حول تعميد الأدب والفن / دير مار جرجس – الحميرة / 26- 8- 1991
لا بد أن نحيط بكلمة الشهادة أن نحاول تحديدها. كذلك لا بد من أن نحيط بمفهوم الفن لكي نرى العلاقة الممكنة بينهما. قد أشتم من هذا العنوان كما وضع أن أصحابه يريدون أن يسخر الفن والأدب لتبليغ رسالة يسوع. هذا المسيحي موجود فنيًا وشعريًا لذلك هو مكلف بتأدية الشهادة للسيد في المجال الذي يظهر به. ربما كان هذا كامنًا في عقول الذين صاغوا هذا العنوان. ولهذا لا بد لنا من ان نعرف الشهادة ونعرف الفن لكي نرى إمكان اللقاء بينهما.
لقد بينت في دراسة لم تنشر في هذا البلد أن الشهادة –خصوصًا في الكنيسة الأرثوذكسية- هي نفسها القداسة. ليس هناك قداسة إلى جانب وعلى حدة وكهذا على حدة. من الطبيعي أن نؤكد في الشهادة على أنها كلامية ، على أنها تبليغ الإنجيل، ليس فقط هذا، ولكن هي الإشعاع بنور المسيح. مضمونها وزخمها (القداسة)، السير إلى الله والغلبة على الأهواء وإدراك ومحاولة إدراك الجمال الإنجيلي. هذا نفسه هو الشهادة. يمكن أن تكون صامتة. وكثيرًا ما كان القديسون صامتين أو عاجزين عن الكلام. ليس من المفروض على الإنسان المتقدس أن يعرف الكلام. هذا ليس ضروريًا. يستطيع القديس أن يكون بائع خضار أو حمالاً في الرفأ. ليس من إرتباط بين القداسة والكلام. كثيرًا ما يكون الإنسان صامتًا لا يعرف أن يعبر.
ولكن قد يعبر كلاميًا ويتكلم عند ذاك بما يعلم ويشهد لما رأى وهو يكشف الثالوث المقدس.
إذًا نحن في الشهادة مع مقولة الحياة في المسيح ومع قدرة التبليغ في الكلام. هذه القدرة آتية من كون المؤمن يرى المسيح كما قال هذا الرسول الثالث عشر الذي إختير بعد خيانة يهوذا، وكان المفروض أن يختار من كان معنا منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي صعد الرب إلى السماء ليكون شاهدًا لقيامته. فالشاهد المسيحي هو الذي يبلغ في حياته وأحيانًا في كلامه عن زخم القيامة به أي تحويل القيامة بحياته. هذه هي المرحلة المهيأة لشهادة الدم إن طلبت.
نحن إذًا في الشهادة مع حالة وجدانية، مع حالة تقديس. غني عن ألأمر، غني عن القول إن الشهادة نعمة تأتي من فوق ، ولا علاقة لها بأية موهبة طبيعية. أؤكد على هذا أنها هبة إلهية. والمواهب الطبيعية لا تنفع فيها. قد تستخدم وقد لا تستخدم. كيف نأتي من الأله الذي هو الآخر بالكلية؟
أما الفن فهو موهبة طبيعية موجودة عند هذا الإنسان أو ذاك. كما ان الصوت الجميل الرخيم هو مجرد وضع للأوتار الصوتية -وضع بيولوجي بحت- لا علاقة لله بالصوت الجميل. فلا نخلط نحن بين المواهب القائمة في الطبيعة والمواهب التي تأتي من الروح القدس.
ما الفن؟ هي رؤية لهذا الكون غير الرؤية القائمة عند الكثير من الناس. إذا أتينا مثلاً بفلاح من هذه المنطقة إلى هذه القاعة فكل ما يرى فيها أول كلمة يقولها: هذه قاعة تسع لثلاثمائة شخص وعملنا لهم فيها سفرة فيأكلون فيها وأنها مؤلفة من حجارة قوية صامدة وينتهي عند هذا. ليس له علاقة بجمال القاعةز ربما البعض عنده شيئ من التحسس الجمالي، ولكن إذا أتى مهندس معماري يقرأ هذه القاعة قراءة خاصة به. ينتقل من هذا الجمال. ما نسميه جمال هو قراءة. هو لقطة. هو قراءة خاصة لإنسان معين.و بمجموعة بشر. ولكن هذا خروج عن الواقع الإلزامي، عن الواقع الجامد. من هنا تتبينون مثلاً الفرق بين صورة فوتوغرافية وبين صورة فنية. لا يمكن أن تكون لوحة فنية مطابقة % لصورة الآلة الفوتوغرافية. فالآلة الفوتوغرافية إذا إستعملت بطريقة تبرز أن لهذه القاعة أبعادًا مختلفة من النور والطول والعرض قد تقرب الصورة الشمسية من اللوحة. ولكن الفن يبدأ إذا إنتفض إنسان وترجم الواقع إلى شيء آخر. في الفن نحن مع تحول دائمًا وإنتقال. اذًا الفنان يأخذ شكل مادة هذا الكون التي تكون اساسًا بلا شكل ويجعل لها شكلاً آخر. بالعين المجردة أنتم تشاهدون هضبة أو جبل أو غابة وما إلى ذلك التي لها أبعاد هندسية معينة. يأتي هذا الفنان ويحس أبعادًا أخرى ويحس بصلات قائمة بين الغابة والجبل والشمس أو القمر أو ما إلى ذلك. يرى ليس بالعين المجردة ولكن يرى من قلبه. يبدأ الفن حيث تكسرّ الطبيعة وتختلط وتقال –بصورة أخرى- شعريًا. أن تقال شعريًا يعني أن تقال بلغة ليس لها بديل. الإنسان العادي يقول الطبيعة كما هي ليس عنده حس آخر أعلى من عينيه. يصف الشيء في ماديته. عندما يأتي الفنان يجبل الطبيعة بشيء آخر. يجبلها بما عنده داخليًا بما عنده من حس وإتصالات فوق المرئي وفوق المسموع ، وينشء هذا العالم نشأة أخرى. ولهذا إذا كتب الشعر أو ما يعتبر شعرًا فهذا لا يمكن ترجمته نثريًا. فنقاد الشعر العربي دارسو القصيدة للمتنبي وبالحاشية يترجموها نثريًا هذا عمل ليس تحليليًا. فعندما نسأل في القصيدة مع معاني أو مع ألفاظ؟ معنى أو مبنى؟
بالضبط لا يكون شعرًا إذا ردّ كليًا إلى المعنى. فاللفظة شيء أساسي ولا يمكن إطلاقًا فك الجوهر. فعندما نقدر أن نفك الجوهر عن شكله نحن لسنا مع الشعر. نحن مع كتابة علمية. الكتابة العلمية يمكن أن تكون في هذه الصيغة ويمكن أن تكون بصيغة أخرى. مثلاً الكتابة الوصفية للأفكار.
إذًا عندنا نحن حس جمالي،رؤية جديدة. فرؤية العاشق الذي يكتشف في لحظة في طرفة عين أن هذه الفتاة لن تبقى كالفتيات، لن تبقى واحدة من جنس النساء. إنها وحدها في الكون أو إنها الكون. هذه فتاة تشرح كباقي الفتيات ولها طول معين ولها عرض معين. هذه هي النظرة النثرية الواقعية الصحافية. هذه النظرة صحيحة ولكن نظرة العاشق أنها وحدها موجودة بين النساء وأن النساء كلهن أقتلن أي محين محيًا. هذ القراءة الجديدة للعاشق قراءة هي أيضًا صحيحة ولكن لها صحة أخرى، ينشأ العالمَ نشأةً أخرى، كما يقول القرآن.
ولكن في كل هذا نحن في عالم الجمال، ولسنا نحن في عالم الجمال بما معناه الإنجيلي. إذًأ عندنا في الإنسان الواقع المؤمن بيسوع، حياة جهادية أو موقف جهادي وهو موقف مكره لا ينفع لشيء. وعندنا في الفن حس وجمال.
هل يمكن أن يكون هناك شعور بالجمال دون أن يكون شعور بالله؟ تصوري أن كل فن هو نقلة ما غير واضحة للفنان نفسه، من هذا الدهر إلى الدهر الآتي. هناك تجليات الله أو إذا شئتم إلهية ما في كل عمل فني. سنكتفي بهذا التعريف الشائع أن الفن هو عالم الجمال أن الشهادة هي عالم الحقيقة، هي عالم الحق إذا أردتم هذا التعبير من إنجيل يوحنا أن الحقيقة المعاشة في أعماق الإنسان والمبلورة له والتي تجعله في تجليات من النور الإلهي. يجب أن يتم لقاء بين المطلقين، بين عالم الشهادة وبين عالم الفن. يجب أن يتم هذا اللقاء في مكان ما. اللقاء بين الشهادة وبين الجمال، بين الحق الإلهي بين الدفق الإلهي أو القداسة والجمال يتم في شخص الشاعر أو الفنان. عندنا بالتالي إذا أردتم أن نجعل الشهادة فكرًا مبلَّغًا في شخص واحد تتم الرسالة المبلغة والقلب الذي يحس بها.
لماذا يميز تمييزًا واضحًا بين عالم الحق والذي تكلم عنه إنجيل يوحنا، بين عالم الجمال. لأن الرسول إذًا يعلمنا أن النعمة يمكنها إذا نزلت على الطبيعة فالطبيعة تقوي الطبيعة ولكن على صعيدها. النعمة من جهة قد تقدس هذا الشاعر أو الفنان. ولكن النعمة لا تجعله أكثر شاعرية أو أكثر فنًا. هي تقدس شخصيته. تقدس شخصه. النعمة لا تعلمه النحوي.النعمة لا تجعلني خطيبًا. ليس من إختراق بين القداسة وبين المواهب الطبيعية. ولكن أين هو المفصل بين الشعر أو الفن عمومًا وبين الفكر؟ المفصل هو الحرية. الجامع بين الإنسان والفن هو الحرية أي ما يجعلنا خالقين مبدعين هو الحرية الداخلية. القدرة على كسر الموجود اللفظي في الشعر مثلا وإعطائه معاني أخرى فصاحة أخرى. إذا لاحظتم عند الكتاب الكبار بأية لغة تعرفونها تشاهدون ان المفردات لا تعني عند هذا الكاتب تمامًا كما تعني في القاموس. في القاموس في المفردات لها حد معين مصبوبة صبًا هكذا. عندما يأخذها كاتب كبير ويجبلها بسياق كلامه ويضع فيها عاطفته وتتلون وتصير ترقص غير شكل بكتابه عما تكون في كتاب آخر. معنى هذا انه كسرها وجبلها من جديد. إذًا نحن في عالم الجبل في عالم الرؤية كيف يتم هذا؟ يتم هذا بالحرية. وهنا دور الإنجيل الذي هو خالق الحرية بالنسبة إلى التراث القديم. أنتم تعلمون أن الإغريق لم يقولوا بالحرية وأن الناس طبقات ويوجد أحرار وعبيد ورجال ونساء.
لا يقدر ان يطلع جمال حقيقي كبير إلا إذا كان الإنسان يتوق إلى الحرية الداخلية إلى حرية ما ليس إلى حرية كاملة لأنه إذا وصل إلى حرية داخلية كاملة فهذه هي القداسة. عندئذٍ قد يؤثر الصمت. القداسة لا تفضي بالضرورة إلى الكمال أو إلى المعرفة أو إلى الموسيقى. ولكن هناك إنعتاق ما من الضغوط الداخلية حتى يستطيع الإنسان أن يتكلم أو أن يرسم أو أن يلحن. ومن هنا قولي إن الإنسان يُستعبد كليًا لا ينشأ فكرًا ولا جمالا.
أنا لم أقل إن البر وحده ينشأ الفن. بإعتقادي أن الفن يأتي من أمرين: يأتي عند إنسان في حالة التأجج وفي حالة الصراع وفي تطلع إلى البر إلى النقاوة. هذه إمكانية لأن هذا الإنسان المتوتر داخليًا لا يمكن أن يحس بالجمال.
أو يأتي الجمال من فيض فرح. فيكون الإنسان قد تجاوز هذه التوترات الداخلية فوصل إلى الرؤية وإستقر في الفرح الإلهي. الفرح الإلهي يعطينا قراءة جديدة للفن. ولكن إذا كان الإنسان لفظيًا ليست عنده تجربة داخلية، وحرية داخلية. يفقد الشعر قيمته ولا يكون الفن ذا قيمة. ولإنعدام الحرية أو ضعفها أو لإنعدام التجربة الداخلية، تصوري أن معظم الشعر العربي ذا لطف لأن ليس فيه معاناة. نرى معاناة عند أبي فراس الحمداني او أبي نواس وما إلى ذلك. ثم نقفز قرونًا عديدة حتى نصل إلى خليل حاوي أو إلى نزار قباني.
لماذا عندنا في العصر الحديث شعر؟ لأنه عندنا تجربة لأنه عندنا تطهر من نقطة الواقع هذا وقراءة جديدة لهذا الواقع. هذا أتى من أذواق التنوعات وهذا أتى من ألم. أما قبل ذلك بقرون القصة قصة نظم. من هنا أيضًا إذا لم يكن من تفلت في الرسم من التصوير الواقعي الجاد البارد لا يكون عندنا. دائمًا يكون عندنا تحرر ما. كثرة من الشعراء التقليديين ساقطون لأنهم بلا خبرة داخلية. وكثيرًا من الشعراء من المعاصرين ساقطين لأنهم بلا فكر. يريدونك أن تدخل في الحس دون العقل. عندنا ضبابية و رفض للكلام. ليس عندنا صورة حقيقية.
لا بد لنا من شيئين حتى ندخل في عالم الفن : لا بد من موهبة تكون ضامنة لنوعية العمل الفني ولا بد من نعمة الشهادة تلتقيان بالموهبة الفنية والشهادة، تلتقيان بالشخص الواحد.
يمكن لكم أن تنظموا شعرًا وتعزفوا موسيقية كلاسيكية فلن تصيروا قديسين. هذان امران مختلفان. يمكن أن يهيأ احدهما الآخر. ولكنه لا يفتعل الآخر. ولذلك لا يمكن أن تؤدي الحياة المسيحية إلى الفن بقدر نفسها إن كان هذا الفن غير موجود. فلا يكفي أن كلف شاعرًا من أوساط الشباب أو غير الشباب دائمًا عميقًا من أن نقول له بأن يعمل نشيدًا. يطلع نشيدًا تافهًا مثل نفس الإناشيد الموجودة. تافه شعريًا أي ليس له قيمة شعرية. هذا مجال للدعاية. ولكن ليس هذا شعرًا. ولا يمكن أن يُكلف شاعر كبير بنشيد مسيحي.
إن المسيحية بيئة تتفتق فيها المواهب. هي حاضن لأن المسيحية بحد نفسها هي الشعر الكبير. أنا لا أعرف قصيدة حب أجمل وأبلغ من تلك القصيدة القائلة: إن الله هكذا احب الناس حتى بذل إبنه الوحيد لكي يخلص كل من يؤمن به. شيئ يذهل بحد ذاته بأن الآب نفسه بصورة إنسان يأتي ويتودد العروس التي هي البشرية جمعاء وأنه يبذل نفسه عنها في الدم المسكوب. غني عن القول بأن الحب في تعبيره الأخير، في الحياة الزوجية هي دم مسكوب. هذه هي الصورة التي أعطاها الإنجيل عن علاقة يسوع العريس الإلهي بالكنيسة العروس.
إذا كنتم تعرفون قصيدة عشق أيلغ من هذه فدلوني عليها.هي بحد نفسها تفتق طاقات الحب في القلب البشري. ولهذا أنتجت رموزًا،وعبادات لتقول إخلاصها للمخلص. وبهذا إستوعبت أساطير قديمة، صورة قدموس وموته وقيامته وإنبعاثه. وكل إنسان عنده طاقة شعرية أو طاقة فنية يدرك تجارب بينه وبين المسيح. ولهذا -إذا شئتم- ليس للمسيح بالحقيقة أعداء، ما عدا النافذين المناضلين الذين يسجنون البشر. ولكن لا نجد عداوة لشخص يسوع الناصري ولكن وجدنا عداوة كبيرة للكنائس. هذا شيئ آخر. الكنائس فيها مطارنة وأكليروس وفيها ممارسات جيدة وغير جيدة. وإستطاعت المسيحية أن تعبر عن القلب البشري ببيئة مهيأة للتفتق الفني، لأن المسيحية موت وقيامة، أي إنها تتكلم عما يجري في الإنسان. ما الموت والقيامة؟ يعني أن كل إنسان يموت هكذا.كل إنسان عنده موت وقيامة. كل يوم عنده هبوط وسقوط وحزن ويأس ومرض ومواجهة للموت. وعند الموت فرح ورجاء. هذا الذي يحدث في القلب البشري. بتصوري أن المسيحية هي وحدها الديانة الواقعية لأنها ديانة القلب البشري. فلا ندعي بأننا نعرض على الناس ديانة واقعية بما أكثرهم بما يقدرون أن يفعلوا؟ أكثرهم يحبون إمرأة واحدة ولذلك نعطيهم أكثر. واكثرهم يحبون الأكل ولذلك نشرح لهم ما الأكل الذي يحبونه. هذه ديانة إحصائية. نعملها للأكثرية. المسيحية وحدها الديانة الواقعية لأنها ديانة القلب البشري الذي يمر دائمًا بالموت وينتقل إلى القيامة.
إنما ديانة هذا القلب المعلق الذي نعطيه نحن قدرة عيشة إذا نفذت في يسوع الناصري. وإذا نفذت في واحدة يمكن أن ننفذها في الآخرين.
المسيحية إذا ادركناها على أنها إيمان بالحب الإلهي، التوق الجاري بين الآخرين. وإذا أدركناها حبًا متجسدًا فهي تطلق الإنسان إلى الرؤية العظيمة. بمعنى ما كل المسيحية شاعر. لأنه يرى الإنسان فوق نفسه ويراه في دعوته ويراه في توقه. ولهذا الشهادة لا تسخر تسخيرًا لإنتاج كتابة أو فن. ولكن الشاعر شاعر، والمسيحي مسيحي.لذلك لا تقدر أن تصدر الكنيسة لإنسان أن يكتب جيدًا وتكون شاهدًا. هذا شيء مصطنع. ولكن تقول إن الموهبة الشعرية الفنية تنمو على صعيدها.
Continue reading