Category

2009

2009, جريدة النهار, مقالات

2010 / السبت 26 كانون الأول 2009

كل الأزمنة رديئة لأن أهل السياسة يظنون انهم يصنعونها. ليس انهم سيئون. كل فئة من الشعب ملوثة او بعض منها ملوّث. الزمان الذي يسمح له الله ان يكون ينسى بأنه فقط مكان تتجلى فيه الأبدية فيحبها لمصالحه ويتسلى بالعابرة بما يسميه القرآن الزينة والزينة في حقيقتها وهم والأبدية وحدها تسمّرك على الحقيقة التي يعبّر الله بها عن نفسه. لذلك اذا لم يشتهِ أصحاب اللعبة السياسية -وأظن ان كمال جنبلاط كان يرى السياسة كذلك- اذا لم يشتهوا ان يقودوا الناس الى الحق وان يخدموهم ليبلغوا الحق يكونون أهل زينة.

غير ان السياسة تهتم هي بنا ان نحن أهملناها وهكذا تكون الزبائنيّة فيها. والزبون شارٍ ومشترى لأنه فوض الزعيم أمره. والزعيم بالعربية على وزن فعيل بمعنى الفاعلية، اي هو الذي يتزعم القوم. وجاء في لسان العرب ان زعيم القوم رئيسهم وسيدهم ولكن كاتب القاموس اي ابن منظور لم يكن ليعلم اللعب اللبناني حيث لا يسود احد الناس الا اذا هم استسلموا له فكان بينهم أخذ وعطاء في مجال السلطة التي فيها سيد ومسود وهذا معنى السلطة منذ الشرع الروماني. اما اذا كنت انسانا ذا روح خدمة فليس فيك الا سلطان الحب.

وهذا قليل في لبنان. اذ كيف كان الحاكم يحبنا منذ السنة الـ 1943 ويقبل ان يغرق الناس وسياراتهم ومحالهم ومنازلهم بالماء. وكيف يحبهم ان لم يربهم على نظافة الأقنية والمجارير. انا كان بيت اهلي قريبًا من ضفاف نهر أبو علي في طرابلس لما طاف في الخامس من كانون الأول السنة الـ 1955 وصعدت المياه الى الطابق السفلي من البناء وكانت تحمل طاقة غرق عائلات في المبنى. كل ذلك لأن مجرى النهر كان مليئًا بالأشجار والقذارات ففاض مجراه. الفكر يمنع عنك الموت. هل في الدولة فكر؟

أعرف أن لبنان ليس مركز العالم ولكنا نحن فيه. كيف نقاوم جنون الطبيعة قبل ان نقاوم جنون البشر؟ الحكمة ان ترد عنك القدر. ليس الموت هو الذي يخيفني ولكن الجهالة. وهذا البلد فيه ذكاء كبير. لماذا لا يصل الذكاء دائما الى الحكم: لا يقنعني ان الغريب يصنع عندنا السياسة وحده. هل في الإغراء ان حضنا يدعوك ام انك ايضًا ترمي نفسك فيه.

دائما كنت أعرف في مطلع شبابي اي منذ ستين ونيّف أن هذا البلد كان فيه أطهار في كل مناحي الحياة المجتمعية وكان فيه علماء في المجالات التي كنت اعرفها. كيف حلّ بنا السقوط؟ هل كان هذا مكتوبا علينا ام كان الفساد فينا ولم نلجأ اليه دائما اذ كان فينا حياء؟ لعلنا كنا نخشى عقاب الأصدقاء او حزنهم على خطايانا او كنا نؤمن بالله اكثر من اليوم اذا اكتشفنا انك اذا لم تعد اليه في الصميم فكل شيء مباح. لم يستبح احد بلدنا لو لم نكن نستلذ الإباحة. لذلك ما يفرض نفسه علينا ليس فقط مكافحة الفساد في الإدارة ولكن في ضمير الناس. ماذا تعمل الأديان؟

# #

#
ماذا عملنا لمكافحة الفقر؟ قالت لي مديرة مدرسة عندي في الحرب ان بعض الأطفال في الفرصة بعد حصة الدرس كان يغمى عليهم فسألتها عن السبب. أجابت انهم لم يتعشوا ولم يفطروا في الصباح. يقول كتابنا: »الله يحفظ الأطفال«. اين العناية بالمحرومين منهم والمرضى ومن كان ذووهم غير قادرين ان يبعثوا بهم الى مدرسة؟ هل من سياسة لرعاية الأطفال والأحداث؟ سررت الأسبوع الماضي حين كنت اتابع برنامج كلام الناس بان الوزير زياد بارود كان يجيب عن كل الأسئلة بدقة. قلت في نفسي: على الأقل هذا رجل اطّلع على كل الملفات في وزارته ويتكلّم عليها بأرقام. هل في عقل وزير الخارجية خطوط واضحة عن سياستنا تجاه كل دولة عربية نتعاطى حياة ما واياها وعن كل دولة اجنبية لنا معها مصالح ام نحن في هذا القطاع او ذانكتب فروض انشاء؟

ليس مرادي ان أكتب عن الدنيا كلها ولا أعرف عنها الا ما أقرأه في بعض الأدبيات الديبلوماسية بالفرنسية. ومع اننا بلد صغير لنا ان نحدّد سياستنا الخارجية فقد يستصغرنا الكبار ليسهل عليهم ابتلاعنا. كبّر نفسك تكبر. ارفض يحترموك. قد لا نستطيع ان نملي على احد ولكنا قادرون الا نصير زبائن.

عن لبنان حكايا كثيرة مؤلمة كلّ منا يعرفها لا حاجة ان ننستفيض في عرضها جميعا لئلا نيأس. ولكون لبنان قابلا للحياة بفضل الكثيرين من الفاهمين وأهل الله ندخل بعد ايام السنة الجديدة مؤمنين بأن الله من جهة وعزمنا من جهة سينقذان البلد مهما استغرق هذا من وقت وجهد ولعل هذا راجع الى كون الرب يحبنا ولا يهملنا في الخراب. وتبدي بعض معالم حياتنا الجماعية ان الناس ملّوا الخفّة في الأخلاق والكسل في العمل وأدركوا اننا في حاجة الى الجدّ والتفاهم والتوافق. وما يزيدني ايمانا بهذا القناعة البادية اننا بتنا مؤمنين بعضنا ببعض وان التخوين آخذ بالتضاؤل. اضعف الإيمان اننا اجمعنا على ان هذا البلد واحد وان الدين الحقيقي لا يفرّق بيننا واننا اقتنعنا من زمان ان عدونا واحد وهو اسرائيل.

قد لا يعرف كلنا لماذا هذه الدولة تناصبنا العداء. لا يشك أحد في أن لها مطامع في الأرض والمياه وانها بطبيعتها المسجلة على باب الكنيست تسعى ان تبتلعتا وتبتلع سوانا. انا أتمنى على النخب القارئة ان تقرأ الأدبيات الصهيونية التي يتبيّن منها انها ليست اقرب الى طائفة من طوائفنا ولا سيّما اذا اطلعت هذه النخب ان أضعف مجموعة في اسرائيل عددا هي المجموعة المسيحية او صارت كذلك لأنها طائفة ممانعة وتهاجر كثيرا حتى صارت في كل البقعة الفلسطينية لا تزيد عن 2?. المسيحيون ليسوا دوللين في دولة نعتت نفسها بأنها يهودية ما يجعل عرب اسرائيل البالغ عددهم اكثر من مليون مهددين في اي وقت بالجلاءء حسب مفهوم الـ transfert اي نقلهم من اسرائيل الى اية دولة مجاورة.

# #
#
ما يزيدنا أملا هو ان لبنان اكتشف ان له نفطا في البحر وانه قادر تاليا ان يصبح دولة صناعية الى جانب الصناعات القائمة او الممكن استحداثها. الى هذا ما أفرحني ان شبابنا يقوم بالتشجير، الأمر الذي يجمّل طبيعتنا ويعزيني.

كنت مرة أزور ديرا أرثوذكسيا كبيرا في فنلندا فسألت الرئيس مما يعيش بلدكم. أجابني معظم ايرادنا هو من الورق. قلت: كيف؟ أجابني: نحن بلد شجر ونصنع من الخشب ورقا نصدّره. يجب ان نتخلّى نحن اللبنانيين عن الفكرة اننا فقط بلد سياحي وبلد خدمات. هذا مورد لا يكفي لأنه غير ثابت ولو فرحنا مؤخرا بمجيء سواح كثيرين.

أهمية الاقتصاد عندنا ليست فقط اننا نستطيع به ان نقلل من الحرمان اذا وحّدنا الاهتمام بكل المناطق بحيث يتساوى اللبنانيون بالخيرات على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم. فاذا تغذى كل فرد منا ودرّس اولاده وطبّبهم كيف لا تضعف الحزازات الطائفية؟ نحن ليس عندنا سجالات دينية ولا سيّما ان كلامنا يستحب في الدين الآخر قيما كبيرة وكثيرة واننا نفرح بكل الأعياد ونمو كل منطقة ثقافيا. غير مرة أزور مستشفى القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس لعيادة مرضى او لمعالجة لي. أجد في كل الممرات نساء محجّبات حاملات أطفالهن. انهن يطلبن الاتقان العلمي.

الناحية الثقافية واحدة عندنا. نحن نتكلّم لغات كثيرة ولكن نفتخر جميعا بأن ثقافتنا واحدة وهي العربية ملونة عند هذا بالفرنسية وعند ذاك بالإنكليزي. وانا من منتدى ثقافي لبناني روسي يضمّ كثيرا من المسلمين يعرفون الروسية جيدا ورحبوا بنقل بعض كتبي الى اللغة الروسية.

نحن شعب واحد ذو ديانتين وهذا قائم في بلدان كثيرة ولا سيّما في العربية منها. هذا لا يقيم فرقا بين المواطنين في هذا المشرق او ما في ما يدعى الهلال الخصيب. وكلكم يعلم حرص أئمة المسلمين وقادتهم السياسيين على الاحتفاظ بالمسيحيين في لبنان.

ومسك الختام ان الدولة في لبنان منا جميعا وان اخلاق الدولة صورة عن اخلاق المواطنين. ان حاجتنا الأولى في لبنان ان تعلو حياتنا الحضارية التي تقودنا الى مجتمع مدني لا يعزل الإيمان عن فكره وسلوكه حتى نصل الى نظام سياسي لا يمزج بين الطوائف والدولة.

واني لأرجو ان يرحمنا الله حتى نتغلّب على مصاعب السنوات الأخيرة فنحبّ بعضنا بعضا ونتشارك في الفكر والخيرات ليرثنا الله ويرث أرضنا ونصير حقا من اجمل بلدان المعمورة.


Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الميلاد الظهور / السبت في 19 كانون الاول 2009

ليس عيد الميلاد تأريخا لحدث فلم يذكر الإنجيل شيئا عن هذا اذ كان همّ الإنجيليين اللاهوت. فبالتأكيد لم يولد المسيح الناصريّ في السنة الصفر ولكن على ما نظنّ في السنة السادسة قبل التاريخ الميلاديّ. وبالتأكيد لم يولد في الخامس والعشرين من كانون الأول. فاللافت عندنا اننا نعيّد لمعنى وهو هنا الظهور الإلهي ونلبسه تاريخا.

فبعد إقامة الفصح بدت فكرة التعييد لظهورات أُخرى للمسيح، فجُمع تذكار ظهور السيد في معموديته في الأردن وتذكار مولده في بيت لحم عيدا واحدا، ثم عزلت الكنيسة تذكارا عن آخر لسبب رعائيّ اذ لاحظت أن ٢٥ كانون الاول هو عند طائفة وثنية تعييد لمولد الشمس وكانت الشبيبة الوثنية تجر الشباب المسيحي الى مباهج قد يكون فيها مجون، فرأت الكنيسة في روما والقسطنطينية أن تقيم عيدا لميلاد شمس أخرى، غير محسوسة أعني المسيح، رسمته شمس العدل واستعادت هكذا شبابها الى كنائسهم.

ولم تبحث الكنيسة تاليا عن اليوم والشهر والسنة التي جاء فيها المسيح الى العالم، وهذا ليس فيه أهمية لأن العيد عندنا هو المعنى او الفكر. اما اذا أقمنا ذكرى لشهيد او قديس يكون ذلك في تاريخ موته إن عرفناه لأن ذلك يكون مولدا له في السماء. في العمق ليس عندنا عيد إلا الفصح أي هذه الثلاثية الممتدة من يوم الجمعة العظيمة الى صباح الأحد لكونها تتحدث عن الخلاص، ولهذا دُعي الفصح في آدابنا القديمة العيد الكبير فسمّينا الميلاد العيد الصغير، غير أن الهيكلية الطقوسية لهذا تحاول التشبّه بهيكلية ذاك، وكذلك يفعل فن الأيقونة فالوليد المقمّط بالبياض موضوع في مغارة سوداء وكذا سيكون في كفنه في القبر.

# #

#

على تقارب العيدين يغلب على الميلاد طابع الانسحاق والفقر والتواضع ممّا يُدنيه في قراءتي الى يوم الجمعة العظيمة. يسوع الناصري يولد في مذود للبهائم اي في أحقر مكان في قرية بيت لحم لأن يوسف ومريم كانا فقيرين ولم يكن لهما محلّ في الفندق. الفقر يستصغر وقبلا استصغاره وشلحهما في ما لم يكن مكانا لبشر. بقي يسوع الناصريّ على هذا الخط. خادم نجّار في طفولته وبعد ذلك مساعد نجار اي انسان غير نافذ في بلدته. ينمو ويكبر في حضرة الله ويستمع الى الوعظ في مجمع الناصرة. بيته الخفاء. في الصمت لأنه كان محكوما بالتواري حسب عُرْف الديانة آنذاك قبل بلوغه الثلاثين حيث يُسمح لليهوديّ بالتعليم فعلّم.
الى هذا المذود الذي جعله القديس إيرونيمس في القرن الرابع مغارة وما كان بمغارة، توافد رعاة كانوا يحرسون أغنامهم في تلك الأرض التي سُمّيت في ما بعد بيت ساحور. قادهم وحي من السماء في فقرهم الى زعيم فقراء التاريخ ليشاهدوا طفلا ملفوفا بخرقات. كان الصمت هو الجامع بينه وبينهم. السماء وحدها كانت قد تكلمت هكذا: «المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام في أناسِ المسرّةِ». هؤلاء المرميّون في الأرض أخذوا من الطفل السلام وسوف ينعته بولس بالسلام، هذا الذي سوف يحققه بين أبيه وإخوته عندما يكشف سر الله وسر البشر بموته.
في هذا الوقت او ما بعده بفترة يفد المجوس من المشرق، من العراق الحاليّ كما يظنّ بعض المفسّرين. أتباع المسيح في العراق يستنزفهم القتل الآن ويستبعدهم التهجير ليكونوا كمسيحهم على طرقات الدنيا. لماذا كُتبت المذبوحية على أهل المسيح في كل أصقاع العالم؟ هل مَن يولد من بطن امرأة مسيحيّة يحمل في طياته الدعوة الى المذبوحية. هو قرأ: «ليس العبد أفضل من سيده». اليوم اذًا نذكر قتل هؤلاء ليكون عيدنا كاملا.

# #

#

اليوم لا يريد يسوع أن يولد في بيت لحم اذ لم يبقَ له فيها مكان. هو مطرود حتى اليوم. مصير المدينة أضحى كمصير فلسطين. بات المسيحيون فيها ٢٪ اجل قال بولس: «ليست لنا مدينة ثابتة». الشتات مكتوب علينا. نحمل يسوع في قلوبنا ونموت حيث كُتب لنا أن نموت وبعد هذا نستوطن السماء. بعد هذا نترك في الدنيا كلمات الحياة.

قال المجوس للناس الذين التقوهم: «أين هو المولود ملك اليهود فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له». ملك اليهود عبارة كتبها بيلاطس البنطي الوالي على الصليب. المسيح اذًا أُعلن ملكا بموته وفي موته، وكأن علماء العراق هؤلاء عرفوا أنه «الذبيح قبْل إنشاء العالم». جاؤوا اذًا ليقولوا ان هذا الطفل حامل الخلاص وان الوثنية انتهت. ثم يأتي بولس بعدهم ليقول ان شريعة موسى قد انتهت هي ايضًا لأن المحبة التي سيبشّر بها هذا الوليد هي شريعة الله في الناس، وأتينا نحن لنسجد له لأن المحبة مطويّة فيه وسوف يموت ليُعلنها على العالمين: «وأتوا الى البيت ورأوا الصبي مع أمه فخرّوا وسجدوا له». بطل علمهم بظهور المحبة التي باتت العلم الوحيد «ثم فتحوا كنوزهم وقدّموا له هدايا ذهبا ولبانا ومرا».

ونحن نقول ان الذهب يُهدى للملوك. بطلت اذًا ملكيّة الملوك عندما قبّل الزائرون العظام قدمي الوليد. فقيرا كان حتى وصوله الى الخشبة، وبعد قيامته قال كبار الدنيا الذين آمنوا به نحن لسنا بشيء وقال صغارها ان لنا مع هذا تماهيا وهو منا بعد أن أحسسنا أنّا له.
أما اللبان فهو البخور الذي يأتي من اليمن، من العرب وهو الرائحة الزكية التي تسطع من محبيه إذا تخلّوا عن كل انتماء أرضيّ والأكثرون من العرب سمعوه يقول لله عن الناس جميعا «وكنتُ عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفّيتني كنت الرقيب عليهم» (المائدة، ١١7).

اما المرّ فموصوف عند متى على أنه الهدية الأخيرة لأن هذا ما سوف يتجرّعه على الخشبة إذ البشريّة معظمها ممرمر وهو الحلاوة كلها.

# #

#

يا ليتنا على بساطة الرعاة ليظهر يسوع لقلوبنا فيحلّ فيها سلامه. يا ليتنا على فهم المجوس له ليصبح فهمنا إلهيا. في الأيام المقبلة علينا بالنعمة اذا أقمنا العيد له يُسقطه هو علينا فنخرج من صحارى قلوبنا والدنيا وننعم بفقرنا اليه ونقيم العيد ببساطة وفهم، ومنه نذهب الى الفصح.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

أصول المسيح / السبت 12 كانون الأول 2009

الأحد الواقع غدًا تسميه الكنيسة الأرثوذكسية أحد الأجداد وتعني بهم الذين أسسوا للمسيح منذ اول الخليقة. عندنا في الإنجيل نسبان للمسيح أحدهما منذ مطلع متى، يبدأ بابراهيم. والآخر ينطلق من يسوع الناصري ليصل الى آدم. والواضح في قراءة مستنيرة ان متى لما وضع كتابه حول السنة الثمانين في انطاكية يهودي المولد والمنشأ في فلسطين وبقي عبري اللاهوت لما وضع انجيله الأول في عاصمة سوريا وكان مصمما ان يقول للجالية المسيحية اليهودية الأصل في انطاكية ان هذا الرجل الذي آمنوا به كان من نسل ابراهيم وان صلته الحقيقية ليست بموسى الذي لم يذكر في النسب ولكن بأول مؤمن بالله ابراهيم والذي على أساس ايمانه كان قد أتى بولس ليقول ان البشرية ستصبح بارة على صورة برارة ابراهيم وليس على صورة بر الناموس. ولعل متى أراد ايضا ان يطمئن كهنة الهيكل المهتدين وافتقروا بسبب خسارة راتبهم من الهيكل، ان يطمئنهم انهم كسبوا المسيح في فقرهم لأنه منتهى انبيائهم وتحقيق رؤاهم. فالتوراة تصبح به صورة للآتي، ممثولة للمثال الذي هو يسوع الناصري.

هذا نسب متى. اليه نسب السيّد عند لوقا الطبيب السوري الذي تتلمذ على بولس وكتب انجيله بعد التتلمذ في رومية عاصمة العالم التي كان فيها رجاء المخلص. كان لا بد للوقا ان يقيم صلة ليسوع ليس بابراهيم فقط ولكن بآدم ليجعل اجداد يسوع ليس فقط من العنصر اليهودي ولكن من البشرية جمعاء فيكون مسجلا في كيانه المريمي وفي خطة الله الأزلي انه من ثمرة البشرية القديمة ومنشئها بآن.


مخلص اليهود ومخلص الأمم هذا ما أتاح لبولس ان يكتب « ليس يهودي ولا يوناني» اذ انهار حائط السياج، المتوسط الذي كان بفصل بين اهل الله الواحد وهم بلافلسفة وبين اهل الفلسفة وليس لهم إله واحد. سينهار به هذا الجدار الذي كان يفصل بين العقل والوحي حتى اذا انشدّ العقل الى المحبة يصبح هو مهبط الوحي.

متى يحمل الحركة الروحية البحتة المنطلقة من ابراهيم. لوقا يمدّها الى الآدمية ومنها الى الطاقات الفكرية الإنسانية التطلعات في الفلسفة القديمة. ولعلّ الناس الذين هم على بعض الاستنارة يتموجون بين هذين القطبين ليجمعهما الى واحد في المسيح يسوع.

ينهد اليه حسب متى كل الأبرار المنحدرين من ابراهيم والى جانبهم ثلاث عاهرات ليبيّن الانجيلي ان جسد المسيح ينقذ الأبرار وينقذ الخاطئين والخاطئات معا وليقول ان الطبيعة التي اتخذها الابن في تجسّده هي طبيعة خاضعة للفساد ولكن المسيح عصمها من الفساد. هذه نظرية قائمة عند بعض الآباء وليس عندهم جميعا. نسب متى يقول ضمنا ان المسيح يحمل الخطايا وانه مخلص من سلفه ومن خلفه ليكون هو «الكل في الكل».

حسب لوقا يرث المسيح جميع الأمم اولا اليونانيين ليقول ان كل بهاء الإغريق منذ ما قبل سقراط انما لا يصل الى جلاله الا بالعطاء الكامل الذي أهداه يسوع الناصري بموته الى البشرية.
# #
#
اذا كان المخلّص متصلا بكل نسل ادم هل له علاقة بديانات شرقي آسيا. بعض من لاهوتيي الغرب في شقيه البروتستنتي والكاثوليكي قالوا ذلك اي انهم رأوا في هذه الديانات عناصر قريبة من الإنجيل ليس لأنها اخترقته او أثرت في تكوينه ولكن من حيث ان بينها وبين مضمونه قربى. ومنهم من انتهج الهندوقية طريقة تصوف مع يقلئه على المسيحية عقيدة. ما وددت أن أستخلصه من هذا الموقف ان اتباع يسوع يرونه في بعض الأشياء التي سبقته دون ان يكون هناك تواصل نصوص. يسوع لم يأخذ شيئا عن البوذية ما في ذلك ريب ولا سيما اننا لا نعرف شيئا على وجه التدقيق عن تاريخ ظهوره. النسك في دايانات الهند والتقشف محببان للمسيحيين.

منذ اربعين سنة ونيّف كنت أدرس الهندوقية مع قسس انجيلين في سويسرا على أستاذ هندي الجنس والعقيدة بعد ايام سألني لماذا تفهمني اكثر من رفاقك وما اراد بذلك الذكاء ولكن الحس الروحي. أجبته: هناك قرابة بين الكنيسة الشرقية معكم على طرق النسك والروحانية والقلب.
# #
#
اذا كان ثمة قربى بين المسيح وما قبله فما العلاقة بينه وبين جنباته؟ اليوم ومنذ بضعة عقود دعوات دينية جديدة هي بعث لتيارات الغنوصية او العرفان (ليس بمعناه الإسلامي) وتيارات تلامسها الهندوسية بصورة تهدم تراثنا الروحي وتحاول التعويض عنه بنكران الوحي وبين كل هذه ما يتصل بنيتشه وغيره وبقايا الوجودية الملحدة والمسيحية المتصهينة في اميركا. اي ان هناك وثنيات كثيرة على أشكال مختلفة. وموقفنا منها نقدي او رافض او مغربل كما كان من الوثنية القديمة ومن بعض جوانب من أفلاطون والأفلاطونية الحديثة.

هناك انحراف اساسي طبعا في باطن الحضارة الغربية وفي ظواهرها. هناك ابتعاد عن المسيح واضح، هذا اذا نظرنا الى الفكر وحده ولن ننظر الى الأخلاق المنحدرة المتهورة التي هي بحدّ نفسها تجريح لطهارة المسيح.

نحن كان عندنا في البدء موقف شرس من الخطأ وموقف لين تجاه الفلسفات او الحركات التي تحمل ما يهيء لحقيقة المسيح. بمعنى آخر ليس عندنا تلفيق Syncrétisme  اي نظام يجمع اعتقادات من هنا ومن هناك ويبني تقاربا كاذبا. نحن نرفض النسبوية في النظام الديني ولا نقول اننا بعض من حقائق متناثرة. ولكنا نقول اننا نرحب بالقربى ان وجدناها ونقيم جسورا إن أمكن مدها. لا نخاصم ولا نتجانس مجانا. «افحصوا كل شيء وتمسكوتا بالأفضل». (1 تسالونيكي 21:5).

يبقى اننا نسعى الى رؤية العناصر الصالحة عند الآخرين. ولكوننا نرى الحقيقة كلها في مسيح الأناجيل نرحب بقربي متصلة ببشرة السيد أكان هذا عن طريق التواصل المباشرة ام التوافق العقلي غير المباشر.

خط المسيح ليس فقط النازل من ابراهيم حسب متى او الصاعد من المسيح الي آدم وهو ايضا الخط المشع منه الى من جاء بعده او المتلاقي واياه بلا صلة مباشرة، نحن لا نلتقط فقط آثار المسيح التاريخي ولكنا وراء المسيح الكوني الساطع هنا وهناك بوسائل نعرفها ووسائل لا نعرفها.

امتداد المسيح من جهة وانصباب الفكر فيه هما وجهان لقراءة لنا جديدة لأحد الأجداد الذي سنكون فيه غدًا. نحتاح الى دقة كبيرة اي الى استقامة الرأي لنميّز بين ما هو لربنا يسوع المسيح وما هو لروح العالم المتدهور او المجنون. ان جدران الكنيسة ليست حدودا بيننا وبين الآخرين. الكنيسة مكان تطهر لكي ندعو من كل جلال وطهر وحق. الجدران القائمة فيها أبواب يدخل منها ملك المجد وتدخل معه جحافل الطاهرين في الأرض بما يحملون من وعي ووداعة وبر.

الأحد القادم يزداد تلاصقنا بالمسيح انطلاقا من نسبة تلاصقنا انطلاقا من نسبه الى ابراهيم حتى نترك كل شيء يوم العيد امام انسحاقه الكبير ومجده الكبير.


Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

يوحنا الدمشقي / السبت 5 كانون الأول 2009

القديس يوحنا الدمشقي هو منصور بن سرجون في الحياة المدنية، واتخذ اسمه الرهباني في دير القديس سابا القائم حتى اليوم قرب بيت لحم. هو حفيد منصور بن سرجون الذي كان عاملا للروم في دمشق اي محافظًا للمدينة وفي خلافة معاوية عيّنه هذا متولّيا على بيت المال.

هذا أمر عظيم المعاني وعميقها. وامتدت هذه الولاية لابنه وغالبا لحفيده الذي حمل اسمه على عادة التسمية باسم الجد في هذه البلاد. والواضح ان الأمويين ثبّتوا المسيحيين في المناصب التي كانوا يشغلونها في العصر البيزنطي لأن الدواوين كانت تكتب سجلاتها باليونانيّة وعرّبها عبد الملك بن مروان. اليونانية كانت آنذاك لغة الناس في المدن كما كانت الآرامية لغة أهل الريف. في عهد يزيد بن معاوية تولّى المسيحيون الأرثوذكس بيت المال مع أن اليعاقبة الذين هم السريان الأرثوذكس كانوا الأكثرية في بلاد الشام. التفسير الوحيد عندي أن العرب ثبّتوا الذين وجدوهم في الدواوين في العصر البيزنطي وهؤلاء كانوا بالضرورة على مذهب الحكّام الروم.

لم يستطع العرب عند الفتح أن يتولّوا وظيفة إدارية لجهلهم لغة الإدارة التي كانت الرومية. فالمشهد السياسي أن الحكّام العرب تولّوا الخلافة ومعها الحرب اي ان العرب المسلمين وثقوا كليا بالمسيحيين في مراكزهم الإدارية حتى ان معاوية فوّض منصور بن سرجون الجد بناء اول اسطول عربي في طرابلس وكانت غاية معاوية في هذا أن يحتل القسطنطينيّة. بكلام آخر كانت مهمّة منصور بناء أسطول يهاجم عاصمة العالم الأرثوذكسي. لم يكن هذا يحلو لرجل كان يحضر القداس في ميناء طرابلس يوم الأحد ويهيئ العسكر العربي المسلم لمهاجمة القسطنطينيّة. لم يكن هذا أمرا سهلا عليه. ولكنه فهم هو وأبناء كنيسته ان المسلمين فتحوا بلاد الشام ليظلّوا فيها. ولم يكن لأهل البلاد المسيحيين أيّ حلم باسترجاع الروم بلاد الشام.

الى أيّ جنس كانت تنتمي عائلة سرجون؟ ليس من دليل عندي انها كانت من قبيلة عربيّة وكان بين المسيحيين قبل الفتح في سوريا عرب. ظنّي انها كانت على صعيد العنصر سريانيّة تبنّت بسبب ثقافتها اللغة اليونانية. سريانيّة ما كانت تعني سريانية المذهب اذ كانت خلقيدونية والكنائس لم تكن تلازمها لغة من اللغتين السائدتين.

# #
#
كون القديس يوحنا الدمشقي لم يكتب سطرا واحدا بالعربية لا يعني بالضرورة أنه كان يجهلها بالكلية ولا سيما انه هو وذووه كانوا يخالطون الخلفاء الأمويين بسبب من العمل الإداري الذي كانوا عليه. ان السبب في عدم استعمال يوحنا الدمشقي للعربية أن هذه لم تكن بعد قد صارت لغة المسيحيين. ولكن كيف كان منصور بن سرجون الحفيد الذي صار اسمه يوحنا الدمشقي يخاطب الخليفة يزيدا وهو يراه كل يوم للمشاورة في أمور بيت المال ويزيد لا يعرف سوى العربية؟ يُزيّن لي أن منصور بن سرجون كان على الأقل يُحدّث الخليفة بعربية عامية وكل شيء يشير الى انه كانت عامية ما عند المسلمين.

وضع القديس يوحنا الدمشقي »حوارا بين مسيحيّ ومُسلم« قرأه المثقفون المسلمون والمسيحيون منقولا عن اليونانية او لغة غربية نُشر في مصر منذ حوالى ستين سنة. هذا دلّني على أن يوحنا الدمشقي عرف شيئا عن الإسلام عن طريق أصدقائه. مع ذلك لست أظن انه قرأ سورة الإخلاص التي يستشهد بها اذ أخطأ في نقل آية. ولكن ما من شك أنه كان يتحدّث عن الإسلام مع يزيد مع كون هذا لم يكن عظيم التقوى. غير ان القديس يوحنا الدمشقي لم يكتب عن الإسلام شيئا آخر على رغم مما ظنه بعض العلماء.

في الأخير انفصل الرجلان نهائيا لكون يزيد اعتدى على بعض معالم المسيحية ما جعل قديسنا يُغادر دمشق الى فلسطين حيث ترهّب. هناك في دير مار سابا وضع كتاب الينبوع الذي تضمّن المئة مقالة وهي كتابه عن الإيمان الأرثوذكسي استهلّه بمقدمة فلسفية يقول المستشرقون الألمان انه كان مصدرا أساسا للفلسفة الإسلامية التي وضعت خطوطها في العصر الأموي. الإشكالية الفلسفية في تاريخ الفكر الإسلامي قائمة أسسها في كتاب الينبوع.

فضْلُ يوحنا في هذا المصنّف انه اول كاتب وضع أنظومة اللاهوت المسيحي أعني كتابة مألفة synthèse، منسقة لكل الفكر المسيحي. قبله لم تكن سوى فصول متفرّقة في هذا الباب او ذاك، يكتب هذا في موضوع الثالوث، وغيره في التجسد او الفداء. اما يوحنا فيبسط الفكر المسيحي كله فصولا مترابطة.
# #
#
يتّضح عند فاحص هذا الكتاب ان صاحبه يعرف جيدا الآباء القدامى ويقابل بينهم ويختار من يحبه. ويستند فلسفيا على أرسطو.

ناقش الأخصائيون قدرته على الإبداع. لا شك انه كان دون أكابر الآباء ابتكارا. ربما هذا يكون نصيب من ينصب على أنظومة متماسكة، مترابطة في المنطق. غير ان فضله في انه كان أول مسيحي يسكب الإيمان في كتاب واحد. وكان هو منطلقا للمنهج اللاهوتي الانتظامي فاستقى منه الكثير توما الأكويني في الغرب وفي الخلاصة اللاهوتية استشهد به مئات المرات.

لم يكتفِ القديس يوحنا الدمشقي بأن يكون ضليعا من اللاهوت لأنه توخّى النسك ايضا والتأمّل الصوفيّ فوضع قطعا عديدة في العبادات مثل الفصحيات يرتّلها أرثوذكسيو العالم حتى يومنا هذا. الى جانب هذه النصوص وضع في الموسيقى نظام الألحان الثمانية التي تسوس ترتيلنا حتى اليوم بعد أن كان عندنا نظام إنشاد آخر. لم يكن اذًا رجل عقل تجريديّ بحت ولكن امتلأ قلبه من حضرة الرب.

ما يلفت طبعا عند آل منصور في دمشق وعند من عيّدنا له أمس إصرارهم على شيئين، اولاً أن يتمسكوا بإيمانهم تمسكا كاملا وعارفا، وثانيا أن يظلّوا في إيمانهم معاونين صادقين للحكم في دولة غلب عليها الطابع العربي في معظم أطوارها. وأظن أن سلوك يوحنا الدمشقي وأبيه وجدّه بات نموذجا لموقف المسيحيين الأرثوذكسيين من الدولة الإسلامية أقبِلتهم بانعطاف كامل أم لم تقبلهم. هم يتحركون حسب أخلاقهم والدولة حسب أخلاقها.

المهم في هذا المسلك أن إلهام هؤلاء المسيحيين المشارقة لم يكن قائما على قوميّة لم يكن أحد كشفها آنذاك. كان الحب وحده يُحرّكهم وكانت المعرفة العليا تدعم هذا الحب. قبل أن يتعرّب لسان المسيحيين في بلاد الشام واستغرق هذا زمنا طويلا ظهر آل منصور فيه في انسجام كامل مع الدولة وأخذوا تاريخيا المجد الذي يستحقّون.


Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

هل من تجاوز للطائفية؟ / السبت 28 تشرين الثاني 2009

أظنّ أننا لم ننتبه ولم نستطع أن ننتبه الى طبيعة المشاعر الدينيّة والمخلّفات التاريخية في كل طائفة على حدة، فاعتبرنا تسهيلا للتأمل السياسي أن ثمّة كتلة واحدة تسمّى طائفة، ونظرنا الى هذا الكيان نظرة تجريديّة او حقوقيّة لتجاوزه في نظام الدولة. أتى ميشال شيحا إعدادًا منه للدستور ليرى الى الطوائف كأنها متماثلة، ونظر بخاصة الى الأقليّات والتمس حريّتها في مخزون ذاكرة عثمانية، وظنّ أن توازنًا بينها في العدل يؤمّن مشاركة لها في الدولة لا تبخس حق أحد. ولكنه لم يفرّق بين الإسلام والمسيحية في طبيعتهما. فرّق في رؤية الوجود المجتمعيّ. ولم يميّز في المسيحية بين الموارنة وغيرهم من المسيحيين او بين رؤية الأرثوذكس الى الإسلام التاريخيّ ورؤية الموارنة اليه.

ما أطرحه هنا أن موضوع إلغاء الطائفية السياسية ليس كافيا لتجاوز الطائفة الى ما هو أبعد وأمتن وأبقى أي الى الدولة القومية أو الوطنية. أظنّ أن طابع الفكر القوميّ قائم على أنك قادر بتربية وطنية او حزبية على تجاوز الانتماء الطائفي في خلُق حضاري الى انتماء آخر أوسع. وهذا الفكر تابع لنمطية غربية لم تكن معقّدة مثلا عندما اكتشف الفرنسيون بعد ثورتهم أنهم أُمّة. كانت هناك قشرة الملكيّة المتحدة بالكنيسة الكاثوليكيّة التي تُبعدهم عن مفهوم الأمّة، ولكنهم كانوا حقا أمّة كان ينبغي إزاحة النقاب عنها. أمّا عندنا فينبغي أن تُصنع الأمّة اذ لم نكن أمّة.

نحن جئنا من الحضارة الإسلامية ومن رؤية المارونية لكيانها وكيان الناس. عندما نسمع أئمة المسلمين او مفكّرين إسلامويين يذكرون الأمّة فهذا برجوعهم الى النص المقدس: “كنتم خير أمّة أُخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المُنكر” (آل عمران، 110)، وهذا لا علاقة له بالأمّة بمعناها القوميّ. ليس الإسلام رؤية روحية بحتة. انه أرضيّ أيضًا والأرض تعني سياسة. انا لست بقائل ان القناعة القوميّة ضرورية للتوحيد السياسي. بيزنطية والسلطنة العثمانية وامبراطوريّة النمسا- المجر ما عرفت وحدتها بالقوميّة ولكن بتنظيم الدولة المحتوية عدة إثنيات. لذلك يمكننا أن نفتش في لبنان فقط عن الدولة. وليس صحيحا أننا في الواقع جميعا دويلات. الإسلام كيان زمنيّ وأخرويّ معا وليس دويلة ولو أصرّ على الإبقاء على أحواله الشخصيّة. ولا يبدو أن أحدا في لبنان مستعدّ لتجاوز الأحوال الشخصية.

# #
#

أما المارونية في حركتها السياسية فلها في عمق مشاعرها مطالعة لنفسها وللبنان تختلف كثيرا عن مطالعة الإسلام اللبناني لنفسه. المارونية إثنيّة في مقهوريتها التاريخية وفي احتمائها في الجبل كوّنت شعبا بالمعنى الكامل. وليس في الوحدة الوطنية ما يمنع قيام إثنيات متعددة كما في بلجيكا وسويسرا. اليوم لا يبدو أن هذه الإثنية تُصرّ على أوّليتها في الدولة. وإن كان ليس للإسلام حديث قوميّ إلا أن وجدانه يقيم في الأوّلية لاعتبار نفسه الوحي الأخير والكامل ولكن في التحرك السياسي المعاصر هذا لا يضطرّه أن يكون إثنية. المارونية وإن انتمت الى الكثلكة عقيدة لا تتحرك -على الصعيد السياسي- كاثوليكيا في لبنان لأن الكثلكة أخذت تكتشف، ولو ببطء، القومية. الكنيسة الكاثوليكية إذا قيست بأرثوذكسية الروس واليونانيين الحادّين بقوميّتهم آخذة اليوم بالقومية في كل بلدانها. الإسلام والمارونية وكل منهما كتلة كيف ينتقلان الى دولة لكل الناس ويعترفان لكل الناس بالحقوق الواحدة بحيث يُلغيان أيّ شعور بالتفوّق او الأفضليّة او الكبر التاريخي او الإسقاط التاريخي لعظمة العقيدة.

الأرمن ظاهرة فريدة لأنهم قوميّة حقيقية في حسّهم ووطنية في لبنان وهذا ممكن عقليا وفعليا. قوميون ليس من طبيعة مسيحيّتهم اذ هذه لا تتضمن قومية ولكن بفضل تاريخهم لافتخارهم بأنهم اول دولة مسيحية في التاريخ. والى زمن قريب كان تراثهم الأدبي من إلهامهم المسيحي. في اعتقادي أن لبنانية الأرمن كاملة اذ ليس من تضارب بين فخارهم القومي وولائهم للدولة اللبنانية.

الروم الأرثوذكس يُقبلون قليلا الى وظائف الدولة. ولا يبدو أن لهم تحرّكا ملحوظا فيها. ما يميّزهم عن المسلمين أن مسيحيّتهم الشرقية لا قولة لها في السياسة بمعناها الواقعي ربما لأن مذهبهم لا يتضمّن قوميّة. ولعلّ فراغهم منها هو الذي دفعهم الى أن ينضمّوا الى غير تيار قومي. هذا التجرّد من القوميّة يكشف لي أن الأرثوذكس اللبنانيين او العرب مندفعون الى العلمانية ربما بسبب الالتصاق الكامل بكنيسة لا يرون فيها تحزّبا طائفيا. وتكشفهم موحّدين كثيرا على الصعيد الروحي ربما لأنهم أحرار من القبليّة. وهذا يدفعني الى القول انهم، كنموذج، أقرب صورة عن الاندماج بالدولة. فمن لا يطمح الى حضور دولتيّ مصغّر لا يطمح الى دور في الدولة الكبرى خاص به.

# #
# لم يبقَ كافيا أن نقول مع ميشال شيحا أن النظام الطائفي يتضمّن العدل او يقرب منه. هذا لم ينجح لأن الانتماء الى الطائفة لم يكن مجرّد انتماء الى دويلة، بل كان ايديولوجية راسخة في النفوس واعمق من الأعراض السياسية. كل المتأملين في هذا الموضوع عندنا يظنّون أن حلّ المشكلة هو بنقل الانتماء من دولة صغيرة الى دولة كبيرة. ولكن كيف؟ أفهم أن كسر الطوق الطائفي بالقانون في إلغاء الطائفيّة السياسيّة قد يكون له أثر كبير. ولكن مجرّد الدعوة الى مكافحة الطائفيّة في النفوس يمهّد الطريق الى إلغاء النصوص. هذا يفترض أن لتعلّق المواطن بطائفته نمطا واحدا. لقد بينّا أربعة أنماط تختلف المشاعر فيها والحوافز والمخاوف عند طوائف أهملناها.

هنا أسأل المسلمين ولا سيّما السنّة اذا كانوا يرون أن تحرّرهم من الدنيا كمكوّن في الإسلام مرغوب فيه كما يبدو مستقبل الإسلام في اوربا (سنشاهد بلا شك هناك إسلاما علمانيا). وهل سيعفّون عن رؤية العالم أنه في دنياه غير مقسوم الى مؤمنين ونصارى ملوّثين بالكفر ويهود لكونهم جميعا مواطنين، لا أسأل الموارنة شيئا لأني أفهم آلامهم ولكني أدعوهم الى اتخاذ كثلكتهم اتخاذا جديا في قبولها كل شرائح المجتمع على التساوي.

لا أسأل الأرمن ولا الروم الأرثوذكس شيئا لرؤيتي أنهم من الدولة كليا. إن نموّ هاتين الجماعتين في عمقيهما الروحي والثقافي هو ضمانة ثبوتهما في الوطن متساوين والكل.

ما حاولت أن أبيّنه باختصار أن ليس عندنا كلنا الصعوبات الواحدة التي تبعدنا عن الانصهار في الأمّة وأن البعد يجب أن يعالجه المفكرون بعمق. التعدد لا يعني بالضرورة الغنى الثقافيّ. في حالتنا يعني الافتراق أحيانا لأن الوحدة الفكرية او الوجدانية ليست مؤمّنة. كلّ من شرائحنا الدينيّة له درجاته يصعد منها الى الدولة.

هذا لا يعني أني لا أُقدّر تقديرا عظيما النشاط الثقافي والنشاط المجتمعي والسياسي اللذين يكسران السدود القائمة بين بعض من الطوائف والدولة من ناحية نظرية. فعلى تصويري للمسلمين والموارنة أُدرك أن بينهم من تخلّى عن رواسب التاريخ وأحيانا بعض اللاهوت، ولكني أقول للعلمانيين والقوميين ان المسألة ليست بكسر سدود الطوائف ولكن بمعالجة أخطاء هذه او امراضها من الداخل. الوطنية اللبنانية لها أن تقوم ولكن سطحيا على إلغاء الطائفية السياسية. ولكنها لن تتأصل الا بعد النقد الروحي والتاريخي تقوم به الطوائف المتطيّفة لنفسها.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

استقلال لبنان / السبت 21 تشرين الثاني 2009

في طفولتي او مطلع شبابي نصب الطرابلسيون المتاريس ضدّ الاستعمار الفرنسي المقرون آنذاك برفض لبنان. ولما كنت أجتازها من بوابة الحدادين الى المدرسة في الزاهرية كنت أسمع المسلحين يرددون: «بدنا الوحدة السورية إسلام ومسيحية». أذكر ايضا ان البرلمان في جلسة 8 تشرين الثاني 1943 ألغى كل حقوق فرنسا الواردة في الدستور. بعد ثلاثة أيام كان ما يسمّيه الفرنسيون عيد الهدنة فعطّلت مدسة الحقوق التي كنت أطلب العلم فيها وانكفأتُ الى طرابلس ولاحظت (وأنا مدنيّ آنذاك) أن مظاهرة تلامذة ابتدائيين وثانويين خرجت من المدينة القديمة ووصلت الى ساحة التل التي كنتُ جالسا في أحد مقاهيها، وفهمت توا أن هذا كان احتجاجا على سجن رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وبعض من الشخصيات التي كنت أعرف منهم عبد الحميد كرامي لأنه كان يسلّم عليّ في الطريق وانا طفل كل مرة التقيته، ولما اجتازت المظاهرة بعضا من طريق الميناء جابهتنا دبابة فرنسية وقتلت منا أحد عشر شابا. وأخذت مع غيري اجمع جثثا مشلّعة. في تلك اللحظة ألغيت فرنسا من دماغي. تحقق الاستقلال في نفسي.

قبل هذه الميتات كنت قد قرأت في البيان أن لبنان «لن يكون للاستعمار مقرّا ولا الى شقيقاته العربيات ممرّا». ففهمت أن المراد بهذه العبارة العظيمة أننا اتفقنا على رفضين: رفض الانتداب ورفض الوحدة السورية.

بعد هذا بخمس سنوات نشأت إسرائيل. قبل ذلك بأيام قليلة التقيت للمرة الأولى كمال جنبلاط في باريس التي كنت فيها طالب لاهوت، فسألته عن غرض زيارته فأجابني انا ذاهب الى إنكلترة لأشتري سلاحا للدولة اللبنانية.

اذا جمعت الميثاق الوطني واحتلال الصهيانة لفلسطين ماذا أفهم؟ أفهم بالدرجة الأولى أننا في العمق وفي الجهاد ضد اسرائيل، وبقيت حتى اليوم أفهم أننا معها في حالة عداء وأنني لا أرى وسيلة للسلام بيننا. وكتبتُ في ما بعد هذه دولة «حُبل بها بالإثم ووُلِدت في الخطيئة». ومعنى ذلك، اننا لا نستطيع اليوم ولا غدا أن نعاشر دولة زانية.
# #
#

منذ بضعة أشهر طرحت على نفسي سؤال حيادنا على طريقة سويسرا التي قضيت فيها فترات من عمري. فأدركت أن حيادها صيغة قانونية تقضي بأن تقبله جاراتها لينتفي التعدّي من الطرفين. وفي الواقع بقي هذا البلد سالما في الحربين الكونيتين الأولى والثانية. وكان واضحا عندي أن سويسرا مؤلفة الى فئات وطنية صغيرة من فرنسيين وإيطاليين وألمان وأن هذه الشعوب الثلاثة تعتبر نفسها سويسريّة فقط.

اذًا لا حياد لنا لا تعترف به إسرائيل. تبقى سوريا. هنا يطنّ في أذني كلام الرئيس حافظ الأسد: «نحن شعب واحد في دولتين». الى جانب تصريحات متتالية منه ومن الرئيس الدكتور بشار الأسد ليس من حياد عن سوريا ما دامت الدولة العبرية التي تنعت نفسها باليهودية رافضة له. السؤال الباقي حول استقلالنا عن الأخت الكبرى ليس سؤالا قانونيا بعد التبادل الديبلوماسي. هو سؤال أدبي بل كامن في الوعي التاريخي عند إخواننا وهو هذا: هل يعتبروننا جزءًا منهم. الجواب أن سوريا الكبرى لم تكن متكوّنة في العصر العثماني ولا بعده من الناحية القانونية. لم ينفصل تاليا أحدنا عن الآخر بالمعنى القانوني. السؤال الذي قد يبقى في أذهان أشقائنا هو هذا: هل كان على اللبنانيين أن يرفضوا إعلان لبنان الكبير في الأول من ايلول السنة 1920.

عدد كبير من اللبنانيين رفض لبنان الكبير آنذاك وبعد هذا التاريخ بسنوات عديدة (مؤتمر الساحل، حوادث 1958) الى أن استقرّ الولاء اللبناني عمليا في عهد فؤاد شهاب وفي الطائف ونصّ على نهائيته في الدستور الجديد.

في الوقت الحاضر ليس من لبنانيّ واحد يرفض الاستقلال وجدانيا وقانونيا. ليس عندنا إحصاء او استفتاء يدلّنا عمّا اذا كان الشعب السوري يريدنا أن ننضم اليه. ونحن قد اتّفقنا في ما بيننا ألا نعقد زواجا كاثوليكيا مع احد. هذا هو الواقع الذي نرجو أن تراه سوريا على كل مستويات وجودها لأن هذا شرط لثبات الأخوّة.

الدول تدول اي تنشأ وتموت. الوحدات الوطنية قد تنقسم. «كل من عليها فانٍ ويبقى ربّك ذو الجلال والإكرام» (سورة الرحمن 26 و 27). لا تعيش الدول في الماضي ولا في الحسرات. واذا اعتبرنا مع الرئيس حافظ الأسد أننا شعب واحد فالشعوب ايضًا تتشتّت وتنتظم في دول مختلفة. ليس من شعب مقدسة وحدته وما من شعب مختار. الشعوب والدول مجرد إمكانات.

هذه ليست صرخة إزاء أحد. هذا حب للبنان وسوريا معا اذ ليس من كيانين مرتبطين كما من رحم واحدة مثل هذين الكيانين.
نداؤنا نحن أبناء هذا البلد للإخوة السوريين أن أحبونا كما نحن نحبهم. وانت والحبيب الذي تتوق اليه لا تتساكنان قبل الزواج. نحن والسوريون نعيش في التوق بعضنا الى بعض وهذا عظيم جدا. وهذا كافٍ ليتحول التوق الذي يربطنا الى تعاون وثيق على كل الصعد بما في ذلك النمو الاقتصادي للبلدين والمشاركة الفكرية في إطار الثقافة العربية.

منذ سنوات كنتم تشتكون من موآمرات عليكم. من له هذه الرغبة الآن وقت تتقرب اليكم دول كبرى ودول متوسطة او صغرى. ما قوة لبنان المهشّم، الباقي بأعجوبة ليؤذيكم بشيء. اذكر في الماضي القريب والبعيد أن ديبلوماسيتنا كانت معكم في تلاقٍ او توازٍ. نحن ليس لنا أن نهدد أحدا. ضمّونا اليكم بالحب تروا منا العظائم. اجعلونا وإياكم واحدا بالسعي المشترك الى بهاء بلدين متعانقين في استقلال كل واحد، في ذاتية كل واحد.
# #
#
اما عيد الاستقلال الذي لم يحن وقته بعد هو أن يستقلّ كل رجل سياسة عن شهواته. هذه منعتنا وهذا جلاله. لبنان المستقلّ في الداخل هو من تعرّى من ثوب الفساد، كل فساد. ماذا ينفع الإنسان إن كانت حدوده كلها مصونة وقلبه غير مصون. ماذا ينفع »اللبنان« اذا ربح العالم كله وخسر نفسه، او ماذا يعطي اللبناني فداء عن نفسه. نريد وطنا عظيم التهذيب لا أثر فيه للشتيمة والبغضاء في حقل العمل الوطني، يجمع ساسته الصدق والعلم والإخلاص، وطنا معطاء لأبناء له يزول عندهم البؤس ويُغنون بعضهم بعضا بالمحبة، يستثمر كل إمكاناته ولا يهمل واحدة حتى تتحقق كل طاقات العدل. واذا استتبّ العدل في كل المناطق سواسية لا يبقى مجال لفتك الطائفية، الطائفية بكل جوانبها. لن تزول هذه الآفة بالإنشاء حتى لا يبقى بون بين الكلمة الحلال وتنفيذها لصالح المواطنين.
لن تعود الثقة بين هؤلاء والحكام ما لم يُثبت هؤلاء أنهم خدّام لكلّ الناس. لا يأخذ السيادة الا من كان ماسحًا لأرجل الفقراء.

هذا البلد هو الذي يتمناه أبناء لبنان، هذا الذي يكون قد حقق استقلاله الداخلي عن ذنوب الخطأة.


Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

ملكوت السماوات / السبت 14 تشرين الثاني 2009

«توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات» قالها يسوع في بدء بشارته. المراد بهذا ان الملكوت حلّ بمجيء الملك أي يسوع. في الحقيقة ان الملكوت جاء بموته على الخشبة وأخذ الانسان يحبه اي اخذ الإنسان يرى الملكوت في جسد الناصري الممزّق. هل من ملكوت ممكن بلا ذاك الدم، هل نتكوّن من غير الألوهة المسكوبة؟

يقول علماء الكلام اللاهوتي عندنا ان الكنيسة نشأت منذ حلول الروح القدس على التلاميذ لمّا اجتمعوا في العلّيّة خوفا من اليهود فخرجوا منها يتكلّمون بألسنة أنزلها الله عليهم إذ إن لغتهم كانت، اذ ذاك، كلمة الله عينها فانتفت منهم عبودية اللحم والدم وما يُنتجانه من فكر، فباتت عقولهم عقل الله نفسه وقلوبهم غدت قلب الله. ملكوت الله يعني أن ليس هناك عبيد. «الذي يصنع الخطيئة عبد للخطيئة» (يوحنا 8: 34). يحلّ الملكوت اذا بطل العبد عبدا واذا صرنا جميعا ملوكا. هكذا صاحب سفر الرؤيا يرانا متوّجين في حضرة الإله الملك اي لم يبقَ المخلوق دون الخالق جلالا ولو بقيت المخلوقية دون الخالقية في الجوهر. المهم الجلال.

هناك موقع واحد في الكون يتّحد فيه الإنسان بالرب اتحادا كاملا وهو القداس الإلهي اذ تأكل انت جسد الرب ويأكلك فتصيران واحدا لا في فناء ولكن في حبّ. طبعا هناك مشكلة كبيرة بين المحب والمحبوب ولكن العقيدة تقول ان الله متعالٍ ولو كنّا اليه بمحبته لنا وبمحبتنا له.

# #
#

في أيّ مدى يمتدّ ملكوت الله؟ هل له حيّز او زمان؟ اول ما يتحتّم تأكيده ان السيّد لما قال: «توبوا فقد اقترب ملكوت السموات» عنى أن الملكوت جاء بالملك وفي الملك اي هو. الى هذا يقول المعلّم في لوقا: «ملكوت الله في داخلكم» أي ليس عندنا حيّز. واذا قال: «طوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السموات» في متى فيدلّ على حالة روحية تبدأ هنا بالحصول على الفضيلة التي تُلازم الميت بعد موته إن بقي عليها. وطبعا فوق ليس من حيّز لأن الله إن قلنا عنه انه في كلّ مكان نعني انه لا يحدّه مكان بمعنى أن مقولة المكانية لا تنطبق عليه.

سيادة الله هي التنزّه عن المكانية. والذين يتوفّاهم من موت لا ينقلهم الى موضع من مواضع سيادته فإن هذا تعبير في قداس يوحنا الذهبي الفم للدلالة على أن الألوهة تضمّ كلّ شيء اليها ولا شيء يتغيّر موضعه اذا ضمّه الله اليه.

انت في الملكوت تعني لنا انك ملكوتيّ اي ان الله سيّد عليك وفي أبعد رؤية أن ليس من مدى او من زمان فيك خارج عن سيادة الله عليك.

والزمان هنا لا يحدّ امتلاكك من الله. عندما نقول: «ليأتِ ملكوتك» لا يتضمّن هذا أنه ما أتى إنما يعني انه دائما آتٍ. فالمسيح «كان وكائن وسيكون». عندما يختم بولس الرسول رسالته الأولى الى أهل كورنثوس بالعبارة الآرامية «ماران أثا» مكتوبة بالحروف اليونانية المتلاصقة لا نعرف إن كتبها «ماران أثا» اي الرب أتى او كتب «مارانا ثَ» أي يا رب تعال. ترجيحي انه أراد فعل الأمر اي تمنّي عودة المسيح لأن هذا هو المعنى الوارد في آخر سفر الرؤيا (22: 17).

نحن اذًا في الملكوت الذي جاء بالمسيح ونحن ايضًا اليه اذ نطلبه في الصلاة الربيّة ونؤمن أنه يجيء الينا بالقرابين المقدسة اذ نقول عنها في القداس البيزنطيّ انها «كمال ملكوت السموات». كيف نقول ان هذه القرابين هي الكمال وبعد قليل نطلب أن نشترك بحضور المسيح الأول (إيمانا) وبحضوره الثاني (رجاءً). كل شيء على هذا الصعيد كان وكائن (مستمرّ) وسيكون.

# #
#

سؤال شغل اللاهوتيين المسيحيين. اين الكنيسة من كل هذا؟ هل هي الملكوت؟ هل الملكوت فيها؟ الجواب الذي أجترئ عليه أن الكنيسة التي هي جسد المسيح لها علاقةٌ ما بهذا الملكوت. ولكن الكنيسة ليست فقط جسد المسيح اي امتداد كيانه. انها ايضا بشر، مؤلّفة من بشر يتلقّون روح الله بمقدار وأحيانا يتلقّون قليلا منه. المسمّون مسيحيين، المعمّدون، أنوار ساطعة او ناس مُظلمون وكلهم بلا استثناء خطأة والملكوت غير منتشر في الظلام.

غير أن القداس يُقام في الكنيسة. هي ملكوت بمقدار ما تبتلع القداس او تأكله. فيها ملكوت يطارد الظلمة. الشيء الرئيس عندنا أن بيننا وبين المسيح تزاوُجا روحيا. وهذه الزوجية تمّت على الصليب بالدم ككل زوجية.

الى هذا فالعبادات عندنا تنشئ قديسين. هؤلاء القريبون من الكمال ساكن الملكوت فيهم بكثافة وهم حاملون إخوتهم الضعفاء العرج روحيا والمهشّمون والصُمّ والبكم روحيا الذين يرتجون شفاء المسيح. الكنيسة شعب الله اي ذاك الذي يُكوّنه الله بالكلمة. الكنيسة قائمة فقط من حيث ان الله بانيها ولكن الشيطان يهدمها ايضا ويقسمها ويفتّتها.

لك ناظرا اليها أن ترى فيها قباحات كثيرة، ولك أن ترى فيها جمالات. إن كان نصيبك أن ترى فيها البهاء الإلهي فأنت أسعد الناس، وإن وقفت عيناك على الأقذار تتعذب إن كنت مؤمنا.

حياتنا في الكنيسة فيها عذاب كثير. الوسخ دائم والتنظيف دائم، وهذا باقٍ الى الأبد. هناك دموع دائمة والمسيح وحده ماسح الدموع. يعزّيك قلائل. بعضهم تعزياتهم دائمة لأنهم أقوياء. نفوسهم تسكن في الخيرات وانت تذوقها إن كنت مؤهلا لهذا. عند ذاك، يتسلل اليك الملكوت.

غير أن الصدمات والخيبات تبقى نصيبك في أرض الأحياء. وإن تهشّمَتْ في كنيسة الله أعضاؤك تعرف أن الذي شفى العرج هو يقيمك من موت في دنياك لتفرح قبل أن تنقلك الملائكة الى السماء. وفي اليوم الأخير فقط تصبح الكنيسة هي العروس.

السؤال الثاني والذي يُقلق الحَرفيين وهم كُثر هو ماذا سيحصل بغير المسيحيين إزاء حقيقة الملكوت؟ نحن ليس عندنا فرقة ناجية وفرق هالكة. إلهنا إله رحمة واثنان او ثلاثة من الآباء قالوا انه سيلغي الجحيم ولكن احدهم حذر من نشر هذا التعليم. ما أجسر أن اقوله بانتظار الكشف الأخير أنني لا أخوض الآن حديث السماء وجهنّم ولكن حديث ملكوت الله اي سيادة الله على القلوب، والمسائل الأخيرية شيء آخر. انا حصرت نفسي في التحدّث عن سيادة الله على القلوب وفي تطهيره لها، وهذا شيء يختلف عن التكلّم على المعمودية. ما أَعلنه الله طريقا الى الخلاص اي ما جعله سرّا كنسيّا لم يقيّد به نفسه. انه يقيّد به الذين بلغتهم رسالة الإنجيل. اما الآخرون فهم له اي إنهم في تدبيره وفي حريته. لهذا قال احد آبائنا: «مَن لم تعمّده الكنيسة (بالماء) يعمّده عريس الكنيسة» اي المسيح، اي يكون من الفرقة الناجية إن أحببنا هذا المصطلح.

المسألة هي هل دخلتَ الملكوت في الحب او دخل اليك بالحنان الإلهي أكنت عضوًا في الكنيسة أم لم تكن. بكلام آخر يستطيع المسيح أن يجعل منك عضوا في جسده بمجرد اختياره لك. وهنا يستعمل بعضٌ عبارة «الكنيسة غير المنظورة».

من هذا المنظار أرى الى حبيبين لي خارج المسيحية بمعناها الشرعيّ وهُما رابعة العدوية والحلاّج والبعض من رفقائهم في الإسلام. قد أنظر بالعين نفسها الى غاندي الذي عقد عزمه أن يحب حتى آخر ذرّة في جسده.

الى هؤلاء وأولئك جميعا جمالات العالم وليس فقط جمال الناس. فالشعر العظيم في الملكوت او الملكوت فيه. لا أستطيع ان أسمّي كل السمفونيات ولا كل قطع الإنشاد البيزنطيّ والغريغوريّ ولا كل الأيقونات ولوحات أوربا والصين والنمنمات الفارسية. كل حنان الأمهات اللواتي لم يصطبغن بالماء المقدس، كل أنين الجائعين في افريقيا، هذا الشاب الذي يموت الآن من السرطان فيما أكتب هذه السطور، هذه كلها ملامح او تجلّيات الملكوت الإلهي.

سألني مرة صديق فيما كنا نواكب معا شخصا ارتحل: هل نسمع السمفونيا التاسعة في السماء. أجبته: ليس في السماء أصوات. نلتقط جوهر السمفونيا التاسعة.

الملكوت أشخاص يحملون معنى الله وحبه ومدلولات الكلمات المحيية في دنيا البهاء الإلهي النازل على البشر وصوَر الإبداع. هذا كان وسيكون حتى نلبس معا جلال الله.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

التواصل / السبت 7 تشرين الثاني 2009

إن الاتصال الحقيقي بين الناس والناس ليس بالأمر السهل كما يظن ازكثرون لأنهم لا يتكلّمون في الحقيقة لغة واحدة. واللغة ليست الكلمات التي معناها في القاموس الكلمة هي المعنى الذي فيك اي المرتبط بثقافتك ومشاعرك ومذهبك وتربيتك. القاموس ييسر التخاطب لأنه كتاب مصطلحات اتفق القوم على مدلولاتها. واذا تجاوزت الألفاظ المدلول الحسي فليس لها عندي وعندك الحدود نفسها او العمق نفسه وما بقيت على مدلولها من جيل الى جيل. ففي بيئة مثلا يطغى على الحب معنى الاستيلاء وفي بيئة يطغى معنى العطاء. فقد يصرح الشاب لشابة بحبه ويخامر شعوره معنى التسلّط ولا يخامرها هي معنى الانسياق اليه وقد يخالطها شعور الانصهار او الذوبان. الكلمات ذات ألوان او أنغام. ترقص عند بعض ولا ترقص عند بعض. تتجلّى او تعتم. تحيي او تميت. لذلك كانت الكلمة احيانا اداة فصل لا وصل.

في بدء الخليقة -حسب حكاية سفر التكوين- «كان لأهل الأرض لغة واحدة وكلام واحد». ثم أرادوا أن يبنوا لهم مدينة وبرجا رأسه في السماء اي انهم استكبروا حتى قال الله: «فلننزل ونبلبل هناك لغتهم، حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض». في الحقيقة هذا ليس حديثا عن افتراق الشعب وحسب. انه حديث رمزي عن افتراق الأفراد. لقد نشأ فينا الخلاف حتى بتنا غرباء بعضنا عن بعض.

هذا ليس فقط في اللغة اذ العالمون منا يستطيعون ان تتقارب مفاهيمهم اذا أحسنوا مطالعة القواميس. المشكلة لا تنتهي هنا. المشكلة ان تدمّر الآخر مع لغته. من هنا ان بعض المستعمرين رغبوا في القضاء على لسان شعب استعمروه اذ بلسانه يبقى هو اياه وتاليا يتحدى. في ظلّ الاستعمار العثماني للبلقان كان منع الأتراك للغة اليونانية جزءًا اساسيا من إلغاء الشعب اليوناني ومَن استشهد في اليونان كان سبب شهادته نضاله في سبيل الحفاظ على اللغة. ولذلك كان إحياؤها في ايّ بلد إحياء الذات القومية. اللسان الواحد كان التعبير عن الحب.

ان مجرّد الاستعمال للألفاظ الواحدة لا يوصلنا دائما الى القصد. ماذا حصل اذا ركبت الجملة حسب قواعد اللغة ومدلولات الألفاظ التي المعاجم حتى يفهمك الآخر خطأ. لعلّ هناك سهوًا او بغضًا لمحدّثك يدفعك الى تشويه ما أراد. لعلّْ هناك تأويلا لما قال بحيث تلزمه بمعنى لم يرده. اللغة ليست لغة. هي «حكمة وروح». وكما هما يدا الله الآب كما قال ايريناوس أسقف ليون هما كذلك عند الإنسان. والحكمة عندنا تواصل الحكمة والروح الروح. ويأتي التعبير أداة وصل او أداة فصل فاذا جاء وصلا تتم الوحدة بينكما بكلمات القاموس وبلا قاموس. الأدوات لها أن تزول اذا كان القلب الى القلب.

#   #

#

لا نستطيع ان ننفذ الى أعماق هذا التأمل ما لم نقبل قول «محيط المحيط» في شرحه للفظة لغة، قوله: «لا يبعد ان تكون مأخوذة من لوغوس بالينانية ومعناها كلمة». هذي قناعتي ايضًا. واذا عدنا الى مطلع إنجيل يوحنا «في البدء كان الكلمة» يليها «والكلمة كان عند الله» والحرف اليوناني الذي نُقل الى العربيّة «عند» يعني عندهم الى او نحو فيأتي المعنى ان الكلمة يتجه او يتحرك الى الله. واذا اسقطت هذا على لفظة الكلمة بمعناها البشري ينبغي ان نفهم ان الكلمة البشريّة لا قيام لها الا بصدقها، او بتحركها الى الحقيقة. ولكونها ليست دائما صادقة تولد على الأقل التباسًا وعلى الأكثر اختلافًا ولا يتمّ التواصل بين الصادق والكذوب ويأتي، اذ ذاك، الكلام سكاكين.

وفي معنى أظنه قريبا من روح اليوناني ان كَلَم فلانا تأتي بمعنى جرحه. والجرح ألم. لذلك ليس من نأي بين الكلمة وحقيقة الإنسان الطاهر الصافي. ما من بون بين ما تقوله وما انت عليه. وهذا هو أساس الشهادة باللسان كانت ام بالدم. فاذا حملت سمة النقاوة تنتقل منك وانت كليم اي جريح او متكلّم. تحكي حكاياك بلفظ او بغير لفظ ودائما بحب. الحب اذًا هو ينتقل وينقل وهو التواصل.

واذا شئت هو الوصال. نستعير اللفظة من المحسوس الى المعقول فكما يتوحّد الرجل والمرأة بالتراحم كما يقول القرآن يتواصل الإنسان والإنسان بالصدق والتواضع، ولا حاجة، اذ ذاك، الى اللغة. كان الجسد حاجزًا دون تلاقي الفكر والفكر فكانت اللغة لإحداث التلاقي واذا بها احيانا فصل وتقسيم ويزول بها الرباط وتتبلبل ازلسنة بسبب من الخطايا حتى ينزل من فوق ما يجمع الألسنة.

إزاء انهيار برج بابل ومدينته نقرأ في أعمال الرسل: «ولما جاء يوم الخمسين (اي اليوم الخمسين بعد الفصح) كانوا مجتمعين كلّهم في مكان واحد (ما هو ضدّ التشتت البابلي)، فخرج من السماء دوي كريح عاصفة، فملأ البيت الذي كانوا فيه. وظهرت لهم ألسنة كأنها من نار، فانقسمت ووقف على كل واحد منهم لسان. فامتلأوا كلّهم من الروح القدس، وأخذوا يتكلّمون بلغات» (2: 1-4).

قراءتي لهذا ان اللسان الذي تكلّم به كل من التلاميذ كان مرآة للسان الناري الذي كان عليه. انت تتكلّم من نار او لست على شيء وهذا يتطلّب استعمال لسانك وشفتيك او لا يتطلّب شيئا محسوسا اذ ينطق قلبك. اذ ذاك، يكون التواصل وصالا.

#    #

#

السماء ليس فيها لغة لأن المتألهين فوق تمم كل منهم وحدته بالله والله هو وصل لا يحتاج الى أداة. هم ينظرون الى الله اذ يرى كلّ منهم على وجه الآخر ارتسام الرب.

نحن نتسطيع هنا أن نقلّد السماويين اذا صارت اللغة حجازا بيننا وبين الآخر. نحبّه وونجعل لغتنا حاملة نورًا اذا سمعت لفظًا ام لم تسمع.

قال مكسيموس المعترف المستشهد في القرن السابع في امبراطورية الروم وهو المولود في الجولان ان كلمات الأنبياء كانت تجسيدات لله. هذا طبعا صورة. ولكنه، مسيحيا شرقيا، كان يعرف ان الصلاة المثلى المعروفة بدعاء اسم يسوع لها ان تصير صلاة القلب اي تُرفع بلا كلمات. فتراثنا ان النساك خارج قداس الأحد لما كانوا ينسكون في البراري أكملوا صلاة القلب اي استغنوا عن كلمات الصلوات المعروفة لديهم. ويحكى في هذا الأدب ان رهبانا سألوا مرة شيخهم ان يكلّمهم فأجابهم «ان لم تتعلّموا من صوتي كيف تتعلّمون من كلماتي».

أنت تصمت ليتكلّم فيك الله فتختزن عقله وينحتك من الداخل. واذا صار فيك هذا حقًا تصير نورا ويكون هو كلمتك لذلك سمعت احد الواعظين عندنا يقول وهو في حالة حماسة: «اذا صرتم أناجيل (حية) فمزقوا الإنجيل المكتوب». اجل نتابع الكتب المقدسة حتى لا نغر بأنفسنا ونحسب اننا كملنا ولكن توجيه ذاك الواعظ كما أدركته ان الغاية من الكلمة الصمت. قال آباؤنا: لقد خرج الكلمة (الابن الأزلي) من صمت الآب. وهو يرسل نفسه كلمة فيك بالروح القدس الذي يجعلك كاتبا لاهوتيا او قديسا غير كاتب. والقديس، حسب سرد رهباني عندنا، اذا رفع أصابعه امام المؤمنين يرونها شموعا عشرا وهذا يكفي ليتعلّموا. تلك هي قمّة التواصل.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

بين الدين والدنيا / السبت 31 تشرين الأول 2009

كلّ شعوب الأرض تعرف بَونًا وتوتُّرًا بين ما أسمّيه الدهر الحاضر والدهر الآتي او ما يسمّيه المسلمون الدنيا والآخرة. ومع تأكيد الأهميّة الكبرى للدنيا في الإسلام (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) يقول القرآن: «ولَلآخرة خير لكم من الأولى» (سورة الضحى، 4).


في المسيحية هذه الإشكالية من الدقة في مكان لأن ما تسمّيه الحياة الأبدية تبدأ هنا والجسد لا يفنى عند اندراجه في السماويات عند اليوم الأخير، واذا صحّ ما يقوله علماء الإسلام انه دين ودنيا فلا أساس لما يُقال عن المسيحية انها دين لا دنيا فيه اذ الصحيح انها دين في الدنيا ليس في المسيحيةمن روحانيات تسبح في السماء ولا علاقة لها بأهل الأرض.

حتى في النظام الشيوعي كان هناك ما يشبه الآخرة اي مسافة بين الوجود السياسي والمثال الأعلى في السياسة اي كان هناك نوع من الآخرة او من المرجوّ وقيل انه الفردوس المفقود. واختزالا ساغ القول التبسيطي إن قيامنا على الأرض أرضيّ فقط او أرضيّ يطمح الى السماء. السؤال هو هل اذا كنت على الأرض انت منها أَم انت فيها ولست منها لأنك ربوبيّ؟

هذا في البلدان «الراقية» التي تميّز بين ما هو للدولة وما هو للدين الذي تعتبره قناعة شخصيّة. المسألة تزداد تعقّدًا في بلد كلبنان حيث المجموعات الدينيّة اي الأخروية أصلا وامتيازا هي التي تفعل السياسة. السؤال فيها هو ما هو لله وما هو لقيصر، وهل التفريق ممكن بينهما في نظام كهذا؟ هل الجماعة الدينية لها أن تقف كدويلة إزاء البناء الوطني الجامع الذي هو الدولة الحالمة باستقلالها عن الدويلات. هل هذه الجماعة هاجسها أساسا وأولا أن تطلب الله وتسعى اليه أَم ان إلهامها آخر. ان تثبّت قدميها في الأرض بنوع من التواصل او الاتحاد بين ما هو أخروي وخلاصي من جهة وبين ما هو من واقع الوجود السياسي من جهة.
# #
#
لفتني مؤخرا فيما كنت ادرس بعض الحركات السلفية غير الجهادية أنها تأخذ على بعض المراجع اهتمامها بالسياسة كأن النزعة الأخروية فيها تقوى على نزعة المسيرة السياسيّة. ولكن من الواضح في العالم المسيحي، مأخوذًا بجملته، أن ليس فيه اعتزال العالم. هذا جهل عميم في العالم العربي لطبيعة الرهبانيّة وجهل يبدو الآن في الأوساط المسيحية التي لم تذق نكهة الرهبانية. يقول القرآن في سورة الحديد ان الرهبانية ابتغاء رضوان الله. واذا كانت المسيحية أصلا وكُلاً ديانة التجسّد، معنى ذلك انها شاهدة في العالم وإن ابتعد حاملوها جغرافيًا عن المدن.

غير ان هذا البعد لم يبقَ ممكنا في العالم الحديث حيث يلحق بك الإسمنت الحديد الى كل مكان. لم يبقَ دير واحد في الصحراء اذ لم يبقَ الا الصحراء الكبرى في افريقيا. الرهبانية ليست عزلة بل تركيز على التطهّر الذاتي ابتغاء طهارة الجميع وقداسة العالم.

ليس المجال هنا لأذكر بأن الرهبانية الغربية لها الفضل الكبير في تعمير اوربا، وبأن الرهبانية الروسية بنت كل روسيا القديمة مدينة مدينة انطلاقا من كييف. والمسيحي المتزوّج عندنا راهب في القلب اي يعفّ عن شهوات الدنيا كالراهب. الناس كلهم، رهبانًا كانوا أَم غير رهبان، ليس عندهم عصمة، وأعلى سور لأي دير، يقول كيركيغور، تقفزه الخطيئة.

واذا بقينا في المجال السياسي أذكر بأن تنظيم سويسرا الذي أنهى فيها حروبا طويلة هو وضعُ راهبٍ عظيم وفكر المتقدسين او المتألهين أفعل في فضاء السياسة من فكر سياسي متحذلق، مصلحي، دنس احيانا. دائما ألحظ أن وراء انتقاد الرهبنة كفكر او مؤسسة نكران لفاعلية الصلاة والفضائل المفروض أنها تشعّ وراء أسوار الدير وخارجها.

# #
#
من الوصف الذي ورد لا يسعني الا أن أقول ان الطائفة -وهذه رؤية مسيحيّة- دينية اولاً وان دنياها تأتي من دينها اي من أخرويتها، ولا تكون دنيوية اولاً وتصطبغ بدين ما. الدين ليس قشرة اولية دينها طابعها الأول ويتبعها الطابع المدني، وإن لم يكن هذا الطابع الأول تعيش في نوع من التشويش بين روحانيتها وانتمائها الى العالم، وبتشوُّش صفة رئيسها الروحي. انت لا تستطيع ان تكون موجّها روحيا ورئيس قبيلة في آن، اذ لا يصحّ فيك، عند ذاك، اعتقادك ان «الآخرة خير لك من الدنيا» او لا يصح فيك قول يسوع الناصري: «مملكتي ليست من هذا العالم».
ان هذه القولة للمسيح لا تعني رفضا للوجود السياسي، هذا الذي اعترف به المسيح اذ قال لبيلاطس: «لم يكن لك عليّ من سلطان لو لم يُعطَ لك من فوق». هذا تأكيد لاعترافه بسلطان الوالي الروماني، ولو تضمّن انقياد الوالي الى قتل يسوع. في الزمن تشابكات لا بدّ منها وليس في اللاهوت الشرقي ما يدلّ على وجود سلطان روحيّ يأتمر به السلطان الزمني.

الجماعة الدينيّة تعيش في مجالين: مجال الحياة الروحية (الإيمان، العبادات) والحياة الوطنية التي تنبع من المواطنين جميعا الذين تمثّلهم الدولة. وليس من اختلاط في نفس المؤمن بين المجالين. ولكن المؤمن الحق يأتي من ايمانه الى الدنيا ويُشرق إيمانه عليها. غير ان الكنيسة العارفة بوجودها في الأرض عارفة ايضا بوجودها في الملكوت وتقيم فيه فيما تتعاطى الشأن الوطني.

هنا يوضح الاختبار الأرثوذكسي والفكر الكاثوليكي معا أن المسؤول الروحي حتى لا يطوّع مجالا لمجال يتعاطى الشأن الروحي اولا وأساسا والعلمانيين مولجون بالشأن الزمني. اجل هناك جوانب أرضيّة في الحياة الكنسية (مال، عقارات وما الى ذلك). هنا يقول القانون الكنسي القديم عند الأرثوذكس ان الأسقف فور تسلّمه كنيسته يعيّن «مدبرًا» للشؤون الزمنية ولو أشرف هو عليه كما يشرف على كل شيء. والمدبر له حياته الروحية ويستلهمها لإدارة الجوانب الدنيوية، ولا يقول القانون انه يدير الشأن السياسي ولا ذكر في تراثنا ان الكنيسة من حيث هي تتعاطى السياسة بصفتها كنيسة وان كان أهلها يستلهمون ايمانهم ومحبّتهم وإخلاصهم ليرعوا شؤون الدنيا بمنطق الإنجيل من جهة وفي حكمة هذا العالم من جهة.

أعترف أن هذه الثنائيّة صعبة ولكن نواجهها بحكمتين: حكمة الله وحكمة الدهر الحاضر. نحن نعيش في دهرين عالمين ان الحكمة الإلهية فينا تسيطر على حكمة الدنيا التي هي ايضا فينا. ما هو فوق في نفوسنا يوجه ما هو تحت فينا، ويبقى الله أعظم من نفوسنا في ما يبثّه الى فوقياتنا والى تحتياتنا والحياة مسعى الى الرؤية.


Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الكاهن المقبول / السبت 24 تشرين الأول 2009

الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية لم تنشئ كليات لاهوت إلا في القرن السابع عشر عندما لاحظت أن القسس الإنجيليين يعرفون الكتاب. قبلاً كان المدعوّ الى القسوسية يتدرب عند كاهن الرعية فيعلّمه العبادات وما كان يعطيه فكرا. فهمنا بفضل البروتستنتية أن القس عندنا حامل لاهوت اذ تقول الرسامات انه «خادم الكلمة». فظهرت، اذ ذاك، مدارس تنقل الكلمة موزّعة على مواد مختلفة: العقائد، الآباء ، العبادات، تاريخ الكنيسة، الرعاية وما إلى ذلك. غير أن الكنائس ما كانت كلها مهيّأة للقيام بهذا التعليم اذ كان يعوزها من يعرف هذه العلوم و/او كانت فقيرة. وسرعان ما فهمنا أن التقوى أساس هذه العلوم وأن شخص المدعو الى الخدمة ينبغي ان يكون ورِعًا ورساليًا.

قبل بلوغ عتبات اللاهوت يكون هذا الشاب قد أنهى دراسته الثانوية على الأقلّ، والأعظم فائدة أن يكون قد أكمل دراسة جامعية وقد يعرف فيه شيء من سلوكه. واذا أكمل كلية اللاهوت على مختلف درجاتها (الإجازة الحد الأدنى) يعطى شهادة تفيد عن مستواه النظريّ وذكائه ويرفق بها تقدير الأب الروحيّ الذي يفيد عن قابليّته للكهنوت فإذا لم يُعطَ هذه الإفادة يكون باب الكهنوت مغلقًا دونه.

هذا لا يعني حتما أن الأسقف يقبله في مصفّ القساوسة. حكم المطران في أهلية هذا المجاز للكهنوت هو الأخير. والمطران له أن يستبقي عنده هذا المجاز في اللاهوت او يرسله الي دير يتروّض فيه لفترة او حسب عرف الكنائس الشرقية او حقّها القانوني يطلقه الى الزواج اذا قرّره الفتى ويحكم بعد زواجه بفترة إن كان مستعدا لاقتبال الكهنوت.

قبل هذا التنظيم العلميّ والتأهل الروحيّ كانت الرعية في بعض الكنائس تقدّم للأسقف من ترى فيه خصالا حميدة. يبقى حسب القوانين القديمة أننا لا نستطيع أن نفرضه على رعية تعرفه وتأباه. ولكن بعد إنشاء المعاهد اللاهوتية العليا أخذ الأسقف يعرض على الرعية من رآه مستحقًا فتقبله فعليا.

على رغم كل هذه الشروط قد يخطئ الأسقف الخيار. عند ذاك، يرعى الكاهن بمحبته ورقابته والقانون الكنسيّ بعد أن تمّ الخيار.

هذا هو الإطار وهذا هو التدبير لشعبنا.

# #
#
أمام هذه الآفاق بقي المسيحيون يصرّون على نقاوة الكاهن وطهارة سلوكه عند مجيئه. هذا أمر قد يتضح كثيرا عند اقتبال الرجل واندراجه في مصف أترابه. وهذا لا مزاح فيه على الإطلاق لأن الكاهن يقول لرعيته قول بولس: «تَشبّهوا بي كما أتشبّه انا بالمسيح» ( 1كورنثوس 11: 1). هذا هو الراهن أن الكاهن السيء يُفسد الرعية او بعضا من الرعية لأن المتألهة نفوسهم وعقولهم لا يؤذيهم احد. ولكن المغامرة لا تجوز إن أحسسنا على صعيد أخلاق الرجل أن ثمة مغامرة.

إن وجب على كنيسة الأرض أن تكون على صورة كنيسة السماء اي مغذّاة بالحياة الأبدية فرفض المرشح السيء أبسط هدية يقدّمها للرعية راعيها. فالكثيرون يحكمون على الكنيسة من رؤيتهم لرعاتها والبعض يتركون الصلاة بسبب من القيّمين عليها. تَشدّد الأسقف عند الرسامة هو الضمان الوحيد لاختيار انسان وقور والوقوف امام الضغوط التي تمارسها فئات عديدة وأهمها السياسيون.

هذا لا يعفي الرئيس الروحي من تقوية الكاهن عند ضعفاته. كل منا في حاجة الى من يشدّده في الإيمان وفي حياة الصلاة، في النضال من اجل اكتساب الفضائل الإنجيلية. ويبقى كلّ منا في جهاده حتى يقبضه الله في رحمته.

غير أن حياة الصلاة في الكاهن لا تُغنيه عن المعرفة. هنا لا أتكلم على الذوق الإلهي الذي ينسكب علينا من أداء العبادات. فنصوصها لمن مارسها سنين طولى ينبوع حياة ولكن لا شيء يحرّرك من دراسة الكتاب الإلهي والتراث دراسة جديّة. «اعكف على القراءة حتى مجيئي» (1تيموثاوس 4: 13). واذا كانت المعرفة الكبرى وزنة سلّمها الله الينا لننير بها الناس فنُسأل عنها في يوم الدين.

القول انه يكفينا كاهن «طيّوب»، مفتقد للعائلات وقائم بالخدمة الإلهية قول يُبطن أننا لسنا في حاجة أن نعلم كل ما يمكن علمه. آن الأوان ليفهم شعبنا أن الإيمان يحتاج الى توضيح والى أن نعقله لندافع عنه بالفم كما نشهد له بالحياة الطاهرة.

اجل ليس من انسان في العالم قرأ كل كتب آبائنا، وليس من كاهن رعية عديلا لأي كاهن آخر في المعرفة، ولكن ثمّة معلومات أساسيّة يطلبها المؤمن حسب قول بطرس: «كونوا مستعدّين لمجاوبة كل واحد على رجاء الثقة التي فينا» (1بطرس 3: 15). غير أن كل مطّلع من القسس يعرف زميلا له أكثر اطّلاعا على بعض المواد.

لذا لا بد من المشاركة بين العارفين. غير أن من تغاضى عن الأساسيات لا يقدر ان يواجه العلمانيين بما يطلبونه من هذه الأساسيات.

وهنا لا فرق بين كاهن المدينة وكاهن قرية صغيرة اذ صارت القرى عندنا مدنًا مصغّرة فيها مثقفون. تأسيسا على هذا عندنا اليوم في الكنائس كهنة حملة دكتوراه في كل مكان. ولا نرى احدًا منهم يستعلي بسببٍ من علمه.

والثقافة الدينيّة عند المسؤولين تتطلّب من الكاهن مطالعة دائمة. الكاهن انسانٌ قَرّاء على مدى الحياة ليس فقط ليفرح ولكن ليعطي.

وما يوجب ذلك بنوع خاص أن الكاهن واعظ احترافا. والموعظة حتى لا تكون رتيبة تتكرر هي اياها في الموسم ذاته تضطرّك الى أن تغذّي فحواها بما تُطالع في كل مجالات الإلهيات مع التأكيد أن كتب التفسير الكتابي هي السلاح الدائم للخطيب. اجل هذا يقتضي ان تقوم بالتفسير بما يقتضيه الموقع والعصر.

الكاهن الوقور المُحب لشعبه يطمح الى القداسة والمعرفة معا حتى يبقى ينبوعا زاخرًا لهؤلاء الذين أُوكلوا اليه ليصيروا على صورة المعلّم الإلهي.


Continue reading