Category

2010

2010, جريدة النهار, مقالات

2011 / الجمعة 31 كانون الأول 2010

اذا حزنا كثيرًا السنة المنصرمة فلتفتح أبواب السماء لنرث الرجاء. لا نستطيع ان ننسى آلام البشر وتبقى الذاكرة موسومة بالأوجاع حتى يغرس فينا الرب شوقًا إلى الفرح الذي وعدنا به المسيح. نمتد إلى الآتي النازل علينا من فوق حتى تتجدد أبديتنا في كل لحظة.

الأبدية دفق علينا. لا نصنعها بأشواق. نتلقاها نعمة ونوزعها بالحب على الجائعين اليها ولكن ماذا نعمل بالعقل المحلل والمضني. هو يقول ان الكوارث قد تحل، قد تعيد الينا الأحزان والفقر والمرض. تتشابه الأزمان في الشقاء ويقع الموت علينا كما تحل المسرة. وما يسمى تاريخًا هو تاريخ الخوف الذي فتك أو الذي نتوقعه ما خلا القداسة التي تحمينا وحدها من مخافة الموت.

السنة التي نستهلها اليوم موصولة بالتي عبرت وقد لا تكون أفضل منها لأن للأحقاد استمرارا وللتوترات بقاء والعداوة حاكمة حتى نهاية الدهور والهويات متناحرة فأنا عدوك لأني أنا أنا وأنت أنت وثروتي كثروتك، تشبهني فأكرهك أو أنت أذكى مني ولا أعترف بذلك فأنمّ عليك وكامنة فيّ ذئبيّة مفترسة لأقضي عليك وهذا كله يبيت في السياسة بغلاف الايديولوجية اذ الكلام كالمقول ستر لكلام غير مقول. البشرية قذارات ودم حتى يتجلى الله ويغسلنا من كل ذلك.

كيف اذًا نغير الكون؟ من يغيره؟ السؤال يفترض ان ثمة جماعات قادرة على تغيير السياسة. الناس عندنا يحسبون ان تغيير البلد في أيدي أهل الحكم ولكن القلة تؤمن ان الساسة يريدون بلدًا جديدًا وان ليس لهم مصلحة بظهور بلد حسن وجميل. ويؤتى بهم لمصالح الناس في آلية انتخابات نزيهة. ولكن لم يتبين حتى الآن إرادة تغيير. ماذا نعمل اذًا. هنا اليأس والقنوط يسودان وهذا يؤدي إلى تفجع ناتج من ان القديم على قدمه والتفجع من عدم ظهور دولة حاكمة أي قادرة.

#    #

#

انها لأعجوبة ان يعيش الناس في بلد لا حكم فيه أي لا عدالة فيه، بلد انقطع فيه الحوار بين الحاكم والمحكوم اذ لا يبدو فيه إرادة التعامل بينهما. وإذا نظرنا إلى غير لبنان، إلى الجوار العراقي مثلا أو الجوار المصري كل شيء يدل ان العنصرية تسود بشكل بشع عنوانه حسب الظاهر ان المطلوب تفريغ البلاد من المسيحيين. من هو العامل، من المخطط لكل ذلك، لمصلحة من؟ عند التحليل البسيط ليس ما يدل على ان المسيحيين العراقيين تحيزوا في العراق لفريق.

تعذرونهم اذا خافوا على وجودهم الجسدي وعلى شهادتهم الحضارية. وهم لا يربحون شيئا من فتنة اسلامية التي اذا حصلت، لا سمح الله، لا توفرهم. يقتلهم الغير مجانًا فإن موتهم ليس مربحا لأحد. لماذا صلاتهم في الكنائس يجب ان يحميها الجيش؟ هل جميل ان يصلي القوم خائفين أم يقبعون في بيوتهم لتصبح معابدهم أثارًا للسواح؟ من يمنع الذابحين ان يقضوا عليهم في منازلهم؟

كيف نشأت هذا البغضاء والمسيحيون قلة ليس لها قدرة ان تبغض أحدًا، قلة ليس لها أية وسيلة لتثبت نفسها في الوجود الجسدي فقط. أليس عيبًا ان تلتمس حماية بعد ان اقنعوها ان النظام في خدمة المواطنين جميعًا. ومن الثابت ان الدول الكبرى وكلها علمانية غير مهتمة بهذه الأقليات للحفاظ عليها جسديًا وهم لا ينفعون الدول بشيء. الصغار لا يدخلون في أية معادلة سياسة ولا يبدو ان أحدًا يتحرك لبقائهم واتكالهم على الله وحده.

الدنيا كلها ذبح حتى يعطل الرب أيدي الذابحين. لماذا لا يفهم القتلة ان الأخوة البشرية غير مستحيلة، انها أطيب عيش؟

#    #

#

حلول عالمية أو كونية ما بانت بعد. هل تنفع مناشدة الضمائر؟ السنة التي نستهلها اليوم ستراق فيها دماء ما لم تحصل أعجوبة سلام إلى هذا تفرغ فلسطين التاريخية منا بلا دم مهراق. ولكن من يقول هناك للمسيحيين الا يهاجروا؟ هل أرض المسيح معقولة حضاريا بلا أتباعه؟ هل تصبح كنيسة القيامة وكنيسة المهد أثرا بعد عين؟ هل يقال بعد بضع من سنين، هنا صلى قوم اسمهم المسيحيون ليذكرهم السواح ذكر قوم انقرضوا؟ معيب على العرب جميعا ان يتكلم يوما على كنيسة القيامة كما يتكلم الدليل عندنا على قلعة بعلبك. بلا المسيح عيسى ابن مريم اين تيقى بلاغة العرب؟

#  #

#

خارج الحديث عن الدول وحكامها، خارجا عن السياسة والدعاء يبقى الإنسان الفرد عربيا كان أم غير عربي وحده أمام الله. كان على كل منا ان يقول وحده لربه: ها انا لك مرميا في حضرتك، امام وجهك وحده اذ لم يبقَ لي وجه إزاء أحد. أنا لك في فقري وتعبي وأولادي الذين نسي القتلة ان يقتلوهم. أنا وهم في رحمتك. أنت طالبنا ونحن طالبوك. احينا انت في هذا الزمان الرديء الذي خلقه الأشرار وأهملنا فيه حكامنا. نعيش بفتات من الخبز وقد لا يبقى فتات. نحيا على الرجاء به نحن مخلصون. ادخل محبتك على ما تبقى لنا من هذا الجسد. ادخلها على تعبنا، على ضعف أجسادنا.

نحن عاهدناك الا نكره أحدا من حكامنا والمواطنين. ليس لنا سلاح نحمله ولا نريد. سوف نجوع إلى حبك اذ لم يبقَ لنا خبز نجوع اليه. بقوتك وحدها نحمل رجاءنا معنا ولو تشتتنا في دنياك الواسعة اذ ستكون أنت وطننا الوحيد. وفي شقاء سعينا سوف نجاهد الجهاد الحسن ونحفظ الايمان بهذا القليل الذي سيبقى لنا من التنفس.

علمنا ان نحب الذين يحبوننا والذين يبغضوننا. سنحب العراق ومصر وفلسطين حيثما استبقينا. سنحافظ على الجميع اذ لا ندين احدًا ولا نرى فيه السوء. ونسألك ان تفتقد كل البشر برحمتك الواسعة وتهديهم إلى الحق والدينونة لك وحدك في اليوم الآخر. لا نريد ان نقيم على أحد خطيئة فالقانون والراحمون كلهم ابناؤك.

امتحنا على قدر طاقتنا حتى لا تخور قوانا واجعل هذه السنة مرتعا لقدرتك أنت لنقول انها سنة جديدة. الجدة منك. أعدنا اليك وحدك حتى لا يخذلنا احد ولا نتمرمر فالتمرمر هو الجحيم. كل يوم، كل لحظة شدنا اليك حتى لا نموت حزنا. انك قضيت على الحزن بميلاد المخلص وموته وقيامته. بسبب منها نصبو إلى قيامتنا فيك كل يوم على رجاء القيامة الأخيرة والحياة الأبدية.

هل نفتتح معك السنة هذه بفضل من كلمتك ووعدك لنا بأرض يسكنها العدل. فاذا أتى أو لم يأتِ أنت وحدك مطرحنا ومطرح المطيعين لك الذين اعددت لهم ملكوتا لا يفنى.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

الميلاد / السبت 25 كانون الأول 2010

ان لم يكن كل عيد تدفق حب يكون فقط قطعة من الزمان ولا يصبح الزمان نقطة فينا وقد يضحي زمانه زمانا رديئا نقضي فيه حاجتنا الى التفاهات. ارى هنا مساحات مضاءة تقول للناس ان الميلاد قادم او قدم. هل دخلنا نحن عالم المعنى؟ من صاحب العيد او هل للعيد صاحب ام نحن وأطفالنا المحتفى بهم ولا سيما اذا اكلنا وشربنا ولهونا. هل هناك فاصل بين المؤمنين الذين يصلون واولئك الذين لا يصلّون. أتحجب هدايانا من تقبل هدايا المجوس؟ شغفنا بالزينة اذا جملنا الموسم فارغا من المعبود أليس عبادة للمخلوق؟ الا اعطانا الله ان تنفع الذكرى.

في البدء كان الفصح اي عبورنا من خطايانا الى حرية ابناء الله بالبر وفي مرحلة ثانية أتت الكنيسة بعيد الظهور الإلهي الذي يعيد له في السادس من كانون الثاني ويتضمن ذكرى عماد السيد وذكرى ميلاده حتى فصلا لأسباب رعائية. فصلت الكنيسة الميلاد عن العماد فجعلت تاريخه في عيد مولد الشمس في الامبراطورية الرومانية لئلا ينضم الشباب المسيحي الى الشبيبة الوثنية فيلهوان معا.

في الشرق بقي الفصح غالبا شعبيا. في الغرب انتقلت الأهمية الى الميلاد مع بقاء الكنيسة اللاتينية محافظة طقوسيا على قوة القيامة. عيد الميلاد المدعو الصغير هو طريقنا الى العيد الكبير الذي هو قلب فرحنا. الميلاد بدء الخلاص الذي يكتمل بصلب المخلص وقيامته. وهما ينعكسان فينا غلبة على الخطيئة وخوف الموت. للرعاة قال ملاك انكم تصيرون عظاما اذا استقبلتم ملك الملوك الذي يدعى مخلص العالم. لقد ولد في الجسد في بيت لحم لتولدوا مع كل البشر من فوق فتصيروا فاهمين وبالفهم الروحي فيكم تتجدد الإنسانية كلها وتصبح أرضكم سماء يسكن فيها العدل والعدل الكبير هو المحبة.

# #
#

هي محبة الله لكم من الآب وابنه وروحه. فالكلمة صار جسدا وحلّ فينا وبعبارة اوضح لليونانية التي نزل فيها الكتاب «صار الكلمة جسدا لينصب خيمته في حينا» فإنه يساكننا حيث نبيت ونبيت في أرض الله الواسعة مع كل من احبهم الله فجعلهم ابناءه. انتم كذلك لأن المولود الجديد جعلكم بذلك »شركاء الطبيعة الإلهية« بحيث تقر فيكم كل قوة الله وتدنون من كل إشراقات الرب لتضحوا بدوركم مكللين بالضياء الإلهي.

لقد اختار الله ان يبعث اليكم بابنه لتعرفوا قرباه. هذا هو سره انه اراد هذه الصورة ليعبر لكم عن احتضانه. تبناكم بملاصقتكم بشريته لتدركوا حقيقة قرباه. اجل كان له ان يخلصكم بكلمة ويبقى في سمائه ولكنه أراد بمشيئته الأزلية ان يوضح لكم محبته بصورة محسوسة فيتصرف المسيح معكم بطريقة إلهية-انسانية لتدركوا انكم مدعوون الى ان تتصرفوا إلهيا. تدركون عند ذاك انكم قادرون على تقبل الألوهة فيكم فلا تبقى هوة بين السماء والأرض.

الا تعلمون ان المسيح بعد ان جلس عن يمين الآب قال لكم انكم انتم به وفيه مدعوون بالنعمة ان تجالسوا الله وان ترفعوا فكركم الى «الفكر الذي كان في المسيح يسوع».

هذا حقق التواصل بينكم وبين أبيه اذ ان طبيعتكم الجسدية قادرة ان ترتفع بلا انقطاع. غير ان هذا التواصل عطاء منه وهدية منكم اليه ليس كهدايا المجوس اذ ان هديتكم واحدة وهي التوبة. بها تفهمون ان المسيح كما كان فقيرا هو الذي يجعلكم فقراء الى أبيه وكما بات متواضعا يربيكم على التواضع الذي تفهمون فيه ان ليس لكم سوى كبر التواضع. بالتوبة تتحولون الى وجهه فيرتسم عليكم نوره وتغدون كلكم قامات من نور. تسقط، اذ ذاك، ترابيتكم فيراكم نورا.

هذا يقتضي ان تصيروا مسحاء اي ممسوحين بنعمته وثابتين امامه بالنعمة وممتلئين بالفرح النازل من عنده اذ ليس لكم بحق الا هذا الفرح. وما لكم من مقر الا قرب عرشه أبرارا مع كل الأبرار، أحياء بكل قداسة يغدقها هو عليكم يوما بعد يوم وجيلا بعد جيل اذ ليس من تاريخ الا تراكم القديسين المذبوحة قلوبهم بالحب حتى يجيء الرب ثانية في آخر الأرمنة.

# #

#

«افرحوا في كل حين وايضا أقول افرحوا» ولا تخشوا كونكم قطيعا صغيرا. لا تحزنوا من هذا فالقطيع الصغير يولفه كبار النفوس ولطفاء القلب. ليس لكم ان تعدوا المؤمنين الذين يأتون من عمق الرب. العالم الإلهي لا يخضع للأرقام. هو توهج وفي التوهج تتكون الوجوه. «هلموا نصعد الى جبل الرب» ولا تصالحوا السقوط والذي قدر ان يخرجكم من العدم الى الوجود المنظور قادر ان يرفعكم الى الوجود غير المنظور الذي يؤلفه القديسون.

ميلاد الرب وعد لكم وموعد مع البرارة. ومتاع الدنيا يبقى في الدنيا وانتم منذ الآن مخطوفو النعمة ومتكونون منها. لا تخالطوا الظلمة ولا موضعا في الظلام لأن سكناكم الملكوت. هذا ليس مرجأ. فالملكوت يقترب دائما منكم لأن المليك قد جاء واختاركم وأحبكم واتكأتم على صدره وهناك سمعتم كلمات لا يسوغ النطق بها. وبعد هذا فالامَ تستمعون؟ «رنّموا للرب ترنيمة جديدة» كلما استمعتم الى كلمات الرب.

رتلوا امام المذود في فقركم الى مطرح في المذود. منه يأتيكم الهتاف اليه وبعد الهتاف اليه تخرجون الى العالم لتضموا اليكم أجواق السكارى بالحب الإلهي.

عيدكم اليوم زينتكم الداخلية وما من زينة أخرى حتى يحب الله جمالكم اذ هو جماله. يحبكم الله كما يحب ابنه الوحيد بالمقدار نفسه والزخم ذاته لأنكم حصلتم على مجد المسيح بين الجلجلة والقبر. لازموا بيت لحم كمنطلق الى العلى.

هذه معموديتكم الثانية. انكم لقد متم مع المسيح لتقوموا معه وذلك كل يوم في نباهة النفس واشتهاء الكمال الذي ينزل من عنده. بعد هذا لا يبقى لكم ما نطلبونه. انتم مقيمون عنده برغبة الإقامة.

الميلاد جاء لتطلبوا الميلاد الثاني لكم هذا الذي وعدكم به. الإنسان يولد من السماء قبل ان يبلغ السماء العلوية. هو أزال الهوة التي كنتم تتصورون بين ما هو فوق وما هو تحت. لأنه هو الذي أصعدكم منذ الآن الى فوق.

هذا هو ميلاد الرب وميلادكم. انهما واحد حتى تخرج من أفواهكم وقلوبكم ترنيمة أبدية.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

إخوة يسوع الفقراء / السبت 18 كانون الأول 2010

في ميلاد يسوع «قمّطته (مريم) وأضجعته لأنه لم يكن لهما موضع في المنزل» (لوقا 2: 10). المراد هنا هو إما «ردهة» خان والخان فيه زريبة، وإما مضافة احد المنازل. لم يأتِ حديث عن مغارة. ذكر المغارة متأخر. الإقامة كانت قياسا على ما بقي في هذا المشرق من خانات الطابق السفلي منها لدواب المسافرين الذين كانوا ينزلون في الطابق العلوي. اذ يبدو لي أن يسوع الطفل ظهر في هذا العالم محاطا بحيوانات ليست بالضرورة حمارا وبقرة وذكرهما غير وارد في النص. في نقاهة الوالدة بقي السيد عشير أدنى المخلوقات الحية المحسوبة لا شيء.

يسوع لمّا بلغ حوالى الثلاثين حسب تقاليد اليهود، أخذ يعلّم ولازم أدنى طبقة اجتماعية الصيادين على بحيرة طبرية ما كان عندهم دخل ثابت اذ يقول الإنجيل انهم أحيانا ما كانوا يحصلون على صيد. وكان فقرهم باديا اذ اخذوا مرة «يقطفون السنابل ويأكلون» (لوقا 6: 1).

بعد القيامة ظهر لهم مرة وقال: «يا غلمان ألعل عندكم إدامًا؟» (يوحنا 21: 5) وبتعبير آخر: هل عندكم شيء من المأكول؟ فقالوا لا. هذا يعني انهم لم يصيدوا في تلك الليلة شيئا.

الى هذا يذكر لوقا أن كانت نساء كن قد شُفين من ارواح شريرة وأمراض كن يخدمنه من أموالهن (8: 1-3). طبعا هذا لم يكن راتبا شهريا للجماعة. كان يسوع اذًا لا دخل له نظاميّ اي كان ينتمي الى الطبقة الدنيا من اهل فلسطين. فلما طوّب الفقراء عرف الشدة التي كانوا عليها وعلم أن الموسرين عليهم واجبات عظيمة لهؤلاء المحرومين. واذا قاموا بها يدخلون ملكوت السموات.

ان كنت انت محبا للمسيح تحب أهله هؤلاء فيكون لك معه نصيب. هذا في الميلاد القادم وفي كل ذكرى ميلاد. انضمامك الى يسوع يعني رفع الظلم عن الكواهل التي يُتعبها الفقر.

# #

#

لست اقول هذا للذين يتبعون ديانة الإنجيل وحسب ولكن لمن كانوا إنجيليي الروح على أيّ مذهب كانوا. أن تقبل أن يبقى الجائع على حاله وانت قادر على عنايةٍ ما به يعني قبولك بأن تأكل انت وعيالك وتُهمله ولك القدرة الا تهمله فهو من لحمك.

تعظم الخطيئة عندما نعرف هذا الوضع وليس احد اليوم في لبنان لا يعرف والأعلمون القيّمون على الحكم وعندهم دراسات. هالني ما سمعته من مدة قريبة على الإعلام. قالت امرأة معوزة (اي غير قادرة على التوفير) ان عائلتها تنفق ثلاثين ألف ليرة في النهار على الطعام. ضربت هذا بثلاثين يوما فكانت الحصيلة أن هذه العيلة في حاجة الى ما يقرب من مليون ليرة على الطعام. اكثر من نصف الناس ليس عندهم هذا المبلغ. واذا أضفنا الى هذا الكساء وإيجار البيت ونفقات الطبابة وأقساط المدارس، إن نسبة ضخمة جدا من المواطنين دخلها دون هذه المبالغ بكثير. ربما لم يمت احد جوعا بتقدير الأطباء ولكنه ضعف التغذية المؤذي للأطفال والمراهقين وشيخوخة مبكرة للكثيرين وأحزان ويأس عند غالبي السكان. الفاقة الفائقة الحد تجعلك بلا أفق ولا أمل.

هل من علاج سريع اسمه بالحد الأدنى إبعاد خطر الجوع الراهن او المحدق بنا؟ لقد أحلّ بنا المجاعة عمدا جمال باشا السفاح في الحرب العالمية الاولى إطعاما للعسكر الألماني والعثماني من جهة وقصد إبادتنا لرفضنا خدمة الدولة المستعمرة. أُبيد ما لا يقلّ عن ثلث شعبنا. هل هناك زمرة جشعة لا أتهمها بقصد الإبادة ولكنها تتصرف بلا وعي ولا تخطيط ولا شفقة فينكشف تباين رهيب بين المالكين الكبار وغير المالكين لنكبتهم؟

انا ليس عندي وصفة لحل هذه المشكلة. علماء الاقتصاد والمال هم الأعلمون. ويُطلب الإحساس من القائمين على الحكم، ويُطلب الفهم وتمييز الأولويات، وهل من شك أن الأولوية الأولى لتخفيض الاسعار بأية وسيلة يعرفها العلماء؟

من يكلّمكم عرف الجوع الحقيقي في غربته. أكل خبزا فقط ممسوحا بزبدة نباتية خلال خمسين يوما بلا خضار ولا لحم ولا جبنة ولا لبن ولا فاكهة وذلك في بدايات الخمسينات من القرن العشرين في فرنسا. انقطع عنه مصدر تمويله بلا سبب يعرفه حتى اليوم.

# #

#

لا يستطيع المواطن الظالمه جوعه أن ينتظر قيام الدولة في كل مرافقها. أُمورنا بعضها الى بعض لن تنتظم بسرعة. هناك ما يوجع وهناك ما نصبو اليه من تحسين أموالنا وترقيتنا. نتصدى أوّلا الى ما يوجع حتى نتمكن من ألا نصرخ، من ألا يبكي اولادنا.

من عاش في ضائقة يبقى وضعه معقولا بالنسبة الى من كان تحت الضائقة اي في حال كفر حقيقي وبكاء متواصل للأطفال. رتبوا شيئا معقولا للفم قبل اي مشروع قابل للتأجيل. أعرف أن العالمين بالأشياء قد يقولون لي مثلا ان تشجيع السياحة سيحلّ المشكلة. هل هم عارفون بأن الرضيع يجب أن يرضع الآن ولا يستطيع أن ينتظر تدفق السواح؟ من سنوات كتبتُ في هذا الزاوية ما قد أكون صغته هكذا: ماذا تنفع الطرقات التي يسير عليها الفقراء الى قبورهم؟ هناك تراتب بين النافع والأنفع، بين ما نقوم به اليوم وما نقوم به غدا.

هل تريدون مني هذا الكلام المجازي: أتريدون ان يولد الأولاد في زريبة كما وُلد يسوع أَم ان أمه ويوسف قبلا بذلك حتى لا تتكرر مثل هذه الحادثة؟ من له أن يعيّد بعد أسبوع ليفرح اولاده بهداياهم والعائلة بمآكلها والأطياب ألا يستطيع شيئا لجاره المحروم ولعله يستطيع أن يحرك الدولة وأقطابها ليقوى حسهم بإخوتنا الذين الفقر الكبير قاهرهم.

القداس الحقيقي للعيد يكون بعد القداس، على مذبح الفقير الذي يقول عنه يوحنا الذهبي الفم انه أعظم من مذبح القربان. من لم يقرأ أن الفقير اهم شخص يحبّه صاحب العيد ليس له عيد.

اذهبوا وافهموا وشاركوا ليستمع الله الى صلوات عيدكم.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

تحدر يسوع البشري وارتقاؤنا / السبت ١١ كانون الأول ٢٠١٠

سلالتان ليسوع إحداها عند متى والأخرى عند لوقا. لا يهمني هنا اختلافهما لأنهما كليهما ما كان هاجسهما رسم شجرة العائلة بدقة ولكن عند كل منهما أطروحة لاهوتية تختبئ وراء اسماء وردت في تاريخ العهد القديم. اذًا هناك ارتباط بهذا العهد ما يعني معاني لاهوتية تتصل بالسلالة وبعامة تتصل ببشرية المسيح. تأكيد هذه البشرية لم يرد على خاطر قراء الإنجيل الأوائل ولكنه ورد فيما بعد اذ أنكر قوم حقيقة جسده كما أنكر آخرون ألوهيته. هاتان اللائحتان برزتا داعمتين للعقيدة في هذا الزمان او ذاك.

         الفرق اللاهوتي واضح بين متى ولوقا بسبب افتراق الغاية عند هذا وذاك. لوقا يبدأ بيوسف الذي «كان يظن» -هذا كلام لوقا- على انه ابو يسوع. وهو يقول بعلى ما كان يظنا ليؤكد بتولية مريم حسبما ورد ذكرها في التراث السابق له والوارد بوضوح عند متى. لا نعرف اذا كان لوقا قرأ متى لأن كل واحد -كما يؤكد العلماء المعاصرون- وضع بشارته بين السنة الثمانين في القرن الأول والسنة التسعين.

         غير ان لوقا كتب من زاوية الانسانية كلها ومتى من الزاوية اليهودية. لوقا يبدأ بيوسف وينتهي بآدم ومتى يبدأ بابراهيم ويصل الى يوسف. فكرة متى ان يسوع الناصري هو المسيح الذي ارتجاه الأنبياء ويختم نسل الإيمان الذي بدأ بابراهيم ولوقا اراد ان يبين انه مخلص العالم ولذلك ينهي السلالة بآدم غير انه بعد ذكر هذا يقول عن يسوع انه ابن الله.

         في السلالتين ابراهيم ليس من اسرائيل. ابراهيم يقول عن والده: «كان ابي آراميا تائها» (تثنية 26: 5) فاسرائيل اذًا لم يبدأ به. هو اسم ليعقوب حفيد ابراهيم. في الطقس البيزنطي يوم غد يدعى احد الأجداد ومن بين هؤلاء ملكيصاداق الذي كان من خارج اسرائيل وبارك ابراهيم. يسوع منسوب على الأقل الى اثنين ليس واحد منهما عبرانيا. منسوب يسوع الى هذا الملك الكنعاني وليس له معه صلة جسدية. هنا لا بد لنا ان نفتش عن فكر الكنيسة التي ترى ارتباطا ما بشخصين ليسا من اسرائيل. ما هو هذا الارتباط؟

         ملكيصاداق يقول عنه الكتاب انه ملك السلام او ملك اورشليم قبل ان يجعلها داود عاصمة لملكه. ملكيصاداق صورة للمسيح او نموذج. بلغة اليوم نقول انها صلة ثقافية وليست صلة دين.

# #

#

         بتعبير آخر المسيح وريث ايضا لمن ليس له معهم وحدة دم. لست أوحي بهذا ان السيد أخذ شيئا من وثنيي الجليل الذين كانوا ينطقون باليونانية ولكن الكنيسة رأته منفتحا على الذين كانوا قبله خارج الشعب اليهودي. وهذا ليس منحصرا بمن سبقوه ولكن كنيسته منفتحة على الذين عاصرتهم من بعده ويتحققون فيها علموا ام لم يعلموا. ولهذا يتسربل الإنجيل الثقافات الدينية الأخرى دون ان يخون نفسه ويأخذ هذا الإنجيل الشكل التعبيري الملائم له اذا دخل ميادين دينية او ثقافية اخرى.

         هنا تلاقي الدعوة المسيحية الفكر اليوناني. فالإنجيل لا يتضمّن كلمة جوهر التي نطلقها على طبيعة الله كما لا يتضمّن كلمة أقنوم ولكن هذا لا يعني ان المسيحية صارت يونانية في المجمع المسكوني الأول (النيقاوي) الذي أتى بدستور الإيمان الجامع الكنائس المسيحية كلها. انما ارادت الكنيسة الدخول الى الثقافة اليونانية لتنتشر بها في الأوساط الهيلينيّة المثقفة. الآباء الذين تثقفوا يونانيا كانوا يعلمون انهم لم يخونوا الانجيل ولكن كانوا يبلغونه بلغة عصرهم.

         ولماذا لا تكون هذه الثقافة ثوبا للإنجيل الذي ارتدى عند تدوينه الثقافة العبرية. هي ايضا ثقافة بشرية. في كل عصر كان المسيحيون مخلصين لإنجيل لابس ثوبا عبريا. لماذا لا يلبس في جيل آخر الثوب الذي يحتاج اليه؟ لماذا لا تكون الفلسفة الألمانية مثلا او ما جاء بعدها من فلسفات كساء للوحي الإنجيلي في إخلاص كل جيل للوحي الواحد؟

         بعد العنصرة تكلّم كل الرسل لغات متعددة يذكرها سفر الأعمال ليقولوا ما اوحي اليهم بلغتهم. تعدد الألسنة ووحدة الوحي.

         على هذه الصورة عندك في المسيحية طقوس مختلفة كانت الكنيسة تبدو فيها واحدة مع اختلاف العبادات وجوهر العبادة واحد.

         نحن نعمّد الثقافات كما نعمّد الإنسان فالانسان البالغ اذا تقبل العماد يطرح عنه الخطيئة بما فيها الفكر المخالف للمسيح ولكن طبائعه تبقى كما كانت وميوله الحسنة تبقى كما كانت اذ يطرح فقط الميول الرديئة. لا يرمي صناعته ولغاته ولا هوية بلده ولا انتماء له سليما. لا تلتصق به في المعمودية هوية له بشرية ولكنه يصير انسانا جديدا مع حفاظه على القديم الجيد الذي كان يحمله.

         المسيحية تلملم كل حسنات الثقافات وتطرح فقط سيئاتها. الإنسان يصبح جديدا بعمق النفس الذي فيه وهو على صورة الله قبل المعمودية الخطأ الذي كان يحمله لم يكن عنده جزءًا من صورة الله التي تكوّنه. المسيحي جديد بجدة المسيح وقديم بقدم آدم ويبقى ابن آدم ولو صار بالايمان ابن الله.

# #

#

         جمال الإنسان في ما ورثه من ربه ومن آدم معا. الله لا يبيد فينا آدميتنا والآدمية تتلقى الألوهية وتتحدان بلا انفصال ولا انقسام ولا اختلاط. في معتقدنا «تأنس ابن الله ليتأله ابن الإنسان». حركة الله الينا كانت تنازلا وحركتنا اليه كانت تصاعدا وهذا ما نعنيه في قولنا انه «جلس عن يمين الآب» اي ان بشريته بسبب موته وقيامته استحقت ان تكون جليسة الرب على العرش. وهذا تحرك الى الله دائم بنعمته وكرمه ورضائه ونبقى خلائق ولكنها خلائق جديدة. اذ يبقى الله نازلا حتى منتهى الدهور بكلمته ويبقى الانسان صاعدا بقوة هذه الكلمة نفسها وسر ذلك محبة الله للإنسان.

         سألني مرة صديق لي يعرف الموسيقى جيدا: هل نسمع السمفونية التاسعة فوق؟ أجبته تبقى متلقيا لجوهرها بلا صوت او رنة اي يظل القلب حاملًا كل غنى الفكر ولا نعود الى الجهل الذي كنا عليه قبل تلقينا المعارف.

         السماويات لا تزيل الأرضيات التي حلّ فيها روح الله. التاريخ بما كان فيه من بهاء يسجل في الأبديات. والأبديات التي كانت فينا لم نؤتاها لحظة اكتسابها لأن ما اكتسبناها هبط علينا مما لا بدء له ولذلك لا نهاية للإنسان الذي مجّده الله بالقيامة. بمعنى نحن في السماء هنا بعد ان اقتبلناها بحب وما جاءنا بحب يلازمنا من بعد القيامة. ولعله هو سبب القيامة.

         من هنا اننا قياميون بما نقتبسه من الخير والفهم لأنهما من الحقيقة التي يسكبها علينا الرضاء الإلهي.

         المسيح في بشريته الذي ورث كل جمالات التاريخ الذي قبله واحتضن جمالات التاريخ الذي تلاه صورة عن مصيرنا.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

الحياة / السبت 4 كانون الأول 2010

الحياة، بمعناها البسيط، هي المساحة التي تمتدّ من لحظة الولادة الى ساعة الموت. وفيها جوانب كثيرة لا بدّ من الإحاطة ببعض منها لنفهمها بكليّتها. أبدأ بما هو على سطح الوجود أعني الجسد. هذا هو البرهان الساطع على وجودنا. أعضاؤنا فيه او منه. نحسّ به معافى او مريضًا. مزاجنا يتقلّب بتقلّبه. نعبّر به عن كثير من مشاعرنا. تتسجل فيه كل خاطرة من خواطرنا ان تفكرنا حسنًا او تفكرنا بسوء. هو قريبنا واحيانًا صديقنا. يسحرنا بصورة مذهلة اذا أدركنا وظائفه وذلك الارتباط العجيب بينها.

اللحم والعظام، الدم، الهواء، كيف يترابط كل هذا ليستقيم. هذا الكيان المحسوس يسهم في قيادة الناس الى الله اذ لا تقدر المادة ان تنتج الحياة بمعناها الراقي؟ كيف يرافقك اختلالك وتبقى في سر وحدتك وسلامة كبيرة او قليلة حتى تبيد وحدتك اذ يستردّك الله الى رحمته.

ولعلّ السحر يقوى عندما تتأمّل ان جسدين اذا تلاقيا ينتجان جسدًا آخر اي حياة أخرى. وهذا يحدث فيهما كليهما نموًا لا انتقاصًا وانتعاشًا وحلاوة وحرية. انت ترى ولا تفهم ان الإنسان كله في الجنين، في بيولوجيته وطبائعه استعدادًا للتربية.

الى هذا ليست المعمورة جسما واحدًا. هي الآن ما يقرب سبعة مليار بشري من كل الألوان والقامات كل منهم يختلف عن الآخر في كل جزء من أجزائه المنظورة وغير المنظورة. انت على المستوى الأدنى من الوجود تعرف البشر من خلال عيونهم وأيديهم وما اليها. هذا اول صعيد المعرفة التي لا احتقارفيها لأحد ويستوي فيه القوي والضعيف، الصحيح والمعوق. البشر كلهم في حالة التمجيد لله عرفوا ام لم يعرفوا اذ قال أحد آبائنا ان الجسم ايضا هو مع النفس على صورة الله والرب في العهد الجديد لم يتكلّم مرة عن الجمال الذي عند بعض ومرد ذلك ان كل ابنائه متساوون عنده في ما يبدو منهم كما هم متساوون في محبته لهم. الله يضع في كل واحد منا بهاءه وهذا لا علاقة له بما يظنه الإنسان تفوقا فيه.


# #
#

أعظم من الجسد العقل الذي نغوص فيه على أسرارنا وأسرار الكون. قال الأقدمون ان الإنسان حيوان ناطق والمراد به العقل وبه يمتاز عن كل الخلائق. وهذا مرتكز على الدماغ ولكنه ليس الدماغ. العقل بالعربية الربط ومظهره المنطق وفي اللغة هو نطاق الذي يوحد الفكر اي يكتشف الرؤية ويجعل الإنسان بعد الله سيد الخليقة لكونه يستوعبها بحيث تجتمع كلها في عقله.

تتكون بنا المعارف ونسعى لجمعها فينا حتى تأخذ وحدتها وبهذا يأتي العمل الذي به نغير العالم ونجبل أجزاءه وهذا ما أراده الله عندما دعانا الى التسلّط على الدنيا وفي لغة الله ليس لنا في هذا كبرياء ولكن لنا الخدمة وبالخدمة يرتقي الكون اذ نؤنسنه. وفي هذا نصبح متواضعين. السلطة التي لنا هي التواضع الذي به يعظم الكون فينا ونحن نعظم به.

نحن ندخل الكون ولا نقتحمه. واذا جئناه بلين نتروض على الرقة. العقل يمكن ان يصبح طريقا الى المحبة. لولاها يستبدّ الفكر وبها ينجو من عنجهية له ممكنة فيصير أداة دمار وموت لنا وللآخرين. لذلك لا نوافق قول ابي العلاء المعري ان لا إمام الا العقل. ذكاء شاعرنا العظيم كان يجب ان يعصمه عن هذا التأكيد الذي أراد به محاربة الخرافات ولكن العقل السليم حر من الخرافة. يحتاج الى بركات من فوق ليتحرّر من تعصبه ضد الالتواء الذي يأتي من كل انحراف في الفكر.

اقلّه ان العقل زينة كما تقول العامة. ولكنه أهم من ذلك. هو بنيتنا في سعته وشموليته وان كان العالِم والجاهل يتساوان امام الله. اجل يزعجك الجاهل ان كنت فهيمًا ولكن يجب ان تضم الجاهل اليك لأنه حبيب الله ويساعدك الا تفتخر بالفكر. النعمة الإلهية تنزل على من تشاء. ليس شأنك بل شأن الله انه يسكب عليك التماع وجودك. الاستكبار إثم كبير مشوّه لصورة الله فيك. ولكن قد تحب اجتماع الأذكياء. هذا كله تنمية لك ولهم وبدء إخاء. وفي الإخاء مجد الله.

وهذا يفضي الى تفتق المواهب وتوزيعها. فلتأتِ الحقيقة من حيث تستطيع والى من يتقبّلها. العقل الذي يسبح في الحقيقة هو ما يريده الرب لك. انت لست غاية ذكائك. الله والإخوة هم الغاية من قوة فكرك. لا تنظر الى عقلك كما الى مرآة. انظر فقط الى من تخدم.


# #
#

عند الأرثوذكس كلام يقول ان العقل يجب ان ينزل الى القلب ليتطهّر ثم يصعد حتى يصير عقلا طيبا. ويقول احد المتصوفة (الحلاج) لله: «مكانك من قلبي القلب كله». القلب اذًا عند كبارنا ليس مكان التأثّر العاطفي. انه مكان الفهم اذا نزل الله اليه وكأن كبارنا يقولون ان الله مصدر الفهم.

هذا يذهب بي الى إنجيل يوحنا في رواية العشاء الأخير. يقول: «وكان متكئًا في حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه فأومأ اليه سمعان بطرس ان يسأل من عسى ان يكون الذي قال عنه (يهوذا الاسخريوطي) واتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له يا سيد من هو» (13: 23-25). في التصورات العبرية الحضن هو مكان العاطفة التي كات التلميذ الحبيب يتقبلها. غير انه لما اتكأ هذا على صدر المعلم وصل الى القلب اي الى مكان الفهم.


انت تفهم عندما يخاطبك الله، عندما يضمّك اليه. تصير، عند ذاك، صاحب قلبك، ويسكنه الله. يصبح فهم الله فهمك. عندئذ تضم الكون اليك. بعد هذا تفهم انت الكون وذلك في عملية تلاقي العقل والقلب.


هذا يصبح الأعلى اذا أحبّ وتقبّل العقل فيه. الفاهم هو الله فيك.


التكوين البشري يبدأ بالجسد الذي هو من تراب والنفَس الذي نفخه الله فيه. اذًا عندنا تراب وعقل وترابية ترتقي الى العقل. ثم اذا استراح الفكر في القلب وأخذ منه الحب يتنقى. واذا استترت المحبة فيك «تتأنى وترفق. ولا تتفاخر ولا تنتفخ… لا تظنُّ السوء ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق» (1كورنثوس 13: 4-6).


الإنسان جسد يرقى الى عقل وعقل يعلو بالقلب. هذه مجتمعة مراقي وجود يصبو الى كمال حتى اذا رآه الله يحسب انك أكملت سعيك في الأرض اذ لا يليق بك بعد هذا الا السماء.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

الموت / السبت 27 تشرين الثاني 2010

هذا يبدو لي المسألة الوحيدة في الحياة. نحن متمسكون بالحياة لأننا لم نُخلق لنموت ولكن الإنسان أُعطي ان يختار الموت فاختاره فحلّ عليه قصاصًا لمّا ارتضى ان تغلبه الخطيئة المندسّة في كيانه وكأنه لم يصدق ان أمر الخطيئة فيه جديّ جدًا. لم يُرد ان يتصوّر انها تقضي عليه. الجنس البشري معطوب اذًا؟ كل منّا يولد معطوبا هذا واقع نفسنا وجسدنا. لذلك تقول المسيحية بأنه لا بد من مخلّص. هل يرمِّم المكسور نفسه؟ هل يسلم المشلول ويمشي من ذاته؟



نحن نقول ان ما من انسان يحيا ولا يخطئ. فرويد اكتشف ان كلا منا مصاب بعُصاب اي ان في كيانه التواء. ولكن فرويد لا يقول ان احدًا خاطئ. لا يهمّه الأمر كلّه. الشعور الضخم بالذنب عنده عقدة. لماذا يموت؟ ليس في هذا عند العلماء مشكلة. الجسم مختبر خيميائي يختلّ فيه التوازن بين الملح والبوتاسيوم. لا يدخل اليه الأوكسيجين بما فيه الكفاية. تعمّ الأعضاء الفوضى. لماذا يكون كل هذا؟ لا جواب عند العارفين بجسمنا. يعزي بعضنا بعضا بالشعر ان بقينا على صعيد علم الحياة. لا أحد يعرف كيف نرث الموت.



الذي نسميه النزاع -بكلمة عربية واضحة- يدلّ على اننا رافضون الموت طبيعيا من حيث اننا نحس ان فراق الحياة ضدّ ما كنّا نصبو اليه في وجودنا الأرضي. اجل نحن وارثون الفكرة العبرية ان الله يحيي ويميت لاعتقادنا انه سبب الوجود وزوال الوجود. ولكنا نعرف ان الله كله وجود ولا أثر فيه للعدم. وكذلك نعرف من سفر التكوين ان الله سمح لآدم بالموت اذا هو أراد فالله اذًا ليس منشئ الموت. فسّر ذلك بولس بعد ذلك بقوله: «أجرة الخطيئة هي موت». تسرب هو الينا بتسربها. كيف كان هذا؟ لا نعرف الكيف الا بصورة الحية اي بعامل هو خارج الإنسان. ليس عندنا كلام عن منشأ الخطيئة في الإنسان او من الانسان. الموت سر كما الحياة. ظرفه او سبيله الينا هو الإثم اي هذا الذي لم نعد له ولكن انفتحت له الحرية.


# #
#

كيف مالت الحرية الى ما ينتقص منها؟ كيف فقدت الكثير من جمالها؟ كيف تخبّطت؟ في جنوحها بات الشر حدثا وغدا ثقيلا جدا، حملا لا يُحمل هو القاعدة المنظورة او المألوفة وان لم يكن في نشأة الخلق. من يرى الينا لا يرى فينا سمة الخلق الأول. فُقد الجمال الأول، وصارت طرقنا طرقًا الى السقوط ثم الى الفناء فتلازمت الخطيئة والموت الى ان ينبلج فجر الحياة الجديدة بالمنقذ.


في كل هذا ما موت المسيح؟ المسيح تطوع للموت. هذا يجب التأكيد عليه كثيرا لنفهم موتنا في المسيرة التي دشنها يسوع. فإنه ان مات لأجلنا تكون الخطيئة قد امحت بموته كأنها لم تكن. هذا هو المعنى الأول للخلاص. جوهر هذا المعنى ان الحب قاد يسوع الى الموت. ومعنى المعنى انه أراد ان يلازمنا في كل شيء وفي هذا العدم المنظور الذي يسمى الموت. وفي هذا حررنا من خوف الموت حسب قول الرسول: «فاذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو ايضا كذلك فيهما لكيما يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت…ويعتق اولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعا كلّ حياتهم تحت العبودية» (عبرانيين 2: 14 و15).



هذه هي الخطوة للنظر الى أنفسنا أحرارا من وطأة هذه القباحة الرهيبة التي هي الموت. لقد أعطانا الناصري الا نخاف. هذا ممكن عند الذين بلغوا في الإيمان درجة علينا وكأنهم قاموا من بين الأموات. يبقى النزاع من حيث هو ذروة الألم ان كنّا واعين له. النزاع هو المشهد الأخير الذي يترجم تناقض الحياة والموت. ولك ان تعبر من الحياة الجسدية الى الحياة الأبدية وانت في صميم النزاع وان تصعد وتطمئن وتذوق بدايات الخلود. وقد يبقى فيك الإنسان العتيق الذي صاره آدم بعد أكله من شجرة معرفة الخير والشر.


كل منّا عتيق وهو لا يعي عتاقته الا اذا اهتدى الى المسيح اهتداءً كبيرا. قلّة عزيزة لا تخشى نهاية الوجود الأرضي.


الفداء لم يلغِ الموت بمعنى ان القيامة العامة لا تزال مرجوة. ومن بعد ان غفر لنا الرب كلّ آثامنا بقيت فينا آثارها اي كثير من الخلل الداخلي العميق ولكن بقي لنا قيامات بالتوبات وتطلع الى النور الذي يحلّ فينا من بعد موت. ونعبّر عن هذا في دستور الايمان بقولنا: «وأترجى قيامة الموتى والحياة في الدهر الاتي». لماذا لم يتابع الدستور بداءته ليقول هذا: «اؤمن بقيامة الموتى». ربما لأنه في ما سبق تحدث فقط عن الإيمان بالله ولا ايمان الا به اما الحادثة اعني قيامة الموتى فتدخل في مقولة الرجاء.


# #
#


بهذا نقول اننا لا نموت كالوثنينن او الملحدين الذين لا رجاء لهم. لقد أضحى الموت مع المسيح ليس فرحا بل باب مفتوح على النور الذي لن يحلّ بكلّ قوته الا عند مجيء المسيح الثاني. وعندما يقول الرسول: «آخر عدو يبطل هو الموت» يبقى هذا عدوًا حتى بعد اعتناقنا المسيح ولكنه عدو مغلوب في رجائنا. «أين شوكتك يا موت، اين غلبتك ايتها الجحيم» (1كورنثوس 15: 55).


يعني كل هذا الكلام اننا بالمسيح لم نصالح الموت. «وطئ الموت بالموت». لقد صالحنا مع القيامة. نموت غير مقهورين وعينا قلبنا مفتوحتان على الملكوت الذي أطلّ علينا بالمسيح «اقترب ملكوت السموات». نذوق الأشياء التي وُعدنا بها ذوقًا. اجل يوحنا الذهبي الفم بعد انتهاء كلام التقديس في قداسه يقول عن القرابين انها «كمال ملكوت السموات» هذه عندي شطحة صوفيّة لتوحي ان جسد الرب ودمه الكريمين هنا يشبهان الملكوت الآتي بقوته اذ بعد ذلك نموت ولنا على المخلص الدالة نتحول بها عن «المحاكمة والإدانة».


وقد يكون أعظم نعمة ننالها في النزاع او قبله ان نحسّ بانضمامنا الى صدر يسوع وهذا الانضمام هو المغفرة والوعد. هذه هي الطمأنينة التي نصل اليها فيما نشعر بأن الموت على الأبواب. يقرع الباب ونتوقعه ونعرف انه ديس بقيامة المخلّص. نعرف انه هو الغالب فينا واننا ننسلخ عن حضن هذا العالم لنرتمي في حضنه محبوبين ونعرف انه يرفعنا الى صدره لكي نفهم كل شيء.


والفهم هو المجد. لذلك نتكلّم نحن على اجساد ممجّدة اي بانسكاب الضياء الإلهي عليها. كذلك نعرف ان نور المخلص سينزل على الكون بكامله فيسقط منه التراب ليمسي نورا كاملا. وكما قال الله في البدء ليكن نور فكان نور وكان هذا يوما اول سيقول في الأخير ليعمّ النور الخليقة كلها فيقول ربنا للخلائق: هذا هو اليوم الثامن الذي ينهي الأزمنة القديمة لتكون سماء جديدة وأرض جديدة نسيجهما كله من نور. «فلن يكون موت». (رؤيا 21: 4).

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

مسلمون ومسيحيون في العالم / السبت 20 تشرين الثاني 2010

غاية في الصعوبة التكلّم عن علاقة هاتين الجماعتين في العالم بسبب اختلاط المستوى الديني والمستوى السياسي فيهما. من حيث المبدأ، الدين والدنيا متلاقيان دائما في الذهن الإسلامي على ما يقول معظم العلماء. من حيث الواقع، المسيحية في الرؤية الاسلامية هي مسيحية الغرب التي كانت منذ الحملات الصليبيّة دائما مسيّسة. هي كانت مدة مئتي سنة قتال بين الغرب الواعي مسيحيته والشرق. ثم جاء الاستعمار الذي استهدف بعض منه دار الإسلام. ولما كان الغرب دائما في حاجة الى عدو أبدل عداءه للشيوعية بعداء لدنيا الإسلام وامتلأ هذا الغرب منذئذ بدراسات علمية عن الإسلام فيها الجيد وفيها السيء.


المشهد هو ان اوربا متقدمة حضاريا على دار الإسلام بعد القرن الرابع للهجرة وكان قبله المسلمون اصحاب الفلسفة والعلوم. وأخذ الشرق العربي الحامل الفكر الإسلامي يتقهقر وانكفأ هذا في ترداد نفسه وعمّ الفقر الشرق بمعناه الحضاري والمعيشي وهذا ما يفسّر جزئيا انتفاضته العاصفة في حركات ارهاب مزوّدة بالسلاح المشترَى من اميركا التي صارت قلب الغرب او بالسلاح الذي صدرته اميركا. بكلام آخر ينحر الغرب نفسه بأسلحة هو ينتجها ولا يشرف ظاهريا على بيعها او توزيعها. اي انه هو الذي يغذي الاسلاموفوبيا ويذهل اذا تلقى نتائجها. في هذه الصورة من المسؤول عن إبادة مسيحيين في كنيسة عراقيّة؟


هذا يعني ان التلاقي بين المسيحيين (وهم غربيون دائما في عقل المسلمين) والمسلمين مستحيل اذ ما هو قائم بالحقيقة ليس الإسلام والمسيحية ولكن الشعوب المسلمة والشعوب المسيحية الغربيّة. هذا ما يقودنا الى سؤال اول هو قدرة العقل الإسلامي ان يفك نفسه عن مزج الدين بالدنيا او الدولة او العالم الإسلامي من حيث هو قوى مما يسميه القرآن الأولى بالمقارنة مع الآخرة اي كيف يترجم سياسيا قول الوحي: «وللآخرة خير لك من الأولى» (سورة الضحى، 4)؟ هل للأولى استقلال كامل عن الآخرة بحيث تكون دار الإسلام مسلحة بالضرورة ضد الغرب المتغطرس والراغب في دوس الفقراء؟ والسؤال الثاني هل من قوى في الدنيا المسيحية شرقية وغربية قادرة ان تبرز كنيسة منزهة عن شوق سياسي؟ ليس عندي جواب واقعي عن السؤالين. ولكن قناعتي اللاهوتية والتاريخية ان روسيا اذا استلهمت ارثوذكسيتها من جديد والبلقان الأرثوذكسي بعد انفصاله عن العثمانيين لا يكمن فيهما عداء للإسلام. الاتحاد الروسي فيه ما لا يقل عن عشرين مليون مسلم يعيشون في سلام. وأتاتورك بعد تخلصه من المسيحيين اليونانيين في الأناضول لم تبقَ في شعبه مشكلة مسيحية.


# #
#


لعلّ هناك سؤالا ثالثا. كيف يعود الغرب الذي اعتنق فعليا الرؤية الاسلامية بمزج الدين والدولة الى صفاء مسيحيته التي لا تعرف هذا المزج؟ هل تستطيع الدول ان يديرها قديسون؟


احد جوانب الوهم ان المسلمين مع محمد عبدو ورشيد رضا وربما المودودي اعتقدوا انهم في حاجة وحيدة وهو ان يتبنوا العلم والتكنولوجيا دون ان يغير هذا فهمهم للإسلام بسبب ان هذا فيه الرؤية الإلهية للإنسان وللكون ولا يحتاج الى رؤية جديدة الى الشريعة والى تفسير جديد للقرآن والى قراءة له تاريخية والإسلام أبديّ اللفظ وما تركه لنا السلف الصالح هو الحقيقة اي اذ وحّد بين الشرائع والفقه والتفسير من جهة وكلام الله من جهة. هذا كان رؤية مطلقة للإنسان والتاريخ الإسلامي مع ان الإطلاق هو وحده لكلمة الله. هنا عندنا مشكلة متروك حلها للمفكرين المسلمين. فهل من بروتستنية ممكنة في الإسلام؟


من جهة مقابلة تعلمنت الدول المدعوة مسيحية وهذا يعني ان لا رجوع في الحياة الأوربية والأميركية الى الله في الحياة المجتمعية. اجل غير صحيح ان اهل الغرب انقطعوا عن الإيمان. من قال هذا لا يتابع الفكر المسيحي في العالم ولكن هذا منفصل عن الفكر السياسي.


هذا يعيدنا الى لقاء فكر إسلامي مجرد عن السياسة والى فكر مسيحي ديني يشرف على السياسة ولا يتلقح بها اي هذا يعيدنا الى صفاء الحياة الروحية في الإسلام والمسيحية معا والى حوار بين العلماء والأتقياء بين الديانتين وأريد بذلك الى تديّن حقيقي فيهما. ان هذا يفترض قراءة محبة صافية من خيار المسيحية للإسلام ومن خيار الإسلام للمسيحية تفرضان التحرر من منافع الأرض ومن الحس بغلبة فكر على فكر خاليين من العنف. ان تبسط ايمانك بسلام هو ان تحب القليل او الكثير في الديانتين. العارفون في دينهم لا يخشون حركة مثل هذه غير ان هذا لا يمكن ان يتم في بلد يقوم على الطائفية السياسيّة. انا لا أنكر على لبنان رغبته في درس الحضارات بهدوء ولكن هذا يقتضي علما بالآخر كبيرا والسلام شرط للمحادثة.


هذا الحوار اذا كان قناعا للتبشير او الدعوة ليس بحوار. هو حرب بغير سلاح. انا لا أنكر شرعية التبشير والدعوة ولكن واقع الوجود يوحي لي بأن المليار والأربعة مليون مسلم والمليارين من المسيحيين سيتكاثرون كلّ في جماعته الى قيام الساعة. وهم كبير التفكير انه يمكنك إسلام العالم او تنصير العالم.


# #
#

ايّ تلاقٍ حقيقي صادق بيننا على مستوى العالم يفترض ان نستقل جميعا عن انصهارنا في اية كتلة دولية. هذا وحده يضمن لنا السلام بمعناه السياسي فلا احتراب بعد اليوم بسبب من تحررنا من كابوس التاريخ الذي فصلنا وبانسلاخنا عن العوامل السياسية الحاضرة التي يبغي اصحابها انقسامنا.



قد ينقصنا هنا ان نذكر ان علماءنا عاشوا فترة في بغداد يتساجلون لاهوتيا في البلاط العباسي في بغداد بدعوة من الخليفة بروح سلام وعلم وتهذيب وكان الفكر يعطى للفكر.


كل دارس للأديان يعرف ان بينها قربى وبينها مباينات غير قابلة للتذليل في معظم الأحوال ولكن الفرق ممكن فناؤه او تجاوزه في احوال وهذا يتطلّب دراسات مقارنة في الأديان ما يساعد على الرؤية السليمة لها.


الا ان المقاربة التي أعرضها هي ان المسيحيين والمسلمين في بلدان عديدة عاشوا ليس فقط في وئام ولكن بتعاون. الموقف الأمثل على ذلك فترة اولى في الحكم الأموي حيث كانوا هم الموظفين الكبار في دولة الإسلام لعلمهم بشؤون المال والإدارة والبحرية وكانوا عارفين بالإسلام وممارسين عباداتهم ويكتبون لاهوتا مسيحيا بالعربية اي ليس موجها حصرا الى الرعية. والصورة عن الأندلس خلال ثمانمئة سنة من التعايش في ظل الحكم العربي ان التفاهم الاجتماعي وكثيرا من تلاقي العلماء كان الوضع السائد.


الخلاصة من هذا الكلام ان التعاقد الاجتماعي بين اهل الديانتين مبدئيا ممكن اذا تيقنّا ان وحدة الدين ليست شرطا بالضرورة للوحدة الاجتماعية وذلك في ظل حكم مدني عصري في كل بلد. بإيضاح أعظم حدة الانصهار في الاجتماع وبناء دولة واحدة امران ممكنان من خلال الإدارة الطيبة للعيش المشترك. ان امورا اساسية كبرى في كل الحقول لا تحتاج الى وحدة العقيدة الدينية. يكفينا الاحترام المتبادل في صدق. غير ان هذا كله يتطلّب جهدا كبيرا موصولا يذهب بنا الى حد النسك. في اللغة المسيحية هذا يقال له المحبة وفي لغة الإسلام هذا رحمة او تراحم او مودة.


من اين تأتي الناس هذه الفضائل؟ نحن نرى انها تنزل عليهم اذا عرفوا العشق الإلهي او ما يقاربه. لا صليبية، لا فتح، لا استعمار، لا نصر من الله. بلا كل هذه لله حق ان يسود بكرمه الدائم لنكون، مسلمين ومسيحيين، كأمة واحدة.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

المسيحيون في الشرق / السبت 13 تشرين الثاني 2010

«كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر»

هل غدا الذين قتلوا المصلّين في العراق من أمة المسلمين؟ من يقول لهم انهم خرجوا عن هذه الامة اذ ارتكبوا المنكر؟ من الأزهر الى النجف الشريف مرورا بكل مسلمي الأرض من يتلو عليهم من كتابهم: «من قتل نفسًا بغير نفس او فساد في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعًا» (المائدة، 32)؟

لا استطيع ان أصدق ان مليار مسلم وما فوق لا يستطيع ان يضع حدًا لهؤلاء القتلة. خطبة الجمعة ضد الذابحين للمصلين الطاهرين لا تكفيني. الاستنكار في أفضل حال يعني ان عقلك او وجدانك لا يقبل إبادة عابدين لربهم وقت العبادة. الشجب فرض إنشاء في أحسن حال ويبقى الدم المهراق دمًا.

المسلمون امة متماسكة لا تقبل الضيم ولا تُذل. هي شاعرة بوحدتها وشاعرة بقوتها اي انها ترفض المظلوميّة اذا حلّت بها. غير ان هذه الأمة ظالمة لنفسها وقابلة لتشويه صورتها ان قبلت سلطان هؤلاء المجرمين على سمعتها. انا لا أفهم الا يتحرك المسلمون من مكة الى اندونيسيا ضد المانعي الحياة بقطعهم عن الأمة اية كانت التسمية الفقهية لرذل هؤلاء.

قيادة هذا التحرك الإرهابي ليست مجهولة الإقامة. والقادة يتجولون بحرية كاملة في بعض الأماكن الجبلية في آسيا ليست بعيدة عن رؤية الخبراء. والأقمار الصناعية لا تفوتها المعرفة. من يشرف على هذه الأقمار؟ الدول المجاورة وغير المجاورة عندها علم اليقين بهذا الوجود وهي صامتة اي ضالعة. السؤال هو من له مصلحة بإبادة الذين كانوا يصلّون في كنيسة سيدة النجاة. من يستفيد من قتل هؤلاء الشهداء؟ الدول المطلعة على جغرافية هذه الكنيسة في بغداد ما هي؟ الشهداء انتقلوا الى المجد السماوي ويضموننا الى وجه الآب ويشددون الكنيسة لأننا الى أجسادهم المجيدة نحن منضمون. أُسكت صوتهم بلحظات طعنهم وأخذهم مخلصهم الى صدره لأنهم باتوا أحبة.

دماؤهم قدّست العراق ورفعت شعبه البريء الى حضن الله. عظم العراق بدمائهم وعظم المسلمون الصادقون، الخيرون لأنهم وحدوا الناس جميعًا بشهادتهم التي أرست مقدارا من البر في هذا الشعب العربي المصلطة عليه سيوف الاجرام الى ان يقوم الله ويحكم الأرض. والى ان نحج معًا الى القدس.

# #

#

اذا كانت مقادس الشرق زرعت في أرضه البرارة لماذا يجب ان يموت الأبرار، لماذا ينبغي ان تداس الطفولة. ولكن بورك الله وتعالى لتنزل نعمته على الدماء الطاهرة وتنطق بالحق.

من بعد ألمي أشفق على القاتلين الذين أوصاهم كتابهم الا يلبسوا الحق بالباطل (البقرة، 42) ولكني وددت ان أقول لهم انهم لن يقدروا ان يقضوا على المسيحيين لأن لهؤلاء سرا في تاريخهم وهو ان الشهادة منذ العصر الروماني كانت تكثرهم لأنها شهادة حبهم لمن آذاهم. هم غافرون أبدا ولا يحقدون لأن الحقد امحاء الانسانية في الانسان ويخطئ من ظن ان له ثمرا. «من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ» (متى 26: 52). من يبيد الآخرين يبيده الله ومن لا يستعمل السيف الله مملكته وحسبه الله.

حاولنا كثيرا ان نقتنع اننا لسنا اقلية لإيماننا في هذا العصر الحديث ان البشر باتوا مقتنعين ان الدين في القلب وانه ليس اداة تسلط او تفريق وان الناس قادرون برفق ربهم ان يعيشوا معا وان يتشاركوا بحق وان يتجلّوا في كل علوم الأرض ويخدموها لمنفعتهم جميعا. وها نحن نرى ذلك في هذا البلد ونفرح له. ونموذج المشاركة الوطنية عندنا يمكن تصديره الى كل العالم العربي الذي كنا نحيا فيه معا حتى الآن. ولكن لنا عين على العراق وعين على مصر والأقباط الأحبة يستشهد منهم بعض كلّ سنة. وان كنت تعرفهم كما أعرفهم انا ترى ان ليس احد يتفوّق عليهم بحبهم لمصر وبخدمة لهم علمية فائقة في هذا البلد العظيم. الى هذا نوقن ان سوريا ولبنان وما بقي من فلسطين سالمة من الأذى الطائفي ولا محل للخوف على صعيد المواطنة ورجاؤنا الا يمتد داء العراق الى هنا لئلا تفقد العروبة ما فيها من بهاء مسيحي. اما اذا خشي الناس على مصير اولادهم فلا تحملوهم مسؤولية الهجرة. انها المرض العظيم.

في تموز او آب السنة الـ 1975 كان المطران ايليا الصليبي راعي الأرثوذكسيين في بيروت قد جمع في دارته شخصيات لبنانية مسلمين ومسيحيين وكنت هناك فانتصب الشيخ بيار الجميل وقال نحن المسيحيين خائفون وتصدى له تقي الدين الصلح رحمهما الله كليهما وقال له: أليس من العيب على الإنسان ان يخاف فأجابه بيار الجميل أليس العار على انسان اذا أخاف. لست الآن في صدى دعم هذا وذاك ولكني أقول ان الخوف عيب على من مارسه وعيب على من تلقاه لكوننا في المواطنة منزهون ومتعالون عن كل خشية بشرية. احتسابي اننا في لبنان يؤمن أحدنا بالآخر. غير اني أود ان اؤكّد هنا ان ليست فئة منا راعية لفئة اخرى وان الوطن كافٍ ليرعانا جميعا. لا ذمية بعد ان الغتها السلطنة العثمانية في القرن التاسع عشر من القانون وأرجو الا تبقى في الذهن لأن الباقي على أرض الوطن والمهاجرين عنها، اذ ذاك، في خطر.

اود ان أعتقد ان ليس من مشروع يسمى أسلمة الأرض اذ يعني في آخر المطاف ان يهجر المسيحيون اماكنهم بسلاسة وتهذيب.

أنا مؤمن ان المسلمين اللبنانيين جديون وصادقون عندما يؤكّدون تمسكهم ببقاء المسيحيين. لقد نما بيننا الشوق من زمان بعيد والصداقات طيبة كما علاقة العائلات. غير ان هذه العلاقات يجب حمايتها سياسيًا واقتصاديًا فيما نقوّي الدولة كل جوانبها.

الا اننا اخوة مع مسيحيي العراق ومصر واسرائيل وفيها خوف خاص على المسيحيين بعد إعلان نفسها دولة يهودية ولست ابرئها بشكل او بآخر من الاختلاط بالحركات الإسلامية المتطرفة تكفيرية كانت ام غير تكفيرية.

ومسك الختام اننا ملقون على صدر المسيح الذي وعدنا بأنه يكون معنا الى منتهى الدهر. لأنه هو -لا نحن- الدهر كله. نوقن اننا باقون حتى مجيئه واننا أحياء في هذا الجسد او خارج هذا الجسد. ولكن هذا عند المسيحيين والمسلمين مشروع تقوى الى ان يرث الله الأرض وما عليها.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

«اللهمّ ربِّ الأطفال» (قداس باسيليوس) / السبت 6 تشرين الثاني 2010

طفل له من العمر سنتان وثمانية أشهر بعد أن ودّعني قال لي: «سلّم على يسوع». لماذا جمعني مع السيّد؟ هل وجه الكاهن الملتحي ذكّره بأيقونة المسيح؟ أيًا كان الجواب العلمي المفترض أظن ان هذا الولد هو من دنيا لا يبلغها البالغون. أخته تتفوّه بكلمات لا يُصدّق ان مضمونها ممكن وروده عند طفلة كان لها من العمر خمس سنين لما قالت ما يفوق التصوّر عند ذوي العقول الكبيرة.

عند الشاب او الكهل لا يعني لي التفوّق العلمي شيئًا. هذا تحصيل ودربة على وراثة. الأطفال يرثهم الرب بدفء خاص ويتقبّلهم حضن يسوع القائل: «دعوا الأطفال يأتون اليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات». المعروف في كنيستي ان الطفل غير المعمّد كالمعمّد يقتبله الرب في مساكنه ولا يُحرم رؤيته. ذلك ان الله طريء وأيقونته طراوة الصغار حتى تزول الشراسة عن وجه الأرض.

نحن أمام سر لا نخترقه. ربما يدركه علماء النفس. ولكن ماذا تحت النفس الظاهرة، في قلب الكلمة؟ ليست مسألتي ماذا يأخذ عنك الطفل ولكن ما تأخذه انت عنه. كيف تتماهى دنياه ودنياك واللغة الظاهرة واحدة. في الحقيقة ان الألفاظ واحدة وما تعنيه لا تناله انت كما هو معطيه. انت امامه متلق ان رمت ذلك وان لم ترغب في ذلك تضيع عليك غنى كبيرا. ربما فقدت فرصة طراوة ترغب في استعادتها او فرصة بساطة على قدك لأن الصغير يعديك بساطة.

لاحظوا ان باسيليوس الكبير دعا الله ان يربي هو الأطفال كأنه يعرف ان تربية الوالدين قد تكون ضعيفة احيانا وقد تكون زائلة وان التعاطي بين الأجيال قد يكون مؤذيا وكأن باسيليوس يؤمن بأن الرب يهذّب الصغار مباشرة اي يرثونه ولا يرثون ذويهم. اجل من التربية ان تكرم اباك وأمك وقد لا يأخذ الوالدان من أولادهم شيئا في حين ان الخضوع يربي من يخضع ومن يخضع له. لا توريث في التولّد بالضرورة. الوراثة الروحية نعمة لا يعرف احد منا كيف تنزل اذا نزلت.


# #
#

أجل يتوسط الله ذوينا لإنشائنا على صورته. غير ان الرب يستغني عنهم احيانا وقد جعل نفسه ابا قبل الدهور. وهو يلدنا مباشرة بعطفه اذ ليس احد في الحقيقة وديعة عند أحد. ولو كان كل الناس اولاد ذويهم روحيا لماتت الانسانية اختناقا او تصحرت قلوبها. كل البشرية على الوسطاء التربويين الذين يتعاقبون لها علاقة عمودية مع الله اي انها تولد من فوق ويبقى فيها ما استحدثه من السماء. ترجموا هذا كما شاء تراثكم الديني نحن في هذا المعنى ابناء الله، ابناء كلمته وروحه الى ان يفسدنا الدهر او تحفظنا النعمة.

واذا أعطى الفضل الإلهي ذوينا ان يتوسطوا بين فضله ورعايتهم فالطوبى لهم. فيكون، اذ ذاك، انجابهم بركة لهم وتقديسا حتى لا يفتخروا بعطاء جاءهم وسلموه ليتزكوا هم ويجلسوا على آرائك حب إلهي يحسبونه هم حبا بشريا. لعلّ الكثير من سر الزوجية وما يعقبها من أبوّة وأمومة كامن في هذا الإمداد الروحي اذ البشر الذين تستخلف يظلون اجسادا او يصبحون مرشحين للملكوت.

أجل الملكوتية ليست حكرا على الأطفال ولكن لك انت ان تذوقها ان عرفت ان تبصر وتتبصر لئلا تدركك الشيخوخة الروحية وهي ليست محتومة ان أصغيت الى ما فوضك الله اياه للاعتناء بأولادك بوصفك وسيط الله للعناية.

تعب الوالدين الحقيقي انهم لا يعرفون المستقبل الروحي للطفل. عليهم هم ان يقتربوا من القداسة علها تنتقل ولكن الخوف انها لا تنتقل دائما او تنتقل عيوبهم مهما كانوا كاملين ذلك ان القلب البشري مسرح للحسنات والسيئات وقد تصدم السيئة قلب الطفل الكثير الحساسية. اذكروا ما قال السيد: «ويل لمن تأتي عن يده العثرات». مشكلة الحياة العائلية انها كثيرا ما تكون ظرفا للعثرات. وعندنا نحن اللبنانيين ميل للغضب والشتم والسُباب. هذه تجرح كثيرا ثم بعد جرحها او معه يتعلّم الطفل الكلام البذيء الطافح من قلب بذيء. ان لم تكن مالكا عفة اللسان فأولادك غير محصنين والشر اسرع انتقالا من الخير عند معظمنا. ابنك او ابنتك هدية الله ولكنها هدية له. ولدك وديعة عندك ونفسه مردودة اليه او تصبح فريسة للشيطان وانت تدان.

# #
#

قال لي رجل مرة في حديث بيننا دقيقة مسؤليته: انا متزوج منذ خمس وعشرين سنة ولم أسهر مرّة خارج البيت لأحفظ أولادي. هذا حد في التربية لم يبلغه الكثيرون ولكنه مثال يحتذى جلّه ان لم نستطعه كله. ان كنت تحسب زواجك تفويضا إلهيا هذا يتطلب منك نباهة كثيرة لئلا تخسر نفسك. ان كنت غير قادر ان تحمل ابوة الله يصبح زواجك ضلالا او لهوا او ظهورا اجتماعيًا ومكانا للتيه.

لم يولد الولد للغنج كما لم يولد للقسوة ولكنه جاء ليرث عطاء الله بواسطة راعييه اي أبيه وأمه. هل يجد ابنك عندك مرعى؟ هل يجد فيك حياة؟ هذا يتمّ ان بذلت نفسك عنه والا أكلته الذئاب. هل تريد ان يخطفه الذئب ام تطرد انت ذئبيتك وذئبيّة المتصلين به لتستحق ان تسمى راعيا صالحا؟

التربية مشكلة كبرى ولا تتم بلا الرضاء الإلهي ويقولون لك اجتنب الكبت. استاذ الكبت زيغموند فرويد لم يقل ان الكبت يأتي من التربية. قال انه يأتي من طفولة اعوجّت بسبب من العقد وهي ليست من مجال الوعي. ولكن ضبط نفس أولادك ليس كبتا. انه تطهير والتطهر فيه ان يحس انه قادر ان يصل الى بلوغ ناضج وهذا بعض من الاستقامة. والاستقامة مفتاح العظمة الروحية الكبرى.

تعلم من طفلك الطراوة والعلاقة المباشرة التي لا رياء فيها. تعلّم ان تبكي ولا تتعلّم منه ان تخاف. واذا عرف انه محبوب كثيرا يطرح عنه الخوف. بمعنى، ابنك معلّمك الارتماء في حضن الله كما يرتمي هو في حضنك. كل الحياة احتضان اي ثقة والثقة تقودنا الى التبادل الذي تكتمل به الشخصية. والشخصيّة الكاملة هي الشخصية الحرة التي لا انغلاق فيها.

انت لا تصر طفلا لأن هذا بعض من نقص ولكن كن كالأطفال في قلبك اي تحرّر من العصبيّة ومن القسوة، يبقى، اذا ذاك، قلبك كبيرا شبيها بقلب الله.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

هل السينودس حدث؟ / السبت في 30 تشرين الاول 2010

تعجب الناس لما دعا البابا يوحنا الثالث والعشرون الى مجمع في ستينات القرن العشرين اي بعد مئة سنة على نهاية المجمع الفاتيكاني الأول ظانين ان الكنيسة الرومانية دخلت في سيرورة مجمعية بما يعني ان مواقفها تتخذ في مجمع. ظنوا ذلك حتى أعلن البابا بيوس السادس ان ما دعا اليه المجمع لا يصبح منفذًا الا بقرار من البابا. السينودس الذي دعا اليه البابا الحالي يستلهمه البابا بنديكتوس السادس عشر بالمقدار الذي يشاء. لذلك شكل فريق عمل لاحقا هذا الحدث على رجاء صدور نص نهائي ربما بعد سنة من البابا نفسه. بقيت مركزية البابا محددة على انها «ولاية عامة ومباشرة على الكنيسة كلها» وظل إخراج السينودس فكرًا لاهوتيًا ورعائيًا أتى به المشتركون من أحبار الكنيسة الكاثوليكية في شرقها وغربها وكهنة ولاهوتيون وبعض من الخاصة المدعو.

اليهم بعض الأفراد من الكنيسة الأرثوذكسية من الشرق الأوسط وعالم يهودي ومسلم سني ومسلم شيعي بوصفهم مراقبين يتكلمون في مناسبات محددة لهم ولا مشاركة لهم في التصويت. بتعبير أبسط كان السينودس تجمعا كاثوليكيا محضا وهذه قيمته اي ان الكلمات التي قيلت فيه والأمنيات التي صدرت عنه كلمات وامنيات لمفكرين كاثوليك. لم يكن هذا التجمع مجمعًا مسكونيًا وقياسًا على المجامع المسكونية القديمة التي كان الشرق والغرب يتلاقيان فيها يبقى السينودس لقاء كاثوليكيا محضا إرادة أسقف روما الشخصية هي الحاسمة فيه. في أفضل تقدير كان هذا لقاء استشاريا للبابا الروماني.

في هذا الإطار يجب ان ينظر الى هذه المادة الضخمة من المحاضرات والأحاديث ومناقشة الحلقات المذهلة في دقتها وتوسعها والناتجة عن تهنئة كبيرة والقائدة الى البيان الأخير. هذه تكون إلهاما عظيما وينبوع رجاء عند »آباء السينودس« وفي المجتمع الكاثوليكي في العالم اذ أريد تحريك لهذا المجتمع المشرقي والعالمي، غير انه تحريك مآله القانون والإرادة الحسنة لبندكتوس السادس عشر وهو استاذ عقائد كبير وقد أثبت حضوره في هذا اللقاء اذ كان يتابع كل يوم معظم الاجتماعات.

# #

#

كان موضوع السينودس «الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط شركة وشهادة». عنوانا مستندًا الى كلام العهد الجديد «وكان جماعة المؤمنين قلبا واحدا وروحا واحدة» على رجاء ان يظهر هذا في الشرق الأوسط الذي فيه مسيحيون ومسلمون ويهود. هناك تلاق بينهم لاهوتيا وتعايشا. في ما يختصر بالمسيحيين الآخرين قول واضح على ان الأسرار الكنسية (معمودية وسر الشكر او الافخارستيا) تكون في شركة الجميع مع الكرسي البابوي. كلام إيماني كلي الوضوح. ما مكانة الأرثوذكسيين والإنجيليين او ما الحضور المسيحي الجامع او الواحد في الشرق الأوسط لم تتطرق اليه وثيقة، ولم يلمح اليه في صيغ لاهوتية دقيقة.

اللاهوت الكاثوليكي تحمله الكنائس الكاثوليكية الشرقية التي كان حضورها كثيفا. وكان المبتغى المقول ان تتشاد وتتعاون في هذه المنطقة من العالم لتعطي الحضور المسيحي في بقعة ظاهرة فيها اليهودية وظاهر فيها الإسلام. ولا عجب ان أُعطيت اليهودية ظهورا قويا في النصوص الاعدادية بسبب من الأهمية الساطعة لها في اللاهوت الغربي كله منذ عقود كثيرة مع ان اليهودية لا تشكل مسألة الا في فلسطين بعد ان جلت عن كل العالم العربي.

ولفت الكاثوليك العرب الحاضرين ان كم الكلام عنها كان أقوى وأضخم مما قيل عن الإسلام. غير انه لا بد من الاعتراف ان الكلام في الإسلام والمسلمين كان إيجابيا كثيرا وذلك بفضل الكاثوليك العرب. في الحلقات الخاصة كان يُلاحظ ان أقصي كل كلام متحفظ عن الإسلام والمسلمين وفي شعوري ان الآباء العرب لم يقفوا هذا الموقف فقط بسبب انهم يعايشون المسلمين بحب ولكن لكونهم انهم كالارثوذكسيين كانوا غير منجذبين الى اليهودية واليهود وذلك اتباعا منهم لموقف الآباء القدامى في الشرق الذين اعتبروا ان مجيء المسيح قضى على اليهودية وحقق في نفسه كل ما يظن عهدا الهيا لليهود. لقد كان صوت صارخ للاهوتي ماروني قال اننا نرفض العنف في العهد القديم ونرفض الوعد بالأرض.

وفي الكلام عن الإسلام استشهد التقرير الذي استند اليه السينودس الى ما ورد في المجمع الفاتيكاني الثاني: «تنظر الكنيسة بتقدير الى المسلمين الذين يعبدون الله الأحد، الحي القيوم، الرحمان الجبار، الذي كلّم الناس». هذا كان آنذاك الكلام اللاهوتي الوحيد عن الإسلام وفيه أشياء كثيرة واحدة مع العهد الجديد. كان بندلي الجوزي الأرثوذكسي الفلسطيني يقول: «نحن نقبل كل السور المكية». كنت أتوقع ان تقال كلمات كثيرة في القرآن هي واحدة مع المسيحية. كنت أتوقع ان يقال شيء عن مريم المرأة الوحيدة المذكورة باسمها في القرآن الذي خصص لها سورة باسمها وسورة آل عمران. ما عدا ذلك ذكرت مع المسلمين «الحياة المشتركة» والقيم المشتركة والسلام والتضامن ومكافحة العنف والحوار.

اذا نظرنا الى الحياة المجتمعية الواحدة في الشرق الأوسط أحسب ان العبارة الهامة جدا في السينودس هي عبارة العلمانية الإيجابية التي كان البابا الحالي قد استعملها سابقا وهي الخالية من الارتباط الفلسفي بالعلمانية الغربية بعامة والفرنسية بخاصة وتشير الى عدم المزاج بين السياسة والدين. واذا فهمناها فهما صحيحا يزين لي ان المسلمين يتقبلونها، وفي التقرير الأساسي للسينودس تعني «تحويل العقليات والذهنيات ومواقف الطائفية الى ذهنية حياة وعمل من أجل الخير العام». ومن أجمل ما ورد في النصوص ان السينودس على رفضه عنف الحركات الإحيائية في دار الإسلام القائمة على التطرف الكبير اهتم بدعوة أبنائه على ان يتحرروا من تجربة الانطواء وان يعملوا مع الناس جميعا للعمل معا من اجل تعزيز العدالة والسلام والحرية وحقوق الانسان وحماية البيئة وقيم الحياة والعائلة. اما المشكلات الاجتماعية والسياسية فلا بد من معالجتها لا على انها حقوق المسيحيين يجب المطالبة بها، بل على انها حقوق شاملة يدافع عنها المسيحيون والمسلمون من اجل الخير العام.

الى جانب التشديد على توحد الطوائف الكاثوليكية وتقاربها الحياتي يبدو لي ان ما سيبقى من هذا السينودس في هذه الدنيا دعوته الى الحياة المجتمعية الواحدة في دنيا العرب. المطلوب عنده هو الخلاص من عقلية الذمية مارسها المسلمون وعانى منها المسيحيون. المبتغى حياة جديدة، مدنية في بلاد العرب والشرق الأدنى. ومن الحياة المشتركة يأتي عقل تتجدد فيه روح الشعوب الناهدة الى كرامتها وقد يتجدد فيها الفقه. ولكن هذا مسعى يقوم به المسلمون المتنورون أنفسهم.

في هذا السلام الحياتي يعقل ان يتجدد اللاهوت وعن هذا تعلو أصوات جديدة جريئة في الإسلام. وهذا ما سنقدمه جميعا لاستقلال فلسطين.

ما من شك على ان في الكثلكة روحا جديدة ربما أسهم هذا السينودس في إطلاقها من الشرق الأدنى اذا فهمت الكنائس الكاثوليكية هكذا نداء البابا. لا يستطيع صوت البابا وحده ان يقوم بهذه المهمة الصعبة. مفاتيح هذه الروحية الجديدة وخواتيمها على الأرض هي في يد الكاثوليك العرب. الأرثوذكسيون مهتدون الى هذه القناعة من زمان طويل. ولكن هذا التجلي غير ممكن الا اذا اقتنعت به الأنظمة الإسلامية وقبلت مشاركة المسيحيين على النهوض مع المسلمين لتكوين حضارة عربية مستندة الى العقل ومستلهمة ربها الواحد. كان الإمام علي يقول: الفهم، الفهم. وكان ابو العلاء ينادي بإمامة العقل. الكاثوليك لن ينسوا ولا أحد يجب ان ينسى انه العقل المدعوم بالقلب المستنير برب القلوب. اذ ذاك يصير السينودس حدثًا.

Continue reading