعترفون بذلك بلا وجل، وسرهم العميق ان لا  حد لمحبتهم ولا تمييز لهم بين انسان وانسان في الحب، فاذا جعلتهم نماذج لك ذكرهم وحده ينقذك من الضلال لأن دأبهم ان يجعلوا الله في عقلك ونفسك والخيارات. واذا انشددت اليهم تنشد الى كيانك العميق حيث يتكلم الله ويحيي.

                 واذا جئت من هذا النموذج بعد اهتداء تكتسب حرية الحق، وبعد الهدى لك ان تنصرف الى العلم الكثير والى شيء من البحبوحة ان شئتها والى نشاط وطني حلال وخلاق. القداسة وحدها جمال الانسان في دنياه وآخرته.

كل منا له مثال يعظمه او يقتدي به لان كل إنسان له تصوّر للأعلى او للأسمى. فعظيمك الانسان الجميل او الغني او السياسي او المثقف او القديس. قل لي من عظيمك أقل لك من أنت. هذه هي طريقة لامتحان قلبك امام الحقيقة.

                 انا أفهم ان تحب الجمال. هذا شيء لا يحيد عنه الابرار اذا استقلّوا روحيا عن هذا العالم ولكنه مسعى باطل اذ لا تقدر كما قال السيد ان تزيد على قامتك ذراعا واحدة، ان تقصّر مثلا أنفك الضخم او ان تغيّر لون عينيك. لا تستطيع ان تقتدي بالآخر تشريحيا ولو اقتديت بالاناقة. حتى هذه لا  تُكتسب اكتسابا اذ تحتاج الى ذوق فيك. ثم ما يعني الجمال وما هي فائدته في العمق؟ اذا سحرت الصبية بذكاء مفرط او سمو خُلق تستغني عن فتنة جسدها. خذ مسافة من المنحوت البشري لانه ليس مكان لقاء حق. هذا سر الله في مخلوقاته وليس لك فيه شيء.

                 راقب إعجابك لان كل إعجاب التزام كما علّمني مرة بطريركي السيد اغناطيوس الرابع. ما تتأمّله اعرف مداه واحتشم في الكلام لان انفراط الكلمة يؤدي الى التفرّط بالعمل ودع الله وحده يسرّ بخلائقه.

                 بقوة هذا الخطر اغراء نفسيتك بالمال هذا الذي قال الله عنه انه ينافسه في الربوبية وقال فيه بولس مفسّرا: «محبة المال أصل كل الشرور». الاكتناز فرصة عشق والعشق له مكانة موقتة في نمونا العاطفي حتى ينتهي بالزواج. اما استمراره فمصدر اضطراب او خلل مقيم حتى يضربه الله بنعمة من عنده. هذه شهوة عدّها آباؤنا من الشهوات المؤذية. اذا أدركت سلطانك على المال وجعلته لا شيء في عينيك فتَدبَّر امره بمشاريع عظيمة او أغدقه بالإحسان. عندئذ يعظم في عينيك الكريم من اصحاب الثراء لان هذا يكون قد صار محبا ويكون قد تحرر من رؤية نفسه ذا كرامة خاصة.

                 انا ما قلت لك الا تجتهد لتحصيل الثروة بالطرق المشروعة. ولكن اذا لم يحصل هذا فتبقى على بهائك الروحي وعلى فهمك وتأكل خبزك بعرق جبينك وتكتفي بما تيسّر اي ما أتاك من يسر الله.

                 خشيتي من الوفرة لانها باب السلطة والسلطة طريق الى التسلط. اذ ذاك انت معبود. واذ ذاك اخشى عليك منافسة الله. خوفي ان تشتهي ان يتوسّلك الناس وان يتملّقوا حولك اشتهاء منهم لبعض مما عندك. عند ذاك لا يقيمون معك علاقة انسان بإنسان لانك قد صرت فرصة لشهوتهم وقطعت حقا علاقة القلب بالقلب.

                 في كل هذا اسهر على استقلالك عما بين يديك، عما تعطيه وما تأخذه واسعَ فقط الى انسكاب قلبك في قلوب الآخرين بالوداعة غير مقتحم أحدا تجد ميزانا لاستعمال المال. هذا يهديك الى العطاء والعطاء يزيدك محبة.

#          #

#

                 اما السياسة عندنا فهي، في واقعها، ويلة الويلات وان كان لا بد منها، وفي العالم اجمع هي كابوس على من يقوم بها ان كان مستقيما، وتجاورها اخطار كثيرة في الديموقراطيات اذا انحزب الناس ام لم ينحزبوا. ان يكون عندك سلطة وتمارسها بلا شهوة فأمر يكاد يكون مستحيلا. انا لست اقول ألا تتسيس ففي هذا خدمة للبلد، ولكن اعرف الا تدوس الناس وان تخاصم بشرف، بلا شتيمة ولا شماتة من اجل علو البلد ونقائه وقوته. قد لا يكون شيء فيه ترهب مثل النشاط السياسي. قد عرفنا ممن تبوأ أعلى سلطة في لبنان كادت طهارته تبلغ حد القداسة وفهم شعبنا في أويقات ان خدمة البلد في الإدارة والقضاء والجندية ممكنة نقاوتها. جل ما اوحي به اليك الا تتزلّف فالزلفى امام انسان آخر تقزّم. اجتنب هذا وكن مرفوع الرأس في دنياك اي مطأطئه امام الله وحده.

                 صعوبة المواطن العادي ان تقويمه للوضع السياسي يتطلّب معرفة كبيرة بما يجري وهذا لا يتوفّر الا لقلّة. والصعوبة الثانية في البلدان الصغيرة التأثّر بعوامل المنفعة الخاصة والطائفية وما اليها وهذا فيه بعض من خوف. وهذا ليس غريبا عن بلدان كبيرة. فعندما تتبّعت الانتخابات الرئاسية الاخيرة في فرنسا لاحظت ان عناصر كثيرة في الاختيار لم تكن دائما اسبابا سياسية واقتصادية وما اليها ولكن كان ثمة عناصر عاطفية كثيرة لا تمتّ الى الفحص السياسي بصلة.

                 كن في كل هذا داعية خير وداعية فهم وتحاب بين الطوائف وأقرب الى الوفاق ولو كان في الوفاق بعض من تسويات تخسر انت فيها ونحن لا نعرف دائما الاقْوَم اذ السياسة في الاخير تجربة وان باتت ضمن الاخلاق. تحصن بهذه واعرف وفي بلدنا لا تتبع الذي يقوم لك بخدمة شخصية فله فيها حسابات، ولكن انتصر لمن اختبرته محبا للبلد ساعيا اولا الى وحدته. من هنا انك تستطيع بما هو ممكن ان تستقل عن الدوافع العاطفية ليبقى ميزانك صحيحا.

                 واذا علمت ان معرفتك بهذا الزعيم او ذاك خيبتك فليكن لك خيار آخر وليس في التغيير عيب لاني اقول لك ايضا اننا في السياسة في عالم التجربة. هذا يذكرني بما قلته لقسس بريطانيين جمعني بهم مؤتمر ديني عندهم منذ ستين سنة. قلت لهم لماذا تعدون الشعوب بخيارات لكم وتغيّرون مواقفكم؟ قالوا نحن لا نكذب ولكنا نجرب واذا اخفقت التجربة نحاول أخرى. انا افهم هذا الموقف في لبنان فلا تتحزب بسبب من علاقاتك او عائلتك او طائفتك او كتلة كنت فيها، ولكن حصّل ما استطعت من الوعي الوطني واختر ودقّق في حسن اختيارك فترة بعد فترة ولا تعشق اي زعيم بعمى حتى يتبين لك الخيط الابيض من الخيط الاسود.

                 فوق الجميل والغني والسياسي نموذج المثقف عملا بقول الإمام علي: الفهم، الفهم. فقلّة التحصيل سبب لخلل في السلوك والخيارات والعصبيات. كان برغسون الفيلسوف الفرنسي يقول انت لا تستطيع ان تعرف لغة وتبغض شعبها. فالمعرفة تذيقك جمالات العقل وغنى الحضارات، وكلما عظمت تزيدك إحاطة بالكون كله فيستقيم ميزان القيم عندك فتتحوّل الثقافة الى قدرة في دنياك وربما كشفت لك عظمة الله وتجعل لك ذوقا رهيفا وغالبا ما قادتك الى تهذيب كلامك واستقامة تعاطيك وتبطل عندك الكسل. انها ليست كثرة معارف. هي تنوّع في المعارف ينزل الى القلب وكثيرا ما طهرت الاخلاق، فالمثقف الكبير لا يكذب لابتغائه الموضوعية ولا يتحزّب لنفسه في النقاش ويُسلم للحقيقة اذا انكشفت.

                 احيانا يتفاخر المتعلّم بعلمه ولكن الشائع ان المثقفين متواضعون ليقينهم بأن علومهم اكتسبوها من الاسلاف وقد بنوا شخصيّتهم بتعب كبير. وما من شك ان الجهل مؤذٍ ولا يعوّض عنه الا البر العظيم.

                 هذا يقودني الى قناعة لا تتزعزع ان اعظم البشر هم القديسون وهم قلة عزيزة. انها قداسة الله فيهم. فاذا تشبهت بهم تصبح منذ الآن انسانا من الملكوت. ان تقهر شهواتك المضرة في دنياك هو إعلان السماء انك صعدت اليها. هو فرح الله بك ليقود خطاك على الدرجات العلى من السمو. الكون يحفظه الابرار كما يوحي بذلك الكتاب الإلهي.

                 هذه الدنيا المتعثرة خطاها، الرازحة تحت خطاياها لا ينقذها الا الطاهرون وهؤلاء لا يزحزحهم إغراء مهما عظم ولا يتعصّبون لمخلوق ويهمهم فقط ان يجيئوا في كل قرار لهم من كلمة الله. هؤلاء وحدهم يعرفون كيف يتصرفون بالمال والسياسة والثقافة وكل مجال من مجالات الوجود. وهم احرار من الغنى اذا كان لهم ومن الفقر اذا كان نصيبهم ولا يفرحهم العلم، وان اضطروا الى معاملة السلاطين فلا يحابونهم وقد يوبخونهم او يلومون باتضاع. انهم ليسوا خارج هذا العالم اذ يأكلون ويشربون ويلبسون ولكن لهذه كلها صلة بقلوبهم.

                 انهم يحبون حرية الناس جميعا بلا تفريق مذهبي ويسعون الى الحق كائنا ما كان قائله ويرون خيرا كثيرا في كل الديانات ويعترفون بذلك بلا وجل، وسرهم العميق ان لا  حد لمحبتهم ولا تمييز لهم بين انسان وانسان في الحب، فاذا جعلتهم نماذج لك ذكرهم وحده ينقذك من الضلال لأن دأبهم ان يجعلوا الله في عقلك ونفسك والخيارات. واذا انشددت اليهم تنشد الى كيانك العميق حيث يتكلم الله ويحيي.

                 واذا جئت من هذا النموذج بعد اهتداء تكتسب حرية الحق، وبعد الهدى لك ان تنصرف الى العلم الكثير والى شيء من البحبوحة ان شئتها والى نشاط وطني حلال وخلاق. القداسة وحدها جمال الانسان في دنياه وآخرته.

كل منا له مثال يعظمه او يقتدي به لان كل إنسان له تصوّر للأعلى او للأسمى. فعظيمك الانسان الجميل او الغني او السياسي او المثقف او القديس. قل لي من عظيمك أقل لك من أنت. هذه هي طريقة لامتحان قلبك امام الحقيقة.

                 انا أفهم ان تحب الجمال. هذا شيء لا يحيد عنه الابرار اذا استقلّوا روحيا عن هذا العالم ولكنه مسعى باطل اذ لا تقدر كما قال السيد ان تزيد على قامتك ذراعا واحدة، ان تقصّر مثلا أنفك الضخم او ان تغيّر لون عينيك. لا تستطيع ان تقتدي بالآخر تشريحيا ولو اقتديت بالاناقة. حتى هذه لا  تُكتسب اكتسابا اذ تحتاج الى ذوق فيك. ثم ما يعني الجمال وما هي فائدته في العمق؟ اذا سحرت الصبية بذكاء مفرط او سمو خُلق تستغني عن فتنة جسدها. خذ مسافة من المنحوت البشري لانه ليس مكان لقاء حق. هذا سر الله في مخلوقاته وليس لك فيه شيء.

                 راقب إعجابك لان كل إعجاب التزام كما علّمني مرة بطريركي السيد اغناطيوس الرابع. ما تتأمّله اعرف مداه واحتشم في الكلام لان انفراط الكلمة يؤدي الى التفرّط بالعمل ودع الله وحده يسرّ بخلائقه.

                 بقوة هذا الخطر اغراء نفسيتك بالمال هذا الذي قال الله عنه انه ينافسه في الربوبية وقال فيه بولس مفسّرا: «محبة المال أصل كل الشرور». الاكتناز فرصة عشق والعشق له مكانة موقتة في نمونا العاطفي حتى ينتهي بالزواج. اما استمراره فمصدر اضطراب او خلل مقيم حتى يضربه الله بنعمة من عنده. هذه شهوة عدّها آباؤنا من الشهوات المؤذية. اذا أدركت سلطانك على المال وجعلته لا شيء في عينيك فتَدبَّر امره بمشاريع عظيمة او أغدقه بالإحسان. عندئذ يعظم في عينيك الكريم من اصحاب الثراء لان هذا يكون قد صار محبا ويكون قد تحرر من رؤية نفسه ذا كرامة خاصة.

                 انا ما قلت لك الا تجتهد لتحصيل الثروة بالطرق المشروعة. ولكن اذا لم يحصل هذا فتبقى على بهائك الروحي وعلى فهمك وتأكل خبزك بعرق جبينك وتكتفي بما تيسّر اي ما أتاك من يسر الله.

                 خشيتي من الوفرة لانها باب السلطة والسلطة طريق الى التسلط. اذ ذاك انت معبود. واذ ذاك اخشى عليك منافسة الله. خوفي ان تشتهي ان يتوسّلك الناس وان يتملّقوا حولك اشتهاء منهم لبعض مما عندك. عند ذاك لا يقيمون معك علاقة انسان بإنسان لانك قد صرت فرصة لشهوتهم وقطعت حقا علاقة القلب بالقلب.

                 في كل هذا اسهر على استقلالك عما بين يديك، عما تعطيه وما تأخذه واسعَ فقط الى انسكاب قلبك في قلوب الآخرين بالوداعة غير مقتحم أحدا تجد ميزانا لاستعمال المال. هذا يهديك الى العطاء والعطاء يزيدك محبة.

#          #

#

                 اما السياسة عندنا فهي، في واقعها، ويلة الويلات وان كان لا بد منها، وفي العالم اجمع هي كابوس على من يقوم بها ان كان مستقيما، وتجاورها اخطار كثيرة في الديموقراطيات اذا انحزب الناس ام لم ينحزبوا. ان يكون عندك سلطة وتمارسها بلا شهوة فأمر يكاد يكون مستحيلا. انا لست اقول ألا تتسيس ففي هذا خدمة للبلد، ولكن اعرف الا تدوس الناس وان تخاصم بشرف، بلا شتيمة ولا شماتة من اجل علو البلد ونقائه وقوته. قد لا يكون شيء فيه ترهب مثل النشاط السياسي. قد عرفنا ممن تبوأ أعلى سلطة في لبنان كادت طهارته تبلغ حد القداسة وفهم شعبنا في أويقات ان خدمة البلد في الإدارة والقضاء والجندية ممكنة نقاوتها. جل ما اوحي به اليك الا تتزلّف فالزلفى امام انسان آخر تقزّم. اجتنب هذا وكن مرفوع الرأس في دنياك اي مطأطئه امام الله وحده.

                 صعوبة المواطن العادي ان تقويمه للوضع السياسي يتطلّب معرفة كبيرة بما يجري وهذا لا يتوفّر الا لقلّة. والصعوبة الثانية في البلدان الصغيرة التأثّر بعوامل المنفعة الخاصة والطائفية وما اليها وهذا فيه بعض من خوف. وهذا ليس غريبا عن بلدان كبيرة. فعندما تتبّعت الانتخابات الرئاسية الاخيرة في فرنسا لاحظت ان عناصر كثيرة في الاختيار لم تكن دائما اسبابا سياسية واقتصادية وما اليها ولكن كان ثمة عناصر عاطفية كثيرة لا تمتّ الى الفحص السياسي بصلة.

                 كن في كل هذا داعية خير وداعية فهم وتحاب بين الطوائف وأقرب الى الوفاق ولو كان في الوفاق بعض من تسويات تخسر انت فيها ونحن لا نعرف دائما الاقْوَم اذ السياسة في الاخير تجربة وان باتت ضمن الاخلاق. تحصن بهذه واعرف وفي بلدنا لا تتبع الذي يقوم لك بخدمة شخصية فله فيها حسابات، ولكن انتصر لمن اختبرته محبا للبلد ساعيا اولا الى وحدته. من هنا انك تستطيع بما هو ممكن ان تستقل عن الدوافع العاطفية ليبقى ميزانك صحيحا.

                 واذا علمت ان معرفتك بهذا الزعيم او ذاك خيبتك فليكن لك خيار آخر وليس في التغيير عيب لاني اقول لك ايضا اننا في السياسة في عالم التجربة. هذا يذكرني بما قلته لقسس بريطانيين جمعني بهم مؤتمر ديني عندهم منذ ستين سنة. قلت لهم لماذا تعدون الشعوب بخيارات لكم وتغيّرون مواقفكم؟ قالوا نحن لا نكذب ولكنا نجرب واذا اخفقت التجربة نحاول أخرى. انا افهم هذا الموقف في لبنان فلا تتحزب بسبب من علاقاتك او عائلتك او طائفتك او كتلة كنت فيها، ولكن حصّل ما استطعت من الوعي الوطني واختر ودقّق في حسن اختيارك فترة بعد فترة ولا تعشق اي زعيم بعمى حتى يتبين لك الخيط الابيض من الخيط الاسود.

                 فوق الجميل والغني والسياسي نموذج المثقف عملا بقول الإمام علي: الفهم، الفهم. فقلّة التحصيل سبب لخلل في السلوك والخيارات والعصبيات. كان برغسون الفيلسوف الفرنسي يقول انت لا تستطيع ان تعرف لغة وتبغض شعبها. فالمعرفة تذيقك جمالات العقل وغنى الحضارات، وكلما عظمت تزيدك إحاطة بالكون كله فيستقيم ميزان القيم عندك فتتحوّل الثقافة الى قدرة في دنياك وربما كشفت لك عظمة الله وتجعل لك ذوقا رهيفا وغالبا ما قادتك الى تهذيب كلامك واستقامة تعاطيك وتبطل عندك الكسل. انها ليست كثرة معارف. هي تنوّع في المعارف ينزل الى القلب وكثيرا ما طهرت الاخلاق، فالمثقف الكبير لا يكذب لابتغائه الموضوعية ولا يتحزّب لنفسه في النقاش ويُسلم للحقيقة اذا انكشفت.

                 احيانا يتفاخر المتعلّم بعلمه ولكن الشائع ان المثقفين متواضعون ليقينهم بأن علومهم اكتسبوها من الاسلاف وقد بنوا شخصيّتهم بتعب كبير. وما من شك ان الجهل مؤذٍ ولا يعوّض عنه الا البر العظيم.

                 هذا يقودني الى قناعة لا تتزعزع ان اعظم البشر هم القديسون وهم قلة عزيزة. انها قداسة الله فيهم. فاذا تشبهت بهم تصبح منذ الآن انسانا من الملكوت. ان تقهر شهواتك المضرة في دنياك هو إعلان السماء انك صعدت اليها. هو فرح الله بك ليقود خطاك على الدرجات العلى من السمو. الكون يحفظه الابرار كما يوحي بذلك الكتاب الإلهي.

                 هذه الدنيا المتعثرة خطاها، الرازحة تحت خطاياها لا ينقذها الا الطاهرون وهؤلاء لا يزحزحهم إغراء مهما عظم ولا يتعصّبون لمخلوق ويهمهم فقط ان يجيئوا في كل قرار لهم من كلمة الله. هؤلاء وحدهم يعرفون كيف يتصرفون بالمال والسياسة والثقافة وكل مجال من مجالات الوجود. وهم احرار من الغنى اذا كان لهم ومن الفقر اذا كان نصيبهم ولا يفرحهم العلم، وان اضطروا الى معاملة السلاطين فلا يحابونهم وقد يوبخونهم او يلومون باتضاع. انهم ليسوا خارج هذا العالم اذ يأكلون ويشربون ويلبسون ولكن لهذه كلها صلة بقلوبهم.

                 انهم يحبون حرية الناس جميعا بلا تفريق مذهبي ويسعون الى الحق كائنا ما كان قائله ويرون خيرا كثيرا في كل الديانات ويعترفون بذلك بلا وجل، وسرهم العميق ان لا  حد لمحبتهم ولا تمييز لهم بين انسان وانسان في الحب، فاذا جعلتهم نماذج لك ذكرهم وحده ينقذك من الضلال لأن دأبهم ان يجعلوا الله في عقلك ونفسك والخيارات. واذا انشددت اليهم تنشد الى كيانك العميق حيث يتكلم الله ويحيي.

                 واذا جئت من هذا النموذج بعد اهتداء تكتسب حرية الحق، وبعد الهدى لك ان تنصرف الى العلم الكثير والى شيء من البحبوحة ان شئتها والى نشاط وطني حلال وخلاق. القداسة وحدها جمال الانسان في دنياه وآخرته.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

إنجيل اليوم/ الأحد في 17 حزيران 2007 / العدد 24

«سراج الجسد العين» التي تفتتح هذه القراءة تعني روح الإنسان وقدرته الأدبية. فإن كانت عينك بسيطة، لا بغض فيها لأحد، فجسدك اي كيانك يكون كله نيّرا. وإن كانت عينك شريرة، أنانية، كل شخصيّتك تكون كذلك. «واذا كان النور فيك ظلاما فالظلام كم يكون»، اذ كانوا يعتقدون قديما ان النور كان في العين. اذ ذاك انت كلك ظلام.

بعد هذا يقول السيد: «لا يستطيع احد ان يعبد ربين»، ويريد بالربين: الله والمال. المال في خدمتك وليس معبودك. هذا يذكّرنا بالمثل الشعبي: «ما بتقدر تحمل بطيختين بيد واحدة». المال اذا صرت عبدا له يأخذ كل قواك ولا يجعلك تطلب شيئا آخر وتحبه على كل الناس. تتشاجر مع زوجتك او إخوتك وأخواتك وأولادك من اجل المال. بالضرورة عاشق المال بخيل ويبخل على اقرب الناس اليه. ويتفاخر بما عنده، ويعتبر نفسه عظيمًا ونافذًا وقويًا. ويريد أن يدور الناس حوله. والرذيلة التي تتبع عشق المال هي حب التسلّط.

غير أنك لا تستطيع أن تتحرر من هذه العبودية إلا اذا أنفقتَ كثيرا على المحتاجين. لهم حق في مالك لأنك أنت مؤتمن عليه ائتمانا لكي يتمتع به المحروم والمريض الذي ليس عنده ثمن الدواء والتلميذ الفقير الذي لا يقدر اهله ان يدفعوا عنه أقساط المدرسة. هؤلاء جميعا إخوتك ومثل اولادك وقد فّوضك الله أمرهم. فاذا جاءك المال حلالا يكون نعمة لكي تتصرف بها في سبيل الآخرين فيصبح لهم نعمة. واذا جاءك حرامًا فمن باب اولى ان توزعه حتى لا تتكاثر خطاياك.

ويكمل يسوع فكره بقوله: «لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون». انه لم يَدْعُنا أن نهمل السعي الى اللباس والطعام والشراب، ولكنه نهانا عن ان يصبح هذا همّا لنا. اجتهد انت حسب واجبك لك ولعائلتك والفقراء. لذلك يتابع فكره بقوله: «أليست النفس أفضل من الطعام، والجسد افضل من اللباس؟». وهو يقصد ان العناية بحياتك الروحية وإنماء فضائلك تأتي بالدرجة الأولى، وبعد ذلك تأتي العناية بالأمور الدنيوية.

ويعطينا مثلا من عالم الطير: «انظروا الى طيور السماء فانها لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء وأبوكم السماوي يقوتها». الكلمة الأساسية هنا «لا تخزن». اجل في الحياة الاقتصادية العصرية لا بد من ان تحزن فيكون لك حساب في المصرف لتسند نفسك وعائلتك اذا هبط المستوى الاقتصادي، ولكن قم بهذا وانت غير محب للمال بل محب لعائلتك والناس. لا تفرح بأي شيء تقتنيه. لك الحق ان تفرح لأنك تحسب انه لك عطاء تقوم به. لا تفرح بالكسب ولكن بالعطاء.

ثم يقول: «من منكم اذا اهتم يقدر ان يزيد على قامته ذراعا واحدة؟». لا يمنعنا السيد عن السعي ولكنه يمنعنا عن القلق. كذلك لا تخشَ الموت. لعلّ الموت أهم شيء مقلق يخافه تقريبا جميع الناس الا المتأصلون بمحبة الرب تأصلا كبيرا. طبعا راعِ صحّتك، ولكن لا ينشغل بالك بها حتى الاضطراب. اطلب معالجة الأطباء، ولكن لا تمت همّا قبل ان تموت. انت لا تستطيع ان تقدّم الموت او تؤخّره. كنْ واثقًا بالرب، واطلب ان يكون الى جانبك في ساعات الاحتضار، لمعرفتك ان المسيح هو القيامة والحياة. اذا عشت معه تنحلّ كل العقد المتعلّقة بالطعام والمسكن والمعيشة كلها، وتكون مستعدا ان تفارق هذه الحياة وانت مطمئن الى الحياة الأبدية.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

لبنان الرجاء / السبت ١٦ حزيران ٢٠٠٧

                     لبنان الأبيض كما يعني اسمه في اللغات الشرقية يلبسونه السواد لتتغيّر حقيقته. من يضع المتفجّرات؟ انه مرجع واحد لا ريب في ذلك وليس مرجحا ان نعرفه واذا كان هاما لن نبوح باسمه ولا سيما ان التحقيق سري وبين التحقيق والمحاكمات يمضي وقت طويل. والوتيرة التي تمت فيها التفجيرات الأخيرة تنبئ بأن ثمة خطة موضوعة لمعاقبة هذا البلد وإضعافه ليسكت ولدفع ابنائه الى الهجرة. شيء ما يزعج بعضا في وجود هذا البلد وفي تمتّعه بالحرية وتلاقي أطيافه على السلام. ولن يعرف ذوونا القتلة. هذه حرقة في النفوس يريدها المجرمون لأن من شأنها زرع الخوف وإشاعة الفقر وشل الحركة الاقتصادية وتاليا اليأس من محاولات الوفاق الوطني الذي نبتغيه وربما أمل الفتنة بين الكتل السياسية المتخاصمة او بين طوائف.

                     هذا يذكّرني بالكتاب العظيم الذي وضعه السفير الصديق عادل اسماعيل عن الوثائق الدبلوماسية التي كانت تصدر لقناصل الدول منذ بضعة قرون الى عواصم بلادهم وقد أثبت المؤلف ان اهل البلد لم يزرعوا الفتنة مرة فيما بينهم وان الأجانب كانوا دوما يضعونها. لست أعلم اذا تغيّر المشهد الآن ولكن عندنا على الأقل التأكيد الجازم الا تقوم فتنة بين الشيعة والسنة والقناعة على ان المسيحيين لن يباشروا بالقتال بعد ان ضعفت شكيمتهم في حروب متتالية وانهم مصممون على ملازمة لبنان وفيه يجدون فرحهم.

                     الشدة الكبرى عند كل لبناني انه غير محفوظ وانه مرشح للموت في كل حين. لذلك صار يغلق محله باكرا ويلغي أحيانا سهراته ليحل محل ذلك القلق الدائم على نفسه وعلى اولاده بما يحمل ذلك من هزات نفسية وتمزقات داخلية تقود الى الاتهامات وضعف الثقة بعودة السلام. الناس باتوا كلهم على المحك وعلى اننا مسيّرون بقدر أعمى وأخطر ما فيه عدم الفهم وعدم المعنى لضعف الايمان بالانفراج.

                     انه لمن الصعوبات الكبرى ان تحس ان بلدك مستهدف وانك انت شخصيا معرض للموت وكذلك أولادك. السؤال المرعب الذي سمعته الأسبوع الماضي في برنامج «كلام الناس» هو سؤال نسيبة ضابط ذبحه واحد من »فتح الإسلام« لماذا قتل نسيبي؟ كيف تعالج غشاوة على القلب وضعها مجرم مأجورا كان ام غير مأجور؟ هل يعرف هذا المرتكب قيمة الرباط العائلي عند قتيله؟ هل تنسحب الانسانية من الإنسان الى هذا الحد؟ هذه كلها اسئلة تقلقني وأحاول ضبط نفسي وكبت دموعي.

                     أظن ان المجرمين في هذه الأحوال عندهم قدر من علم النفس ويعلمون نتائج ما يفعلون ويبتغون اكل البلد بالتفتيت والتشرذم عله لا تقوم له قائمة. وهذا يسليهم حتى يأخذهم الطوفان هم ايضا. هذا هو انتقام الله.

#            #

#

                     يبدو اليوم ان ثمة حلولا سياسية في الآفاق او تمهيدا لحلول. ليس في الحياة السياسية ما يمكن تأكيده. لكن اذا سرنا الى شيء من الهدوء السياسي لا بد ان يترجم هذا هدأة امنية. الناس تعبوا أصلا من التخاصم بكل ألوانه ولكن اذا سرنا الى بعض من سلام نرجو ان يلقى شعبنا شيئا من الرجاء وألّا يخنقه يأس من مصير البلد ليلازمه ويجد راحة لنفسه. والله معطي الرجاء ولا بد ان يقوي ضعاف النفوس فيحسوا انهم غير متروكين وان الرحمة تأخذنا والدفء يعود الى عائلات بذهاب الخوف.

                     مررنا بتجارب كثيرة وبآلام رهيبة وأحسسنا ان كل رياح الأرض تذهب بنا وما فهمنا لماذا نحن موضع غضب او موضع بغض. هل الله معاقبنا ام ان الاشرار المنتشرين في الأرض هم المعاقبون. أفهم ان ترتجف القلوب ولكن شيئا لا يؤذي الإنسان مثل الخوف. »نجّنا يا الله من الدماء، يا إله الخلاص«. نجّنا من غرق البلد وتحطيمه البطيء والمبرمج. نحن نشتهي فقط ان ينطوي الشر، ان تعود الأفاعي الى أوكارها. نرجو الا ينكسر قلب ولا عظم والا تسيل قطرة دم وألا تدمع عين حتى نهنأ قليلا قبل ان نموت بهذا البلد الطيب السمح وبالأحبة اذا نجوا.

                     نرجو ألا تبقى بيروت «تبكي بكاء في الليل… أعداؤها مطمئنون… اسمع اني أتنهّد فليس من يعزيني» (مراثي ارمياء). بعد هذا النحيب الفاجع يقول النبي: «مراحم الرب لم تنتهِ لأن رأفته لا تزول… ثم يقول: «قالت نفسي: الرب نصيبي فلذلك أرجوه». الرب صالح للذين ينتظرونه». تنزه المراثي عن النبذ الإلهي ولكن صاحبها يتوجع في المرثاة الرابعة ويقول: «الأطفال طلبوا خبزا ولم يكن من يكسره لهم حتى قال ما يشبه حالتنا في لبنان: «كلّت عيوننا من ترقب نصرة باطلة». اما نحن فلنا نصرة هنا وثمة وارجو ان يتعاطى الزعماء السياسيون بلا ذل. الغرباء يعرفون ان البلد يشرف على الهاوية ولكن الغريب لا يستطيع ان يكون مدبرا لنا في غياب وحدتنا وتناقض الخيارات.

                     وينهي ارميا مرثاته الرابعة فيقول: «أنت يا رب ثابت للأبد وعرشك من جيل الى جيل ويبقى في الرجاء».

                     شيوخنا والكهول على عادتهم الموروثة في هذا البلد المؤمن يقيمون على الرجاء. نرجو ان يأتي اليه شبابنا التشبث بالأرض. لو لم يكن للبنان رسالة لما قلت لأحد هذا. فالتراب والزهر والشجر والحجر في كل مكان ولك ان تجوب الأرض حرا. ولكني اعتقد ان لنا في اجتماعنا دعوة الى سلام كل الشعوب والى تنوع المواهب فيها وتلاقي المواهب. ربما كان لكل طائفة خصوصية قائمة على بعض المزايا وتجمع الخصوصيات يصنع لبنان.

                     غير ان الرجاء الى الله يلقي علينا مسؤولية الصبر اذا طال العذاب والصبر ليس استكانة بسبب من هزيمة. فقد اوضح المفهوم بولس: «بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء» (رومية ٤:١٥) وبعد هذا توا يتكلّم على إله الصبر. انه اذًآ لفضيلة نازلة علينا من فوق وليس بمجرد جهد بشري. وعندما تنزل الهبة يعضدنا الرب لنكمل النفس بكل عمل صالح. ان الصابرين على هذا النحو هم  الذين يشددون الأمة حتى لا نقع جميعا.

                     فاذا رأيت فاجعة حريق ودمار على الشاشة فادعُ دعاءً حارًا من اجل الضحايا وذويهم وامنع عن نفسك الحزن الشديد لأنه يدمر النفس ولو كان لك بعض من الحسرات. ربما استطعت ان تحلل سياسيا ولكن يزداد التحليل صعوبة وهو يتطلّب مراسا طويلا وقد دنا المراس من الاختصاص.

                     اجعل نفسك في حالة الهدوء العلوي لئلا تنهار مع الضعاف واعلم ان صبرك يقوي ايمانك اذ تعترف فيه بقدرة الله على إنقاذ لبنان والشعوب الفقيرة المضطهدة. في الحقيقة لكل شعب وجعه ونصلي من اجل السلام فيها جميعا لأن في هذا خير الانسانية كلها. ربما عززت آلامنا منذ ثلاثين سنة تعلقنا بالوطن. هذا التعلّق الشديد هو الذي يبعد الأعداء ويجعلهم يعقلون على اننا لا نؤتي أحدا أذية اولا لأن ليس عندنا وسائل الأذى وثانيا لأننا على أخطائنا الكثيرة لا نعرف الكراهية.

                     ان رغبتنا الحقيقية، شعبا واحدا، ان نسالم حسب طاقتنا جميع الناس. نصبر في الضيق عسى الله يلهم مضايقينا ليتوبوا فيرتفعوا في حضرة ربهم. ونبقى غير غاضبين. ويساعدنا على هذا قرارنا ان نلازم السلام والطهارة ونظل حارين في الروح، عابدين الرب، نبارك ولا نلعن حتى يفهم الغبي ويرعوي.

                     أظن ان جميع الفرقاء عندنا تعبوا وانهم يسعون الى كلمة سواء على أمل ان يسود العقل ويطمئن الواحد الى الآخر بسبب من ثقة نرجو ان تستعاد لنفهم للمرة الأخيرة اننا في حاجة بعضنا الى بعض واننا نتوق ان نصير جماعة واحدة بالغفران والمحبة.

                     لقد حان وقت اليقظة. اذ ذاك نسلك بلياقة كما في النهار. ارجو ان يكون الليل قد تناهى كما يقول الكتاب وتقارب النهار. دعائي ان نصير جميعا أبناء النهار بقوة واحدة وان نرى الجمالات الروحية عند الاخرين لنتمكن من رسم لوحة واحدة للوطن فنقبل خصائص الغير ومواهبه والعظام في حياة الروح متقاربة مواهبهم.

                     اذ ذاك تقوى لغة القلب على لغة السياسة المتفذلكة ونسلك تلك السياسة التي عرّفها أرسطو على أنها تدبير المدينة الواحدة من قبل الأحرار. رجائي الا يكون بيننا عبيد لهؤلاء عند أبي الفلسفة اليونانية لا يحق لهم ان يشتركوا في الحكم. الحر حر حتى ينسجم مع الحر الآخر ليرتفعا معا الى قدسية السياسة الكبرى التي هي في نهاية محبة نازلة من عند ربك.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

إنجيل اليوم/ الأحد في 10 حزيران 2007 / العدد 23

بحر الجليل الذي كان يسوع يمشي على ضفافه هو نفسه بحيرة طبرية. وكانت القرى المحيطة به مسرح التبشير الاول للسيد اذ كان هو ساكنا كفرناحوم بعد الناصرة. على هذه الضفة التقى في البدء أخوين: اول المذكورين هنا هو سمعان المدعو بطرس باليونانية التي كانت محكيّة في الجليل. هنا متى يورد اسم الرسول كما سمّاه الرب فيما بعد. اي ان يسوع اشتق اسم بيتروس كما في اليونانية من بترا التي تعني الصخرة، وأراد بها السيد ان ايمان الرجل بالمسيح هو الصخرة التي بُنيت عليها الكنيسة.

كان هو وأخوه أندراوس (وهذا اسم يوناني ايضا) يلقيان الشبكة وغالبا ما كانت مستديرة مع أثقال فيها. اختار يسوع هذين لأنه أحس بالروح الذي فيه انهما سوف يصبحان خادمين للإنجيل فقال لهما: «هلمّ ورائي فأجعلكما صيادَي الناس».

ربما كان يفكر بأنهما سيصدّقانه بعد موته وقيامته وحلول الروح القدس عليهما. ان اندماج الاثني عشر بالمعلّم كان بطيئا وفيه تردد طوال السنوات الثلاث التي قضاها في الدعوة الى الانجيل.

وبعد ان التحق هذان به، خطا خطوات ورأى أخوين آخرين من تلك المنطقة وهما يعقوب بن زبدى وأخوه يوحنا مع أبيهما على الشاطئ يصلحان شباكهما فدعاهما. ولا يكتفي الإنجيل بأن يقول: «تركا السفينة» بل أضاف: «وتركا أباهما وتبعاه». ترك الأب أصعب من ترك الشباك.

بعد هذا يقول متى عن المعلّم انه كان يطوف الجليل كله ومساحته ليست صغيرة فالبحيرة طولها 12 كيلومترا وعلى صفافها عدة قرى، وكان يعلّم في مجامع اليهود، والمجمع هو قاعة كبرى في كل بلدة فيها الكتاب المقدس، والنشاط الأساسي فيها هو قراءة الكلمة والوعظ الذي يأتي مباشرة بعد القراءة.

أهمية الوعظ في ان العهد القديم كان يتلى باللغة العبرية التي نسيها اليهود بعد ان صاروا في منفى بابل (العراق)، وصاروا يتكلمون الآرامية (وهي أصل السريانية) التي كانت لغة الحضارة في المشرق آنذاك. فيسوع علّم الناس بالآرامية، وبها كان يخاطب تلاميذه. ولما كان يحتاج ان يستشهد بالكتاب المقدس، كان يتلو الآيات بالعبرية ثم يترجمها الى الآرامية.

كان اذًا يكرز ببشارة الملكوت، والجملة التي كان يؤسس عليها تعليمه كانت هذه: «توبوا فقد اقترب ملكوت الله» (او ملكوت السموات)، اي انه كان يدعوهم الى الرجوع الى الله الذي صار باديا لهم بمسيحه. اقترب ملكوت الله لأني انا بينكم. سأُظهره لكم بمواعظي، بعجائبي ثم بموتي وقيامتي.

ثم يذكر متى الانجيلي في آخر هذا المقطع «انه كان يشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب». ليس لكي يثبت صحة تعليمه، فالشفاء بالصلاة كان معروفا عند اليهود. الغاية من الشفاء قالها الإنجيل في موضع آخر انه كان يتحنن عليهم.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الرئيس المقبل / السبت ٩ حزيران ٢٠٠٧

ليس الهاجس ان نعدد أربعا او خمسا من الفضائل لنفتش بمصباح ديوجين ان كانت متوفرة في هذا او ذاك من كبار الموارنة. من يجري الفحص وما قدرة الفضائل عند الفاحصين ليروها في المرشح. لذلك نحن مرغمون على افضل نظام سيء وهو الديموقراطية لنتحرى عن رجل قد لا يكون اصلح من مدير للأزمة ولكنه لا يخلو من الفطنة والشجاعة اللتين تقودانه الى حلها بسرعة مضطرين على الطائف الذي تدنى مقامه عما كان عليه من قبل.

               واذا ساغ لي التأمل المتواضع في الأمر لقلت ان هناك بديهيات لا يصح تجاوزها لئلا نبقى غرقى هذه الأزمة. الميزة الأولى ان يؤمن الرجل الآتي بلبنان وطنا حرا بينه وبين الرئيس زواج ماروني. وأقل ما تعني العبارة الا يكون عند الرجل صاحبة. الزواج يبيح المودات المهذبة العفيفة ولكنه لا يبيح الزنى. وأبسط ما يعني هذا ان يؤمن هذا الرجل بأن للبنان هوية وبأن له كيانه. الهوية هو انه ليس غيره او ليس من غيره. اعني بذلك انه لا يمارس التماس ولو مارس الملامسة التي هي قاعدة السياسة الخارجية لكل بلد والهوية اساس الكيانية التي عبرنا عنها بأن لبنان وطن نهائي.

               هذا لا نريده شوقا منه ولكنا نريده ممارسة ومواجهة والمواجهة في العربية تعني ان يكون الوجه للوجه بحيث لا تلغي ذاتك ولا تلغي ذات الآخر فالإلغاء عبودية ونكون، اذ ذاك، أضعنا نهائية الوطن. وهذا يعني قبل زواج المرشح ولبنان ان يكون قد كان عفيفا قبل بلوغ المقام لأن الفسق قبل الزواج قد يعرض الرجل اليه من جديد.

               من نافل القول ان يكون فهيما الى حد الفصاحة والعرب اهل فصاحة وبلاغة. غير ان ما كان اعظم من البلاغة ان يكون صادق القول يفي بما يعد بحيث ان لك عليه الحق ان تطالبه في كل حين بما وعد فيتدرب أهلنا بالحكم هم ايضا على الصدق الذي يعوزنا كثيرا وهذا ليس عند الآتي الينا بالأمر الصعب ان كان مطلعا على كل احوالنا ويعرف طوائفنا  ويحبها ويعززها كلها ويحس ميزات كل واحدة منها في تاريخها وقابليتها الحاضرة على عشق هذا الوطن.

#          #

#

               وهذا يستتبع ان يكون عارفا تاريخ البلد وان يفهمه من الداخل حتى يكمل هذا التاريخ بالمعرفة دون ان يكون أسيرا له لأن الرئيس رجل المستقبل قبل ان يكون رجل الماضي. يدور مع الناس والأشياء ولا يداور. يلين في مواقع اللين ويتشدد في مواضع الشدة وفي هذا كله الحكمة  يحب ولكنه يقاوم من اختال او تعرض لوحدة الوطن بخيانة مكشوفة او مبطنة اي يكون رئاسيا بلا اختراق للدستور اذ الشخصية البارعة هي التفسير للقانون ولا هو يكبلها.

               وقد يقتضي هذا معرفة بالاقتصاد او يحيط به اهل الاقتصاد ويتدبرهم هو ولا يتدبرونه لأن الرئيس لا يعرف كل شيء بالفطرة ولكنه قادر ان يعرف اهمية اوضاعنا المعيشية ليتصدى لها بكل ما أمكننا استخراجه من الأرض زراعة وصناعة فيضرب مسلمة تافهة تقول اننا قليلو الموارد واننا مؤهّلون للخدمات فقط. هذه أكذوبة كبرى أقنعنا بها الأجنبي لاستغلالنا. هذا بلد فيه رقي كبير  وذكاء كثير وقادر على اشياء كثيرة في الحقل الاقتصادي الذي يحمي سيادتنا بالدرجة الأولى.

               هذا من شأنه ان بمنع عنا شهوة الهيمنة من هذا وذاك لأن الهيمنة نكران لهويتنا وكيانيتنا ونختار نحن صداقات دولية نحس ان فيها اقل طغيان ممكن. لأننا ولو كنا نحيا بلا تبعية الا اننا نحيا ككل دولة صغرى او كبرى بالتساند والتعاضد وهو بطبيعته يجري في اتجاهين.

               والعفة عند الرجل ولو حجمت صلاحياته الا يكون له ثروة طائلة. وطالما اعتدنا ان نأخذ فرنسا نموذجا في أشياء فلنذكر ان رئيس جمهوريتها جان كازيمير Périer استقال السنة ١٨٩٥ لأن بعض النواب انتقدوه على ثروته وعلى كونه كان الأول في شركة مساهمة. وغيره وغيره استقال. التهاون مع ذوي الأموال ورجال الأعمال كان مكروها في ذلك البلد. فمن الصعب بمكان ان يكون الرئيس ثريا كبيرا ولا يتواطأ مع أترابه الذين له معهم مصالح. ديغول كان يتفاخر بفقره وكان هذا عنصرا من عناصر الإعجاب به. هذا يقودنا الى ان حياة الرئيس يجب ان تبنى ليس فقط على العفة ولكن ينبغي ان تذهب به عفته حتى النسك. الرئيس جورج بومبيدو الذي كان مصرفيا قبل توليه الرئاسة قطع كل علاقاته مع الأوساط المالية التي كان يتعامل واياها. رئيس الدولة يعيش بلا ترف والدعوات الى مائدته هي دعوات الى مائدة الجمهورية وليس له فيها شيء. الرئيس خادم ومن كانت له منافع في الأرض لا بد له ان يكثرها ويسعى الى ازديادها.

               الرئيس من شغله الوطن ولا يهتم لأقاربه وتوظيفهم. اليسر المفرط إغراء كبير وهو ايضا صاحبة.

#           #

#

               انا اعرف ان غبطة البطريرك مار نصر الله صفير  لا يريد ان يهمس باسم واحد من ابنائه ليجتنب العمل السياسي المباشر الممنوع في المسيحية  على المسؤولين فيها ولكنه يعرف الفضيلة في غير واحد من أبنائه ويحس بخطر هذا وخطر ذاك. ليس له ان يشير الى واحد ولكن أبوته لأبنائه الروحيين العظام في السياسة تؤهّله ان يرفض هذا وذاك حسب القواعد الأخلاقية التي السيد البطريرك حارسها.

               عناصر كثيرة او قليلة من الأزمة ستسقط ان أتينا برئيس صالح يقرب من الأسس المسيحية التي تقوم عليها الكنيسة المارونية والتي كان لها الفضل العظيم في إنشاء لبنان الكبير وقد أثبتت قيادتها العليا في حرب السنة الـ ١٩٧٥ حيادتها عن الأحزاب والميليشيات وأنا شاهد لذلك اذ كنت مندوبا عن كنيستي للمشاركة في القمم الروحية التي كانت تحاول ان تضمد جراحنا. كل القيادات الروحية كانت كذلك. ولن تتصرف هذه المرة على قاعدة اخرى اذا استؤنس برأيها بصورة رسمية وغير رسمية بالتنسيق مع بكركي.

               وليأتِ النواب كل النواب الى جلسة الانتخاب. هكذا نتحاشى الجدل حول عدد المقترعين. هذا أمر لا ينبغي ان يكون فيه «شطارة» اذا اردتم يا سعادة النواب  خلاص الوطن وان يبقى هذا الوطن سالكا طريقه الى الوحدة.

               لقد تمزقنا بما فيه الكفاية واحتددنا اكثر مما هو معقول في بلد يريد البقاء وسلمنا الله حتى اليوم من القتال الداخلي. للمشاحنات حد وليس للصفاء والمحبة حد. وقد برهنا ان التوافق الفعلي والوجداني في قاعدة التلاقي بيننا ولنا  ان نتحرر مما كان يفرقنا وان نسعى دائما الى ثبات لبنان وديمومته فهنا نريد ان نعيش وهنا يمكننا ان نعطي.

               واذا أصررت على نقاوة الرئيس في هذه العجالة سنتعلّم ايضا  ان نختار كل المسؤوليات من جماعة النقاوة. انا اعرف خطايا البشر في كل مجال من مجالات الوجود. وليس غريبا ان التمس العفة والفهم عند من ننتخب مندوبين عن الأمة وعلى من نستوزر. البلد في رؤوسه في السلطات الثلاث كلها. لست أطلب فردوسا على الأرض ولكن لنا ان نتوق الى الفردوسية مستقلين عن سطوة المال والاستكبار.

               هذا التوق اعجوبة ولكن الأعاجيب بفضل الله وسعينا ممكنة. عند ذاك نستعيد بياض لبنان وبهاءه. البلد ليس بجباله ووديانه وسهوله والبحر. الوطن هو ناسه.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

أحد جميع القديسين/ الأحد في 3 حزيران 2007 / العدد 22

أحد جميع القديسين وضعناه لنعيّد للقديسين جميعا وفي المشاركة السماوية التي بينهم. فنحن قد عرفنا عيدا كل يوم لقديس واحد او أكثر. اليوم نعيّد لهم مجموعين.

النص الذي وضعته الكنيسة لهذا التعييد يرتكز أساسا على فكرة اعترافنا بالمسيح. بصرف النظر عن الاستشهاد الذي هو اعظم اعتراف، عندنا الاعتراف بالعمل فيقول السيد: «من أحب أبا او أما او ابنا او بنتا اكثر مني فلا يستحقني». اجل هناك حب طبيعي بين الأهل والأصدقاء ولكنه احيانا يصطدم بحبنا ليسوع. فمن منع واحدا من عائلته مثلا ان يذهب الى القداس الإلهي يوم الأحد لسبب نزهة او غير ذلك يكون قد اعتبر لذّته أهم من الفرح بالقداس. او من جعل علاقته بأي من أهل بيته مخالفة للشريعة فهذا يكون ضد المسيح. كل علاقاتنا العائلية والصداقة يجب ان تكون وفق مشيئته.

فإذا كان اي من أفراد عائلتك يقوم على عمل مخالف لكلمة الله ينبغي ان تلومه او توبّخه وعلى الأقل تكشف له عدم موافقتك على هذا العمل.

بعد هذا يقول لتلاميذه انهم سيجلسون معه ويدينون العالم. وأنت مثل الرسل تدين العالم اذا وافقت المسيح في كل شيء، اذ يسطع فيك المجد كما سطع في الرب يسوع على جبل التجلي والقيامة.

غير ان السيد لا يحصر الاعتراف به بأن تقود اهل بيتك واصدقاءك في طريق الصلاح، ولكنه يطلب ان تترك بيوتك واخوتك واخواتك واباك وامك وامرأتك واولادك وحقولك من اجل اسمه القدوس. هذا لا يعني ان تتركهم لتذهب الى الدير. فاذا كنت متزوجا فعليك ان تلازم زوجتك، او كنت ابا ان تلازم بنيك وبناتك. ولكن لك ان كنت عازبا ان تترهب وهذا جميل. اما ما قصده يسوع هو الا تلتصق ذهنيا وقلبيا بأحد او شيء يعطل التصاقك بالمسيح. السيد هو الذي عليك ان تحبه بكل قواك وانت تحب الآخرين ضمنه او تحت إشرافه، ان تحب الناس من المسيح الذي فيك فلا يستعبدك اي شعور أرضي استعبادا، وتسهر على ان تبقى مشاعرك للناس طاهرة منزهة عن كل عيب.

لك مودات في هذه الدنيا. حافظ عليها وعلى اصدقائك وقم بخدمة كل من أحببت، ولكن اذا شعرت بأن مودّة ما تجعل بينك وبين الرب فتورا فاقتلعها او هذّبها. ابقَ على شرعية موداتك، وبهذا المعنى تجعلها جميعا خاضعة للحب الأكبر الذي هو حبك ليسوع.

اذ ذاك ترث الحياة الأبدية، والحياة الأبدية هي ان تعرف الآب والابن كما قال السيد في خطبة الوداع. واعلم ان الحياة الأبدية تبدأ هنا بالمعمودية وممارسة العبادة كلها ومعرفة الإنجيل.

القضية كلها هي اولا ان تحب الله، وثانيا ان تكون علاقاتك مع الناس جميعا ضمن إرضائك لله. هذه هي القداسة التي تعيشها يوميا وانت في بيتك ومحلك وعلاقاتك الاجتماعية. ويَعِدُك المسيح اذا قمت بذلك ان تكون من الأوّلين عنده.

Continue reading