Monthly Archives

April 2000

2000, مقالات, نشرة رعيتي

من الشعانين إلى الصليب/ 23 نيسان 2000/العدد 17

دخول السيد إلى أورشليم يعني قبوله الصلب. كان هو تنبأ غير مرة عن آلامه وقيامته. فبعد ان أَنهض صديقَه لعازر من الموت، دخل إلى المدينة المقدسة وفي هذا حقق نبوءة زكريا القديمة: «ابتهجي جدا يا بنتَ صهيون، واهتفي يا بنتَ اورشليم. هوذا مَلكُكِ يأتيكِ صديقا مخلِّصا وديعا راكبا على أتانٍ وجحشٍ ابن أتان». بوداعته يعلّم يسوع العالم الوداعة. هذه صورته إلى الأبد، وبها يَحكُم القلوب. الترتيلة بدل ان تقول «ابتهجي يا بنتَ صهيون» تقول: «ابتهجي يا بيعةَ الله»، ويأخذ الترتيل من الإنجيل (يوحنا 12: 1-18) هتاف «اوصانا» («هوشعنا» في لفظها الأصلي، وتعني خلّصنا يا الله). نحن في بداءة الخلاص الذي سيكتمل يوم الجمعة العظيم ويُعلَن عند فجر القيامة.

          ركوب يسوع الحيوان جَعلَتْ منه الكنيسةُ دعوة الينا حتى نترك البهيمية التي كُنّا عليها لأن ترك رذائلنا وعيوبنا شرط لرؤيتنا الفصح. امام الأيام الآتية نقرأ في قداس العيد: «افرحوا في الرب كل حين، وأَقول ايضا افرحوا». سبب ذلك ان الرب قريب ليس فقط لكوننا ننتظر اليوم الأخير، ولكنه قريب في كل حين إن أردناه كذلك. ولهذا يحضّنا بولس في الرسالة (فيليبي 4: 4-9) ان نفتكر بما هو حق او عفاف او عدل او طهارة. فاستقبال اورشليم للسيد ينبغي ان نترجمه استقبالاً له في قلوبنا وإلا بطلَ العيدُ بالنسبة الينا.

          نحن على استعداد الترحيب بيسوع اذا قلنا له عشية احد الشعانين وفي الليالي الثلاث الاولى من الأسبوع العظيم: «ها الخَتَن يأتي في نصف الليل». أخذنا لفظة «الختَن»، وهي سريانية وتعني العريس، والمراد به طبعا يسوع عريس الكنيسة وعريس كل نفس طائعة له. الأعياد تجري في القلب. فالسيد يتزوّج كنيسته العروس على الصليب بالدم، وبه يتم كل زواج. ويتزوج كلَّ نفس مؤمنة مُحبة. هذا العرس بيننا وبين المعلّم يقتضي اليقظة الدائمة منا. وتزداد فكرة العرس وضوحا في هذه القطعة: «انني أُشاهدِ خِدْركَ مزيَّنا يا مخلّصي، ولستُ أَمتلكُ لباسا للدخول اليه، فأَبهِجْ حلّةَ نفسي يا مانحَ النور وخلّصني».

          الخِدْر هو الغرفة الزوجية. يسوع ينتظر فيها نفس المؤمن التي ارتضت ان تُسلم ذاتها اليه. ولكنها تحتاج إلى لباس «رسمي»، لباس المدعوّين إلى وليمة العرس التي ذُكرت في المَثَل الإنجيلي. وتلاحظ هذه النفس انها عارية، وتطلب إلى يسوع أن يعطيها لباسا من عنده. نردد هذه الكلمات ثلاث ليال، ونقيم الخِدَم الإلهية الأخرى مغتذين بجسد الرب ودمه حتى يحلّ قداس الخميس العظيم وهو ذكرى فريدة للعشاء السري. في القراءة الانجيلية المركبة من روايتَي متى ويوحنا: «فيما هم يأكلون، أَخذ يسوعُ الخبزَ وبارك وكَسَر وأَعطى تلاميذه، وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي. واخذ الكأس وشكر وأعطاهم، وقال اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي للعهد الجديد».

          العرس هنا قبل العرس السماوي يتم في اتخاذنا جسدَ المسيح ودمه. الجسد في فلسفة الساميين التي بها يعبِّر يسوع هو مظهر الشخصية لأنهم ما كانوا يفرّقون بين النفس والجسد كاليونانيين. فلما قال السيد: «كلوا جسدي»، أراد بلا ادنى ريب ان يقول: هذا شخصي كاملا تناولوه. انا وانتم في انصهار الحب.

          والدم عند القدماء هو الحياة. نحن لا نَذبح المسيح ثانية ولا نأكل لحما ماديا ودما ماديا. لقد مات يسوع مرة واحدة. ولكن عندما نتناول القرابين نستقبل في انفسنا المسيح حقيقةً وليس خيالا، ونستمدّ حياة المسيح كلها اي فاعلية السيد التي ظهرت على الصليب وانتشرت في الكون بالقيامة.

          سنذوق الصلب حبا والقيامة ايمانا ونفرح.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

مريم المصرية/ 16 نيسان 2000/ العدد 16

دائما تجيئني صدمة عندما أسمع في الكنيسة هذه العبارة: «أمّنا البارّة مريم المصرية». كيف نكون مولودين منها؟ البِرّ الذي كانت عليه، التوبة المذهلة ومن تعابيرها النسك الشديد الحادّ، كل هذا يجعلنا آتين روحيا من اولئك الذين مِن الله وُلدوا. نحن نولد مِن مُسَحاء الله لأن قداسة الله حلّت فيهم.

          كانت هذه المرأة زانية. صوّرها صفرونيوس بطريرك اورشليم مشغوفة بالفجور مع ان هذا نادر عند من احترف الدعارة احترافا. ربما أراد الكاتب إبراز التطرف ليُبرز مقابله كثافة التوبة. الخطيئة الكثيفة، الجسيمة لا يرتكبها من كان هزيل الشخصية. المجرم الكبير اذا اهتدى قادر ان يصير بارّا كبيرا. زخمه في الشر دليل طاقة كبيرة توضع فيما بعد في خدمة الرب. كذا كانت حياة بعض القديسين من بين النساك. ولذلك يخطئ الأب الروحي اذا ظن أنه يَعْسر عليه ان يقود خاطئا كبيرا إلى التوبة. ويخطئ الخاطئ اذا اعتبر انه بعيد عن الخلاص بسبب كبر معصيته. التحوّل نعمة من فوق تحرق الزلاّت «الصغرى» والزلاّت الكبرى. المهم كثافة الرحمة النازلة من فوق.

          خطايا ثقيلة يقابلها غفران عظيم، هذا ما أرادت الذكرى أن تقوله. لذلك جعلت خدمة السَحَر مريمَ المصرية «نموذجا للتوبة». بدّلَتْ نارَ الشهوة بنار الحب الإلهي. المهم ان تغيّر الاهتمام اي ان تجعل الرب شغلك الشاغل بعد ان كانت الشهوة شغلك. هناك إطفاء للهبٍ ما. هذا ممكن فقط اذا التهبتَ بالحب الإلهي. هذا ممكن أن يحلّ فيك دفعة واحدة او تحارب روحيا مع هزائم حتى تنتصر النعمةُ فيك. ولا تنتهي القضية بقرارات متكررة لإرادتك. الاهتداء ينبع من داخل النفس التي أَسلمت لربها او لا يكون. الهداية تحلّ اذا اقتنعتَ ان يسوع كل شيء فيك وانه يستحقّ كل تضحية منك وانه هو الفرح. انت لا تهتدي إلى أفكار، إلى فكر العفة او التواضع أو المحبة. تهتدي إلى العفة واقعا جديدا فيك وإلى التواضع والمحبة. في الحقيقة انت تولِّي وجهك شطر المسيح ويصبح فيك كل شيء، وهو الذي يسكب فيك الفضائل مجتمعة. فاذا كانت احدى الفضائل غائبة عنك تحلّ عليك وتأتي بصديقاتها الفضائل الأخرى. هذه قاعدة الترابط بين مواهب الله على الصعيد الأخلاقي.

          لماذا اختارت الكنيسة زانيةً كبرى لتدعونا إلى توبة كاملة نُنهي بها الصيام تقريبا؟ ليس في الكتاب الإلهي ما يوحي أن الزنا هو الخطيئة الجسيمة الاولى، فالكبرياء اعظم. اظن ان حركة الكنيسة كانت مزدوجة. الأمر الاول ان الزنا خطيئة حسية، تأتي على ألسنة الناس اذا تكلموا على الخطيئة وربما لأن الرهبان الذين وضعوا هذه الأعياد يكافحون بنوع خاص لاجتنابها. غير ان السبب الثاني هو المعنى الذي كان يضفيه العهد القديم على هذه الكلمة. وفيه ان شعب اسرائيل سمّاه أنبياؤه زانيا لأنه يخون الله بالشِرْك اي باتّباعه آلهةً غريبة إلى جانب الإله الحق. بهذا المعنى الواسع للكلمة، كل خطيئة يقترفها الانسان تجعله زانيا، خائنا العريس الوحيد اي الله.

          الاستقلال عن الحسيات هو بدء الطريق إلى الاستقلال عن كل شيء. تنتهي صلاة السَحَر اليوم بهذا الكلام: «ليس ملكوتُ الله طعاما وشرابا بل بِرّا ونُسْكا مع قداسة». ولئلا يُفهم ان الكنيسة مهجوسة بأمور الجسد المتفلّت، تابعت الأُنشودة بعد تأكيد النسك والقداسة هكذا: «لذلك يَعْسُر دخوله على الأغنياء». حتى تصل إلى هذا: «الرجل البارّ هو الذي يَرحم النهارَ كله». هذه هي العفّة الكبرى ان تتنزّه عن عشق المال وما يقدّمه لك من سلطان.

          فإن عففت يأتي المسيح عليك، أو اذا أتى اليك تعفُّ ولا ترى سوى وجهه.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

يوحنا السُلَّمي/ 9 نيسان 2000/ العدد 15

وُلد في النصف الثاني من القرن السادس ولا نعرف موطنه وأصله. كتب «السُلَّم إلى الله» فسُمّي السلَّمي بالنسبة اليها. الكتاب يحتوي على ثلاثين حديث في الفضائل التي لا يَبلغ أعلاها الا القليلون. ألّف الكتاب بعد جهاد طويل، ويجدر بنا جميعا ان نقرأه ولو وضَعَه لرهبان. اللافت في الكتاب ان صاحبه الذي دخل الدير صغيرا يعرف عن احوال العالم ما لا يعرفه اهل العالم. من الواضح انه كان مثقفا كبيرا، ومن الواضح ايضا انه لم ينتسب إلى جامعة. يعرف الكتاب المقدس معرفةَ مَن عاشره كثيرا كما يعرف الآباء الاوائل. وكل سطر في هذا المصنَّف يدل على ان ما قاله الرجل انما خَبِرَه شخصيا. يبدو انه غلب كل هوى في النفس يحجب عند اللصوق بالمسيح، بلغ المحبة التي يقول عنها انها ترزق النبوءة وانها «إقبال الدهر الآتي». يتغزل بالمحبة مستعيرا لغة نشيد الأناشيد: «أخبرينا ايتها الجميلة في الفضائل أين تَرعين غنمكِ»، ثم في التصاعد نفسه يقول: «الآن قد جرحتِ نفسي ولا أقوى على ضبط لهيبك».

          كتاب لكل الناس ولو قسا. يقسو عن حب. له الحق في ذلك لأنه أَدركَ الولَهَ بالله فيجرؤ على القول: «العاشق الحقيقي يتصوّر وجه حبيبه على الدوام ويعانقه على الدوام ويعانقه في قلبه بنشوة، ولا يستطيع حتى في نومه أن يسكّن اشتياقه اليه، لكنه يواصل في رقاده حديثه اليه. فعلى منوال هذا الحب الجسدي يكون الحب اللاجسدي. وقد انجرح بسهمه أحدهم (وأظن انه يشير إلى نفسه) فقال عن نفسه (ويا للعجب!): « «أنا نائم» لحاجةِ الطبيعة، «لكن قلبي مستيقظ» لكثرة حبي». هذا نموذج من التصوُّف الارثوذكسي الكبير الذي لا نجد له مثيلا الا عند القديس سمعان اللاهوتي الحديث بعد اربعة قرون. يعود إلى هذه اللغة في المقالة الأخيرة: «تشتاق النفس وتتوق إلى الرب وقد جرحها لهيب الحب وكأنه طعنة سهم». هذا هو سر العاشقين لله الذين لم يعرفوا الا النسك ولم يكن لهم خبرة عشق بشري. أعتقد أن سرّهم في ما قاله قديسنا: «مَن اتحد بالله يلقّنه الله أسرارَ أقواله». هؤلاء هم في مصطلحنا الارثوذكسي «مُسارّو الله» اي الذين بينهم وبين ربهم تسارّ. يُسِرّ لهم ما في قلبه ويُسِرّون له ما في قلوبهم، فاذا بهم يُقِيمون في خلوة مع الحبيب، ولا يدخل احد إلى هذا الخِدْر، ولكنهم يخرجون هم منه ليُخبرونا بما رأوا وبما «لمسته ايديهم من جهة كلمة الحياة».

          كل هذا كان لأن قديسنا طهّر نفسه قبل ذلك بينابيع الدموع، ولكونه استعطف الله بالاعتكاف ما طال الليل، كما نقول له اذا توجّهنا إلى هذا البار في صلاة سَحَر اليوم.

          كل هذا جاء بعد تعب شديد. بعد الزهد في كل شيء، وذلك ليس خوفا من العقاب (والكلام له) ولا طمعا بالثواب، ولكن «من يعتزل العالم حبا بالله يمتلك للحال نارا كالتي اذا ما أُلقيتْ في غابةٍ تضرم كل يوم نارا اشد اشتعالا». وفي هذا المنحى يكون المجاهد الحقيقي «مَن يحفظ غيرته متّقدة إلى النهاية، ولا يزال حتى الممات يزيد كل يوم على ناره نارا وعلى اضطرامه اضطراما وعلى شوقه شوقا وعلى همّته ونشاطه نشاطا دون انقطاع».

          من قرأ كلاما كهذا يتصوّر انه امام شاعر لا امام راهب (ما الفرق اذا كان الراهب محبا صافيا حتى النهاية؟). من قرأ هذا يقدر ان يفهم ان حبنا للمسيح ليس فيه ضجر. طوبى لمن تَسلَّق هذه السلّم ولم يسقط. اذا كان في العالم بعض من هؤلاء، فالعالم سماء مذهلة.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

قم يا الله/ 30 نيسان 2000/ العدد 18

رتّلناها أمس في قداس كان يقام السبت ليلا، ورتلناها لنقول ليسوع: انت تقوم لنحيا بك. ايامنا شقاء وبلدنا يفتقر. انت انتصرت، وهل من انتصار الا على الموت؟ انصُرنا انت على قوة الموت التي تُصيبنا اي على الإحباط والحزن واليأس والخوف من المرض والفاقة والشيخوخة لكي لا يبقى العيد يوما واحدا، لكي يرتسم فورا داخل النفس فنتجاوز الخوف ونرجوك من بعد خطيئة ونثق لا بقدرتنا ولكن بقدرتك.

          الإخفاق في العمل، في العاطفة، في الحياة اليومية، اندثار آمال كثيرة وضعناها في من ظننّا أنهم كبار. كل هذا الإخفاق كان من شأنه ان يقودنا إلى القنوط بحيث نقول إن قلة من الناس توضَعُ الثقةُ بهم أو نقول ان زوجتنا أو اولادنا أضعف مما حَسبْنا ان يكونوا. وقد نقول ان البلد ذاهب إلى الهلاك او لا احد يعرف مصيره. وان كنا واقعيين فليس في بعض الذين يصلّون تعزية كبيرة. فهم لا يشدّون انفسهم إلى المسيح. وبعض البارزين في الكنيسة لم يبقَ المسيح هاجسهم الوحيد. العيد لا يمكن ان يحجب عنا رؤية السيئات ونحن نقيم العيد وسط السيئات التي تعترينا. العيد في العالم او كان هروبا. الفصح في الكنيسة لنأخذه إلى العالم. الكنيسة تنصبّ كالنهر كلها في العالم او كانت متحفا وحفلة تنغيم.

          العيد ليس لتنسى الشقاء ولكن لتتغلب عليه. فكما ان الموت لم يبتلع المسيح هكذا لا تأكلك أتعابك. انت تقدر بيسوع ان تحمل الصليب بفرح. تنتصر في داخل آلامك لأن السيد اذا أحببته يدخل إلى عميق قلبك. لا يمكن ان تُسكت آلامك الحقيقية ولكن لك ألاّ ترزح تحت وطأتها. واذا رزحت ابقَ واعيا حتى تقوم.

          القيامة بهذا المعنى حالة. كانت حدثا مرة واحدة لتصبح حالة، شيئا يدوم فيك ويجعلك انسانا جديدا. لا تَخفْ. هو القائل: «ثقوا اني قد غلبتُ العالم». والعالم عالم الشهوة والأطماع والأحقاد. هذه تسيطر على الدنيا. وقد تكون شهوة فاتكة فيك او بادئة فيك. انتبه. انت قادر على ان تقضي عليها بنعمة المسيح.

          واذا انتصرتَ مرة تكون اقوى في مناسبة إغراء ثانية. اسعَ إلى الانتصار على نفسك فكل شيء في نفسك. هـي ساحة الحرب على الشرير. هذه أصعب من كل الحروب، ولكن فيها تعزيات لا تساويها أية تعزية خارجية. انقل الفصح إلى القلب تفرح فرحا عميقا.

          وتفرح بالذين تعزَّوا مثلك بيسوع وتكونون معا كنيسة القيامة اي جماعةً مِن ناس يعيشون بالرجاء، بمعرفتهم أن المسيح يأتي اليهم ببهائه ليزيل عنهم كل قباحة. فاذا قلت اليوم: «المسيح قام»، افهم أنك لا ترنم فقط أنشودة ولكنك ترجو ان تكون نفسك قائمة معه وقائمة به. ألاّ تنهزم امام الصعاب يعني انك عَزمتَ أن تصبح انسانا قياميا.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

فرح الصليب/ 2 نيسان 2000/ العدد 14

عندنا ثلاثة اعياد للصليب: 1) ارتفاع الصليب في 14 ايلول وهو ذكرى اكتشاف القديسة هيلانة له، 2) تزييح الصليب في اول آب وهو ذكرى انتصار هرقل على الفرس واستعادته صليب السيد منهم إلى القدس سنة 630، 3) التكريم الذي نحن فيه في اواسط الصوم غالبا ما يعود إلى نقل جزء من الصليب المكرم من القدس إلى أفاميا (قرب حماه) بمناسبة بناء كنيسة فيها.

          ولكن بقطع النظر عن الظرف التاريخي هذا، أرادت الكنيسة ترتيب احتفال مصغَّر لما سيكون يوم الجمعة العظيم ورفع قلوبنا إلى آلام السيد بسبب الملل الذي يصيب بعض الصائمين من جهادهم. فحتى تشدّهم الكنيسة إلى رؤية آلام المسيح وقيامته، جعلت هذه تنعكس عليهم في تذكار يحمل معاني العيد. فنتصاعد من الاحتفال إلى رؤية ان محبة المخلّص لنا تجلّت بصَلبه، ونفهم ان حريتنا أتت من الجلجلة وان مجد العالم وقوّته أتيا من موت المعلّم.

          نحن لا نستعمل صليبا عاريا من المسيح كما يفعل البعض. شرط تكريمنا الصليب أن يكون السيد مرسوما عليه ليصبح ايقونةً بل ايقونة الايقونات. عندما نقوم بإشارة الصليب علينا او على جهات الدنيا الأربع بإيمان ووعي ودعاء، المهم ان نرفع الفكر إلى يسوع عندما نصلِّب وجوهنا فلا نكتفي بعلامة آليّة لا دعاء فيها. والمهم ان تأتي اشارة الصليب صحيحة، كاملة فنضع الأصابع على الجبين بصورة ملموسة والصدر والكتفين وذلك بشيء من التأنّي لا أن نقوم بإشارة مختصرة، متعبة.

          رتبة العيد المتّبعة اننا نضع الصليب على زهـور او رياحين في صينية محاطا بثلاث شموع مضاءة. الرمز الواضح ان الشموع الثلاث تشير إلى الثالوث وان الصليب الموضوع بينها يدلّ على أن خلاصنا انما تم بمشيئة الآب والابن والروح القدس معا ولو كان الموت عمل الابن وحده. والتقليد في توزيع الزهور على المؤمنين في نهاية المجدلة الكبرى في السَحَرية هو ان المؤمن يتقدم من الكاهن ويقبّل الصليب ويأخذ منه الزهرة للدلالة على ان الفرح أتى إلى العالم بموت المخلّص. نرجو هذا الفرح اذ نقول: «يا صليب الرب المشُوق اليه من العالم أَطلع اشعة نعمتك الباعثة الضياء في أفئدة مكرّميك ومصافحيك بمحبة إلهية» (صلاة المساء).

          هنا ايضا يتأكد ان الصليب عندنا ليس أداة حزن بل أداة فرح. المعلَّق على الخشبة هو رب المجد. هذا الأحد الثالث يبدو هكذا قفزة إلى الفصح.

          امام الفصح نفهم اننا في مشروع مصالحة مع الله، أن الكون كله بأربعة اطرافه مدعوّ إلى المصالحة. الصليب قد صار مركزا لدائرة الكون ومحور الأشياء كلها.

          تطبيقيا، المسيحي مدعوّ ان يحمل صليبه كل يوم. «يجب ان تكون مصلوبا مع المصلوب حتى تتمجد مع الذي هو في المجد». عندما نتّجه بعمق إلى الصليب يعني ان نَقبل ان تكون حياتنا كلها مصلوبة بحيث لا تبلغها خطيئة. كل الأشياء الحسية فينا تحتاج إلى ان تعبر بالمصلوبية لتبقى حواسنا وأفكارنا كلها مشدودة إلى المسيح، وهكذا يكون الصوم مفعّلا فينا طوال حياتنا. ان أخذنا الرياحين أو الزهر من بعد تقبيل الصليب يجعلنا تحت نير المسيح بفرح. ليس المسيح قامعا لنا مثل دركيّ نخشاه. اننا نحب ما يأمرنا به. «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب». ان الذين عرفوا محبة الله لهم بيسوع المسيح لا يلازمهم الخوف القديم ولا يطمحون إلى مكافأة. يكفيهم وجه يسوع ويفهمون انه يربيهم بالآلام وانها افتقاد رحمته.

Continue reading