هذا هو العنوان العربي للكتاب الذي وضعه طريف الخالدي اصلا بالانكليزية وصدر عن دار النهار معربا. ما هي صورة المسيح عند عدد من كبار العلماء المسلمين من بعد القرآن، هذا الهدف يضع الكتاب في لاهوت الأديان المقارن ومقاربة هذا العلم هنا مقاربة تناضح بين الإسلام والمسيحية من بعد التنزيل القرآني.
الدكتور الخالدي يأتي بـ300 حديث وحديثين منسوبة الى عيسى ذكرها مفسرون ومؤرخون ومتصوفة ويقدم لها ويشرحها بذكر مصادرها فيورد مثلا هذا الحديث عن عيسى. «ان الإحسان ليس ان تحسن الى من احسن اليك، انما تلك مكافأة بالمعروف. ولكن الإحسان ان تحسن الى من اساء اليك» وينسب هذه القولة الى احمد بن حنبل في كتاب الزهد والى ابن عساكر ويدل على الصفحة والأرقام وأخيرا يشهد ان هذا الخبر هو إعادة صياغة لما في انجيل متى 5: 46. احاديث جميلة معظمها مأخوذ من العهد الجديد مسكوبا بلغة الناقل. ما من شك ان هناك اقوالا اخرى لعيسى عند المسلمين ولكن عندنا هنا نماذج للروحية الإسلامية التي تعتمد القرآن قليلا في سرد سيرة عيسى واعتمدت الأناجيل القانونية كثيرا واحيانا قليلة نصوصا وردت في مصادر اخرى يحاول الخالدي ان يثبتها. ان اهتمام العلماء القدامى بالمسيح يسوع تفسيره بقول الإمام الغزالي عنه انه «نبي القلب».
من يقرأ كل هذه النصوص التي استخرجها المؤلف نماذج عن اهتمام المسلمين بالمسيح من ضمن تصورهم اللاهوتي يستدل على انهم كانوا في حاجة الى حب. ما طلع علينا به المؤرخ الصارم الخالدي باحثا هو أدب حب ليسوع الناصري وتبقى امينة للارثوذكسية القرآنية. جل ما يمكنني ان افعله في سطور قليلة كهذه ان اقول لك: إقرأ تلطف بما سوف تقرأ. اقرأ فيزداد ودك للناصري كائنا من كنت.
عندما تطلع على مراجع هذا المصنف أكانت إسلامية ام استشراقية ومبلغ التعب العلمي الذي بذله الكاتب لا يسعك الا ان تكبر الجهد. وكيف لا تكبّر اذا طالعت المقدمة التي وضعها الكاتب بتقنية علمية كبيرة وهي تكشف لك اننا امام بحث أكاديمي صرف لا يرتهن باية عقيدة ولكنه لا يخون عقيدة. يعترف بفضل من سبقه بما في ذلك المستشرقون. يعرض في «الخلفية التاريخية» من المقدمة ان أصول صورة المسيح القرآني هي من الأناجيل المنحولة او من الفرق المسيحية المنحرفة او من المسيحية المهودة. في قراءتي للكتاب لا يبدو ان الدكتور الخالدي يبت هذا الأمر وتفلت من المأزق بقوله ان الأهم هو «فهم افضل للنص (القرآني) من خلال نصه وسياقه» فيما يؤكد على «التنوع المسيحي» في ما يعرف اليوم بالعالم العربي.
ردة فعلي على هذا الرأي الأخير ان تعدد الكنائس لا يتضمن خلافا حول ألوهية المسيح وناسوتيته وصلبه وقيامته وان كانت العلاقة بين اللاهوت والناسوت فيه جاءت في غير قالب لفظي لم يؤثر على الإجماع المسيحي الدائم على اجتماع اللاهوتية والناسوتية في المسيح. السؤال الذي يطرح نفسه أكاديميا، تاريخيا على اساس النصوص هو هل ان السرد القرآني يلتقي مع الأدب الإنجيلي المنحول او هناك تطابق شبه نصي بين نصوص قرآنية والسرد المسيحي المنحول. على سبيل المثال نجد في متى المنحول ما يطابق في المعنى قول القرآن: «اني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طير بإذن الله» (سورة آل عمران، الآية 49). هل تأثر القرآن بهذه الكتابات التي لم تقرها المسيحية ام لم يتأثر؟ العقل الغربي النقدي يقول انا اطبق قواعد الأدب المقارن ولا افهم موقفا الا مأخوذا عن موقف اذا كانا متطابقين. انت لك ان ترى ان القرآن موحى. الخالدي لا يتطرق الى ذلك ولست انا اتطرق الى ذلك. ولكن اقل ما يقال في الأمر ان القرآن نزل في بيئة كان المسيحيون فيها يطالعون -على رغم توصيات الكنيسة- هذا الأدب.
كذلك نجد شبها بين سورة اهل الكهف وأصول مسيحية قديمة بعضها هرطوقي كما نجد عظة ليعقوب السروجي في المخطوطتين 115 و117 من مكتبة الفاتيكان تحوي حكاية سبعة نائمين في افسس لجأوا الى كهف هربا من اعدائهم الوثنين وأفاقوا بعد 196 سنة. كيف نفسر هذا الشبه مع القرآن؟ ليس في منطق الاستاذ الخالدي ولا في منطقي ان نخوض هذا.
في المحطة الثانية للمقدمة يؤكد المؤلف ان القرآن ينفي صلب المسيح وينفي ان يكون هذا مأخوذا عن بدعة الرائية «وهي من الجذر اليوناني ذوكيو بمعنى يتراءى او يبدو وهذا عنده يقابل التعبير القرآني الدقيق «ولكن شبه لهم» ويرد الخالدي ان استمداد هذا الموقف من الذوكية مستحيل لأن مسيح القرآن «انسان من لحم ودم» وكان في مذهب الرائية مجرد خيال. انا اوافقه في ذلك. ولكن لا يذكر الدكتور الخالدي القديس إيريناوس الذي دحض بدعة تقول ان سمعان القيرواني هو الذي صلب جهلا وخطأ بعد ان تغيرت هيئته وصار شبيها بيسوع فيما تحول سمعان الى هيئة يسوع وأخذ يسخر من الرؤساء». ما من شك عندي ان تفسير كبار المفسرين المسلمين «شبه لهم» بأنها تعني بديلا عن المسيح في الصلب تستند الى الأدب المنحول. وفي اعمال يوحنا المنحول ورد: «لست انا ذاك هو الذي صُلب… لم أعانِ ايا من الآلام التي نسبوها الي». وشيء عند كيرنثس الغنوصي الذي يفصل بين يسوع والمسيح ان يسوع «قد تألم ومات وقام من بين الأموات. اما المسيح فهو كائن روحي غير قابل للآلام. لذلك ترك المسيحُ (بضم الحاء) يسوعَ (بفتح العين) وصعد الى السماء».
ولكن هل يجزم القرآن حقا بعدم صلب المسيح؟ الآيتان المتعلقتان بهذا هما الآيتان 157 و158 من سورة النساء: «وقولهم (اي اليهود في رد القرآن عليهم) انا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لغي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله اليه وكان الله عزيزا حكيما». ما معنى «شبه لهم»؟ اوّل المفسرون جملة «شبه لهم» على شبه المسيح ألقي على رجل آخر فصلب هذا الآخر. الصعوبة الأخلاقية في هذا ان الله عاقب انسانا آخر على ذنب لم يرتكبه. الصعوبة الثانية هي ان المسيحيين ظلوا طوال 600 سنة ونيف ضحية لخدعة الهية. اما الصعوبة الكبرى فكون انجيلين ثلاثة من اصل اربعة كانوا شهودا عيانا على مسيرة الصلب. انسان قبض الرومان عليه وقادوه من قضاة اليهود الى بيلاطس البنطي الوالي الذي حكم عليه بالصلب وسلمه الى الجند الذين كانوا حريصين على تنفيذ الحكم وقيادة الرجل الى خشبة الصليب. رواية الحل الاستبدالي غير مقنعة. وقد كتب بولس الرسول حوالي عشر سنين بعد الصلب عن الصلب في رسالته الاولى الى اهل كورنثوس بعد تقصيه الخبر من الجماعة.
ثم تساءل الزمخشري في القرن السادس الهجري حول فكرة البدلية حول ما يشير اليه فعل «شبه» اذ يكتب: «فإن قلت (شبه) مسند الى ماذا، ان جعلته مسندا الى المسيح فالمسيح مشبه به وان أسندت الى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر. في القرن السابع الهجري طرح فخر الدين الرازي سؤالا يتعلق بما قد يحصل لو ألقي شبه رجل على رجل آخر. فقال: تنتج عن ذلك مشكلتان «اولاهما ان هذا يفتح باب السفسطة حتى يتعذر إثبات اي قاعدة اجتماعية كالزواج او الملكية مثلا. كما ان ذلك لا بد ان يؤدي الى القدح في شهادة التاريخ او التواتر».
ثم يفسر ابن قتبة على ان الجملة (مالهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقينا) على انها تعني لم يقتلوا ظنهم باليقين. ويفسر الطبري ان الهاء في قوله «وما قتلوه» عائدة على الظن اي انهم لم يقتوا ظنهم يقينا».
هذا يقودنا الى ان القرآن لا ينكر موت المسيح ولكنه يتحدى البشر الذين ضللوا انفسهم بجهالتهم حتى اعتقدوا انهم سينتصرون على كلمة المسيح. الى هذا عندنا «اني متوفيك ورافعك الي». لقد دارت مساجلات كثيرة في الإسلام حول معنى «متوفيك» فقيل انها لا تدل حتما على الموت وقيل ان التوفي لا يفيد بالضرورة انه سابق للرفع. ولكن المعنى المباشر البسيط هو ان الله توفى مسيحه ثم رفعه من الموت. فتكون آيتا الصلب على غموضهما تعنيان ان اليهود على خطأ لما اعتقدوا انهم يقضون على عيسى ورسالته بالقتل والصلب ولما استطاعوا ذلك. «شبه لهم» انهم قضوا عليه ولم يقدروا ان يفعلوا ذلك.
النقطة الأخرى عند الخالدي ان القرآن ينبذ معتقد الثالوث الأقدس واستشهد بالآية 116 من سورة المائدة: «واذ قال الله يا عيسى ابن مريم أانت قلت للناس اتخذوني وامي الهين من دون الله» حتى آخر الآية. عندي ان هذه الآية لا تعني شيئا ضد الثالوث لكون المسيحية لم تؤله مريم لا في الكنيسة المستقيمة الرأي ولا في بدعة مسيحية. قد توجد آيات ظاهرها ضد الثالوث ولكنها منسوبة الى النصارى. من هم النصارى؟ هل هم المسيحيون اتباع الكنيسة ام انهم المسيحيون المتهودون الذين كانوا منتشرين في الجزيرة ومنهم ورقة بن نوفل؟ ما يظهر ضد الثالوث لا يقول به المسيحيون بل تقول به هذه الفئة من المبتدعين.
في محطة ثالثة يتطرق المؤلف الى المسيح في الإنجيل الإسلامي ليمهد لنصوص العلماء المنشورة في الجزء الثاني ولعل اهم ما فيها ان الإنجيل لم يكن معروفا بالعربية في عهد الرسول العربي واعتماده في ذلك ان ليس عندنا مخطوطة للإنجيل قبل القرن التاسع. طبعا هذا لا يعني شيئا لأن الأقدمين لم يكن عندهم تقديس للمخطوطات فتتلف او تحرق. فالعهد القديم ليس عندنا منه مخطوطة الا سبعة قرون بعد الميلاد. أيعني ذلك ان العبرانيين ما كانوا يقرأونه؟ الى هذا يشير هشام الكلبي الى راهب في اليمن كان يتلو الإنجيل واورد ذلك عرفان شهيد في كتابه (بيزنطية والعرب في القرن الخامس) ان وجود قبائل عربية وبعضها ذات حجم كبير كتغلب يدل ان القسس كانوا ولو تلوا الإنجيل بالسريانية يعظون العرب بالعربية وان الفحوى الأساسي للإنجيل كان متداولا. ولكن من الواضح جدا عندي ان النص القرآني ليس صدى للأناجيل القانونية. ولعل هذا يفسر عطش علماء المسلمين الى هذه الأناجيل كما اتضح من ايرادهم قصصها.
لم يبق من مجال لاختصار ما تبقى من المقدمة. انها تحاول ان تبين كيف تأسلم الإنجيل في اوساط المسلمين المتأخرين عن فجر الإسلام. اظن ان الحصيلة الروحية الخارجة عن الأكاديميات الصارمة تبيان المؤلف ان عيسى هو نبي القلب.
Continue reading