لست اعرف عددهم على وجه الدقة. هذا سؤال ممنوع الاجابة عنه في لبنان الذي يخشى الارقام لخشيته خللاً في التوازن. ولكني قلت – منذ عدة سنين – وقال غسان تويني ومنير ابو فاضل، رحمه الله، بلا تشاور بيننا ان الارثوذكسيين اربعمئة الف واذا انجبوا يكونون اكثر من ذلك، اليوم. “تعيرنا انا قليل عددنا “لا يؤخذ بها هنا.
هذه الطائفة تمتاز من بعد معركة ميسلون وارتحال فيصل عن دمشق بانها، جملة، لم تتردد بين لبنانيتها وغربة لها عن لبنان في الازمات الحادة مثل حوادث السنة الـ 1958 حتى اليوم ومرورا بالحرب الاهلية حيث التزمت خطا وطنيا وبقيت، في وثيقة رسمية صادرة عن المجمع المقدس في تموز من السنة الـ 1975، متبنية القضية الفلسطينية.
غير انها لا ترتاح الى النظام القائم في البلد او لا تستعذبه ولا تستسيغه. وهذا بخلاف ما يظنه البسطاء له علاقة بتاريخنا وبلاهوتنا. تاريخنا، نحن منبسطون في كل الرقعة الجغرافية التي تقيم عليها الكنيسة الانطاكية. ولنا مع هذه الرقعة صلة تعود الى الرسل والى الآباء القدامى بمعنى اننا ملأنا كل البقاع التي تؤلفها بلاد الشام ولا نتعقد من اي امتداد جغرافي لان كل جغرافية الكنيسة الانطاكية جغرافيتنا الروحية واعطينا شهداء في كل مكان ووضعنا مؤلفات روحية في كل مكان. ووجودنا في لبنان يرافقه ولاء لهذا الوطن بلا شرط نفرضه وبلا مطلب لنا دائم او مؤقت. نتقبل لبنان من التاريخ ونعمل له وفيه. وبعثنا بأساقفة من لبنان الى كل الابرشيات في هذه المنطقة من العالم وفي بلاد الانتشار.
لاهوتياً المثال البيزنطي لعلاقة الدولة والكنيسة سمي سمفونيا اي التناغم بينهما وليس سلطة الكنيسة على الدولة ولا الدولة على الكنيسة معنى ذلك ان الدولة كان لها نطاقها الخاص ولا تتلقى اوامر من بطريرك القسطنطينية. اي ان الحكم لم يكن حكما إلهياً بل حكم بشر يستلهمون الانجيل لانهم كانوا مسيحيين. لم تكن دولة الروم دولة دينية بخلاف ما ذهب اليه المستشرقون. لذلك يندمج الارثوذكسيون بسهولة بدولة لبنان خصوصا انها مدنية لا رأي فيها بالاديان ولو قالت باجلال الله. فالفلسفة السياسية الارثوذكسية تحمل بذار التمييز بين الدين والدولة وتحمل بذار الاعتراف بنطاقين مختلفين. لذلك كان الارثوذكس قابلين بسهولة الانتماء الى احزاب علمانية او تقدمية او قومية او اشتراكية. وكانوا في طليعة بعض الاحزاب او مؤسسين لها. في خلفية تفكيرهم ربما او في فكر ابناء كنيستهم ان هذه لا تمارس السياسة او لا تحترفها. وان كانت توجه المؤمنين الى التمسك بالوطن والدفاع عنه والى رفع شأن الفقراء. ولئن عرف الارثوذكسي ذاتية الشأن العام وذاتية الكنيسة اي التمييز بين نطاقين الا ان النطاق الوطني والسياسي تسوده عند المناضل وجدانيات تأتيه من روح الانجيل.
• • •
في هذا المنطق يسلك الارثوذكسي الاصيل في السياسة غير رهين لها الا اذا كان نأى عن تراثه ولم يعرف من اين اتى. هو يعرف انه في العالم وانه تاليا في السياسة وليس منها ويعرف على الاكثر ولوج ابواب الدنيا الا انه ليس من الدنيا وعلى قدر استقلاله عنها يخوضها بسلامة من اجل المواطنين جميعا. لذلك ليس من سياسة ارثوذكسية بمعنى ان الطائفة لا تطلب ما لنفسها ولكنها تطلب ما هو للمجتمع الوطني. من هنا ان الارثوذكسي ولو ارغمه الدستور اللبناني على ان ينتمي الى طائفة بمعناها المجتمعي السياسي الا انه يحس بانه ينتمي الى الوطن كله ولا يعبر بطائفته ليصل الى الوطن. الدستور يريدها جزءا من الوطن فتخضع لمنطق الدستور عمليا ولكنها روحيا تنتمي الى ملكوت الله.
اعرف طبعا ان ثمة مواقع مفروضة علينا اذ لا بد لك في عالم الحقوق من اصطفاف لتسجل على انك واحد بين كثيرين لكن قلبك او مثالك ليس في هذا. ليس انك غدوت علمانيا بالمعنى الغربي ولكنك حر داخليا من ضغوط الممارسة السياسية اللبنانية لتعالجها بروح الاخوة للمجتمع.
هذا لا يعني – كما قال لامارتين – اننا في السقف لما سئل في مجلس النواب الفرنسي اذا كان عن اليمين او عن اليسار. لا يفهمن احد من كلامي ان شأنا من شؤون الوطن لا يخصنا وتضطر احيانا ان تختار حلفاء لك ليس عندهم منطقك المتعالي عن التحزب وتصطف احيانا وانت حر لتكون ابعد ما يكون عن ضغوط اللعبة السياسية. لكنك تذكر انك طائفة بالمعنى السياسي لان واضعي الدستور رأوا ذلك.
ولكن على رغم دخولك اللعبة يبقى قلبك مستقلا عن الالاعيب وتحاول ان تكون طاهرا ما امكن في هذا العالم الساقط. انت ملتزم الشأن العام ولكن في روحيتك انت ووفق تراثك الذي يجعلك ترى كل مواطن اخا لك، ابنا للارض التي تتحرك عليها ومتطلعا الى آفاق تفوق توقعات الكثيرين وحساباتهم.
• • •
تحالف او لا تحالف ضمن ثوابت ايمانك وتراثك التاريخي. على مستوى المشرق العربي هذا يعني انك منه وانك حملت الدولة وهمومها ومنذ مطلع القرن العشرين كنت من طلائع الاحرار لتخرج العالم العربي من سكونيته بروح وحدة فيه وذاتية فكرك بآن. ومن هذه الزاوية تحيا حريتك وحرية كنيستك في دنيا العرب وازاءها بآن. ترى نفسك للعرب وليس دائما مع كل العرب لانك منهم وناقد لهم. انت للمصير التاريخي الذي يتحررون فيه ليكونوا عاملين في حضارة العالم.
ولا شيء يمنع ان تكون من لبنان في كل اطيافه اذ ليس هناك كنيسة لبنانية. هي في لبنان ولكنها من الله. ايمانك يجعلك واحداً من الذين يؤمنون بيسوع مخلصا للعالم. لذلك تتألم معهم وتفرح معهم وكل شيء يدعوك ان تحاورهم سياسيا ليكونوا مشاركين في تحرير العالم العربي باعتبارهم منه وله ولو كان العرب حاليا يعانون ازمات كثيرة تهدد تقدمهم في معارج الحضارة.
الى هذا اقول انه من التكاتف العربي من جهة وتوقا الى الرسالة المسيحية في لبنان من الضروري ان ينشأ تضامن مسيحي على اساس الندية بين الجماعات المسيحية التي لا تريد ان ترى نفسها ازاء المسلمين. نحن لسنا ازاء احد. فالحوار المسيحي السياسي مطلوب الى جانب الحوار الكنسي في هدف ايجابي بناء وهو بناء الوطن مع المسلمين وذلك لاقامة بلد موحد في خدمة الجميع.
انا لا ادعو الى مسيحية سياسية. هذه مقولة لا معنى لها بعدما تجاوزنا الوطن المسيحي. هذا واقعيا لا يمكن ان يقوم وليس مستحبا ان يقوم. ذلك لاني اعتقد ان طائفة مسيحية منفردة لا تستطيع ان تبني مسيحية دينامية في الحقل السياسي تكون في خدمة كل لبنان. ان يكون لهذا الوطن نكهة مسيحية مميزة ونكهة اسلامية خير لتلاقينا جميعا في خدمته. واني لاظن ان للارثوذكسيين نكهة خاصة في اخصاب التوحد المسيحي والوحدة اللبنانية الشاملة.
لقد برهن الارثوذكسيون انهم لا يريدون او لا يستطيعون ان يكونوا كتلة سياسية واحدة. هذا آت من تاريخهم ومن لاهوتهم. واذا استطاعوا ان ينشئوا وحدة مسيحية ما في الوطن فهم عنصر فعال بما لهم من طاقة ان يدفعوا المسيحيين الآخرين على ان يكونوا مع المسلمين وطنا واحدا.
قد يكون هذا التطلع على شيء من الطوباوية ولكنه ممكن بعدما اقتنعنا ان كل الطوائف اللبنانية لا ترى بديلا من هذا الوطن وان طائفة ما لا تعمل لسؤددها وانها تؤمن او اضطرت ان تؤمن بوحدة اللبنانيين في المساواة الكاملة. بناء هذا الوطن اضحى ممكنا بعد آلام كثيرة علمتنا الا نرتهن لاحد مع انفتاحنا بعضنا على بعض.
في مؤتمر صحافي لي في موسكو منذ عشرين سنة سألني صحافيون سوفيات: هل انتم معنا او مع الاميركيين؟ اجبتهم ببساطة: نحن اللبنانيين مع الذين هم معنا. تنفتح السياسة الخارجية على ما اظن على هذا الاساس.
Continue reading