الفضول/ الأحد 7 كانون الثاني 1996 / العدد 1
هو الحشرية عند العامة لأن الإنسان يحشر بها نفسه حيث لا يعنيه. وقد قبل الأخلاقيون الفضول العلمي أي السعي إلى معرفة ما في الكون وفي التاريخ والمعرفة بعامة لأن في معرفة هذا العالم ما يحررنا من جمود العقل. غير أن علماء الأخلاق لا يريدوننا أن نتدخل في خصوصيات الناس وما يهمهم وحدهم، ففي هذا هتك لحرمة الآخر. فهذا له أصدقاؤه وأبوه الروحي. أما أن نعرف نحن خطايا الناس، أن نفتش عنها بكل الوسائل فهذا يؤذينا ويؤذيهم فإذا تلهينا بهذا نكون قد أغفلنا مراقبة النفس لنعالجها. وغالبًا ما نتدخل بشؤون الغير لنفضحه وننم بحقه وهذا بدء الثرثرة.
فبدل أن تبقى خطيئته مكتومة ومغفورة عندنا سلفًا نشيعها فيُجرح الأخ بسببنا كثيرًا وييأس من نفسه ويستحيي. فالنميمة لا تقود الآخر إلى التوبة ولكنها قد ترسخه بمعصيته وتقيمه في الحزن وتقوده إلى استصغار نفسه وبغضنا. وقد جاء في الأدب النسكي: «ماذا تفعل إذا رأيت أباك الروحي يزني؟»، فقيل: «اني آخذ غطاء وأغطيه به». أنا لا أريد أن أرى ضعفه. أن نفتش عن نقائص الناس يجعلنا في كثرة من الأحوال نسقط في ما هم ارتكبوه. ولهذا أوصى آباؤنا ألا نذكر خطيئة فعلناها نحن لأن في الذكرى قوة جذب وقوة تكرار.
في الأدب النسكي أيضًا ان رهبانا شَكَوا أحدهم انه يستقبل امرأة في صومعته ولكن رئيس الدير لم يُعِر شكواهم أهمية مع انهم كرروا الشكوى. فداهم الرئيس الراهب مرة في صومعته ورأى هذه المرأة فأخذها ووضعها في صندوق الحاجيات ودعا الرهبان وقعد على الصندوق وقال لهم لما أطلوا: «أين هذه المرأة» فخجل الراهب من خطيئته وتاب، وتاب الرهبان عن الثرثرة.
عيوننا نحن إلى الناس نتقصى ما فعلوا. همنا أن نعرف إلى أين ذهب وأين مكث وفي أية ساعة دخل إلى هذا البيت ومن كان يرافقه في السيارة أو من كتب هذه الرسالة وما فيها. هاجسنا أن نعرف كيف يتعامل الناس في بيوتهم وأين سهروا ومتى عادوا من السهرة وماذا جرى فيها وماذا قال هذا لذاك.
ما الخطأ في هذا؟ انه أولا استلذاذ بالخطايا التي يقترفها الجيران أو الزملاء. لا أحد يفتش عن معصية عند الآخرين الا إذا كان منجذبًا اليها. ولكي يدفع التهمة عن نفسه يُسَرّ لمعرفة ما إذا كان الناس وقعوا فيها. ما من وصف لمعاصي الناس الا ويعرّضنا لهذه المعاصي نفسها.
ولعل الخطر الأهم ان نتلهى عن أنفسنا. ذلك ان إصلاحها يكلّف كثيرًا من العناء. التائب هو الإنسان الذي يسهر على نفسه ليقوّمها. خطايانا كثيرة، والتوبة عنها تستغرق وقتنا كله. والسهر على الذات يجعل فيها صمتًا وهدوءًا، وأما الفضول فيثير فينا اضطرابًا. والصمت خير إطار للعفة لأنه يجعلنا في مواجهة للنفس.
في صلاة البار افرام السرياني في الصوم: «… أعتِقني من روح البطالة والفضول». الفضول يأتي من البطالة. من لا يعمل شيئًا لا بد له من أن يتسلى بمراقبة الآخرين. من رأى نفسه تحت المراقبة يتألّم ويتقوقع ويمكنه أن يبغض. لا كثافة روحية في إنسان يتبدد ويُرق بلسانه العالم. وأما من لملم نفسه وعرَّضها للفحص الإلهي ينشغل بتوبتها. إذ ذاك، لا تنتبه الا إلى الحسنات تَحْسُن بها وجوه الناس ويَحْسُن بسبب رؤيتنا لجمالها وجه الله نفسه.
Continue reading