2010 / السبت 26 كانون الأول 2009
كل الأزمنة رديئة لأن أهل السياسة يظنون انهم يصنعونها. ليس انهم سيئون. كل فئة من الشعب ملوثة او بعض منها ملوّث. الزمان الذي يسمح له الله ان يكون ينسى بأنه فقط مكان تتجلى فيه الأبدية فيحبها لمصالحه ويتسلى بالعابرة بما يسميه القرآن الزينة والزينة في حقيقتها وهم والأبدية وحدها تسمّرك على الحقيقة التي يعبّر الله بها عن نفسه. لذلك اذا لم يشتهِ أصحاب اللعبة السياسية -وأظن ان كمال جنبلاط كان يرى السياسة كذلك- اذا لم يشتهوا ان يقودوا الناس الى الحق وان يخدموهم ليبلغوا الحق يكونون أهل زينة.
غير ان السياسة تهتم هي بنا ان نحن أهملناها وهكذا تكون الزبائنيّة فيها. والزبون شارٍ ومشترى لأنه فوض الزعيم أمره. والزعيم بالعربية على وزن فعيل بمعنى الفاعلية، اي هو الذي يتزعم القوم. وجاء في لسان العرب ان زعيم القوم رئيسهم وسيدهم ولكن كاتب القاموس اي ابن منظور لم يكن ليعلم اللعب اللبناني حيث لا يسود احد الناس الا اذا هم استسلموا له فكان بينهم أخذ وعطاء في مجال السلطة التي فيها سيد ومسود وهذا معنى السلطة منذ الشرع الروماني. اما اذا كنت انسانا ذا روح خدمة فليس فيك الا سلطان الحب.
وهذا قليل في لبنان. اذ كيف كان الحاكم يحبنا منذ السنة الـ 1943 ويقبل ان يغرق الناس وسياراتهم ومحالهم ومنازلهم بالماء. وكيف يحبهم ان لم يربهم على نظافة الأقنية والمجارير. انا كان بيت اهلي قريبًا من ضفاف نهر أبو علي في طرابلس لما طاف في الخامس من كانون الأول السنة الـ 1955 وصعدت المياه الى الطابق السفلي من البناء وكانت تحمل طاقة غرق عائلات في المبنى. كل ذلك لأن مجرى النهر كان مليئًا بالأشجار والقذارات ففاض مجراه. الفكر يمنع عنك الموت. هل في الدولة فكر؟
أعرف أن لبنان ليس مركز العالم ولكنا نحن فيه. كيف نقاوم جنون الطبيعة قبل ان نقاوم جنون البشر؟ الحكمة ان ترد عنك القدر. ليس الموت هو الذي يخيفني ولكن الجهالة. وهذا البلد فيه ذكاء كبير. لماذا لا يصل الذكاء دائما الى الحكم: لا يقنعني ان الغريب يصنع عندنا السياسة وحده. هل في الإغراء ان حضنا يدعوك ام انك ايضًا ترمي نفسك فيه.
دائما كنت أعرف في مطلع شبابي اي منذ ستين ونيّف أن هذا البلد كان فيه أطهار في كل مناحي الحياة المجتمعية وكان فيه علماء في المجالات التي كنت اعرفها. كيف حلّ بنا السقوط؟ هل كان هذا مكتوبا علينا ام كان الفساد فينا ولم نلجأ اليه دائما اذ كان فينا حياء؟ لعلنا كنا نخشى عقاب الأصدقاء او حزنهم على خطايانا او كنا نؤمن بالله اكثر من اليوم اذا اكتشفنا انك اذا لم تعد اليه في الصميم فكل شيء مباح. لم يستبح احد بلدنا لو لم نكن نستلذ الإباحة. لذلك ما يفرض نفسه علينا ليس فقط مكافحة الفساد في الإدارة ولكن في ضمير الناس. ماذا تعمل الأديان؟
# #
#
ماذا عملنا لمكافحة الفقر؟ قالت لي مديرة مدرسة عندي في الحرب ان بعض الأطفال في الفرصة بعد حصة الدرس كان يغمى عليهم فسألتها عن السبب. أجابت انهم لم يتعشوا ولم يفطروا في الصباح. يقول كتابنا: »الله يحفظ الأطفال«. اين العناية بالمحرومين منهم والمرضى ومن كان ذووهم غير قادرين ان يبعثوا بهم الى مدرسة؟ هل من سياسة لرعاية الأطفال والأحداث؟ سررت الأسبوع الماضي حين كنت اتابع برنامج كلام الناس بان الوزير زياد بارود كان يجيب عن كل الأسئلة بدقة. قلت في نفسي: على الأقل هذا رجل اطّلع على كل الملفات في وزارته ويتكلّم عليها بأرقام. هل في عقل وزير الخارجية خطوط واضحة عن سياستنا تجاه كل دولة عربية نتعاطى حياة ما واياها وعن كل دولة اجنبية لنا معها مصالح ام نحن في هذا القطاع او ذانكتب فروض انشاء؟
ليس مرادي ان أكتب عن الدنيا كلها ولا أعرف عنها الا ما أقرأه في بعض الأدبيات الديبلوماسية بالفرنسية. ومع اننا بلد صغير لنا ان نحدّد سياستنا الخارجية فقد يستصغرنا الكبار ليسهل عليهم ابتلاعنا. كبّر نفسك تكبر. ارفض يحترموك. قد لا نستطيع ان نملي على احد ولكنا قادرون الا نصير زبائن.
عن لبنان حكايا كثيرة مؤلمة كلّ منا يعرفها لا حاجة ان ننستفيض في عرضها جميعا لئلا نيأس. ولكون لبنان قابلا للحياة بفضل الكثيرين من الفاهمين وأهل الله ندخل بعد ايام السنة الجديدة مؤمنين بأن الله من جهة وعزمنا من جهة سينقذان البلد مهما استغرق هذا من وقت وجهد ولعل هذا راجع الى كون الرب يحبنا ولا يهملنا في الخراب. وتبدي بعض معالم حياتنا الجماعية ان الناس ملّوا الخفّة في الأخلاق والكسل في العمل وأدركوا اننا في حاجة الى الجدّ والتفاهم والتوافق. وما يزيدني ايمانا بهذا القناعة البادية اننا بتنا مؤمنين بعضنا ببعض وان التخوين آخذ بالتضاؤل. اضعف الإيمان اننا اجمعنا على ان هذا البلد واحد وان الدين الحقيقي لا يفرّق بيننا واننا اقتنعنا من زمان ان عدونا واحد وهو اسرائيل.
قد لا يعرف كلنا لماذا هذه الدولة تناصبنا العداء. لا يشك أحد في أن لها مطامع في الأرض والمياه وانها بطبيعتها المسجلة على باب الكنيست تسعى ان تبتلعتا وتبتلع سوانا. انا أتمنى على النخب القارئة ان تقرأ الأدبيات الصهيونية التي يتبيّن منها انها ليست اقرب الى طائفة من طوائفنا ولا سيّما اذا اطلعت هذه النخب ان أضعف مجموعة في اسرائيل عددا هي المجموعة المسيحية او صارت كذلك لأنها طائفة ممانعة وتهاجر كثيرا حتى صارت في كل البقعة الفلسطينية لا تزيد عن 2?. المسيحيون ليسوا دوللين في دولة نعتت نفسها بأنها يهودية ما يجعل عرب اسرائيل البالغ عددهم اكثر من مليون مهددين في اي وقت بالجلاءء حسب مفهوم الـ transfert اي نقلهم من اسرائيل الى اية دولة مجاورة.
# #
#
ما يزيدنا أملا هو ان لبنان اكتشف ان له نفطا في البحر وانه قادر تاليا ان يصبح دولة صناعية الى جانب الصناعات القائمة او الممكن استحداثها. الى هذا ما أفرحني ان شبابنا يقوم بالتشجير، الأمر الذي يجمّل طبيعتنا ويعزيني.
كنت مرة أزور ديرا أرثوذكسيا كبيرا في فنلندا فسألت الرئيس مما يعيش بلدكم. أجابني معظم ايرادنا هو من الورق. قلت: كيف؟ أجابني: نحن بلد شجر ونصنع من الخشب ورقا نصدّره. يجب ان نتخلّى نحن اللبنانيين عن الفكرة اننا فقط بلد سياحي وبلد خدمات. هذا مورد لا يكفي لأنه غير ثابت ولو فرحنا مؤخرا بمجيء سواح كثيرين.
أهمية الاقتصاد عندنا ليست فقط اننا نستطيع به ان نقلل من الحرمان اذا وحّدنا الاهتمام بكل المناطق بحيث يتساوى اللبنانيون بالخيرات على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم. فاذا تغذى كل فرد منا ودرّس اولاده وطبّبهم كيف لا تضعف الحزازات الطائفية؟ نحن ليس عندنا سجالات دينية ولا سيّما ان كلامنا يستحب في الدين الآخر قيما كبيرة وكثيرة واننا نفرح بكل الأعياد ونمو كل منطقة ثقافيا. غير مرة أزور مستشفى القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس لعيادة مرضى او لمعالجة لي. أجد في كل الممرات نساء محجّبات حاملات أطفالهن. انهن يطلبن الاتقان العلمي.
الناحية الثقافية واحدة عندنا. نحن نتكلّم لغات كثيرة ولكن نفتخر جميعا بأن ثقافتنا واحدة وهي العربية ملونة عند هذا بالفرنسية وعند ذاك بالإنكليزي. وانا من منتدى ثقافي لبناني روسي يضمّ كثيرا من المسلمين يعرفون الروسية جيدا ورحبوا بنقل بعض كتبي الى اللغة الروسية.
نحن شعب واحد ذو ديانتين وهذا قائم في بلدان كثيرة ولا سيّما في العربية منها. هذا لا يقيم فرقا بين المواطنين في هذا المشرق او ما في ما يدعى الهلال الخصيب. وكلكم يعلم حرص أئمة المسلمين وقادتهم السياسيين على الاحتفاظ بالمسيحيين في لبنان.
ومسك الختام ان الدولة في لبنان منا جميعا وان اخلاق الدولة صورة عن اخلاق المواطنين. ان حاجتنا الأولى في لبنان ان تعلو حياتنا الحضارية التي تقودنا الى مجتمع مدني لا يعزل الإيمان عن فكره وسلوكه حتى نصل الى نظام سياسي لا يمزج بين الطوائف والدولة.
واني لأرجو ان يرحمنا الله حتى نتغلّب على مصاعب السنوات الأخيرة فنحبّ بعضنا بعضا ونتشارك في الفكر والخيرات ليرثنا الله ويرث أرضنا ونصير حقا من اجمل بلدان المعمورة.