لست أعرف صيغة تعامل بين المواطن وبلده كتلك التي نعيشها في لبنان عنيت بها الصفة الطائفية لكل منا من حيث هي جسر لا مهرب منه بينك وبين الدولة وذلك بنوع خاص في المضمار الانتخابي. في الحقيقة ان الصفة الطائفية لا تلحق بالمواطن ولكن بالمرشحين. الناخب عندنا ليس له عنوان طائفي. المرشح وحده ينتقيه من طائفته كل مواطني الدائرة. اما الناخبون فعلمانيون كما في دول الغرب. فالطوائف لا تنتخب والنائب لا يمثل طائفته ولكن يؤتى به من طائفته.
غير ان الشعور بتمثيلية هذا المرشح لطائفته أو عدم تمثيله أو ضعف تمثيله نقضية شعورية بحتة تقررها الاتجاهات السياسية في الطائفة. اما التمثيل فلا يتكون عند الانتخاب ولكن بعد الانتخاب وهو تمثيل الامة كلها ما لا يمنع في المعاملة ان يكون هذا أو ذاك من النواب ألصق بجماعته الدينية أو أقل لصوقًا. والقانون عندنا يفترض الاختلاط في العملية الانتخابية الا إذا جاءت بعض الاقضية من لون ديني واحد أو غالب في تبني نظام القضاء.
غير ان المجتمع السياسي أو الطاقم السياسي حاذق جدًا ويحاول الآن ان يتبل هذا على ذاك ليخفف الاحتدام الطائفي أو يطفئه ما أمكن تلبية للمشاعر التي برزت في الحرب وكان لا بد من استيعابها وخلط الاوراق من جديد حسب الظاهر في هذا المسرح اللبناني الذي تختلط فيه التراجيديا والكوميديا ولا تتلاقى القلوب اذ ليس مطلوبًا في لبنان ان تتداخل القلوب ولكن ان نلعب المسرحية غير الالهية إذا استعرت عنوان ملحمة دانتي «La divina comedia».
نحن اذًا معًا في ما يبدو حتى لا يسجل ميزان الحرارة ارتفاعًا كبيرًا. هنا تلفتك التعابير اللبنانية العادية: «بيرضى الموارنة أو الدروز أو السنة إذا اعطيتهم فلانًا» فان هناك من يعطي وهناك من لا يحس انه مجهول إذا انت ضممته إلى اللائحة وقد تشاركه طائفته في فرحته. هذا مثل قولك: «بترضى البلدية إذا انت خالفت قانون البناء» وعبارات كهذه كثيرة في كل مجالات حياتنا المجتمعية. حقوق الطائفة يكون قد اعترف بها إذا برز وجه تفيد منه بشتى وسائل الافادة. كل طائفة تركب مجدها كما يحلو لها.
والبلد توازن أمجاد، تلك التي يتمتع بها الكبار.
البلد ليس حلف طوائف ولن يكون ولكن البلد حلف الكبار من كل طائفة ولم ينتدب أحد العظام ليختلفوا غير ان دنياهم تقضي بالا يختلفوا. هناك رؤوس لم يمسهم اذى في الحرب وما كان يجوز ان يمسهم. وبيوتهم لم تتهدم وان انهار الحي. هذا التلاقي بينهم اساسي لقيام البلد اي لقيامهم على البلد. الاصطدام هو بين الضعفاء. فإن كنت فقيرًا تستهجنك بيئتك ان كان لك صاحبة. اما إذا كنت غنيًا فترافقك إلى كل المجالس البورجوازية وانت وهي في فخار عظيم. لبنان بلد الابداء والاخفاء وليس بلد الكيان الجوهري.
على أي أساس يلتقون؟ لا أجد تفسيرًا الا تفسير النجاح المطلوب لكل واحد أو رجاء التمتين لوضع الجميع بما يفيد التوازن وهذا لا يعني اطلاقًا انك تؤمن بالآخر ومواهبه وذكائه واستمرار ولائه لما يقول اليوم. ليس هناك علاقة داخلية اي في النفس ولا هناك اقتناع بأن لك وله قواسم مشتركة اذ كثيرًا ما تنفرط الكتلة الموقتة بعد ولوج باب البرلمان الا في حال الخوف وانتهاء ولاية اخرى. فالثوابت هي الاشخاص وتوازنات تاريخية أو شبه تاريخية ليبقى الطاقم أو خلفاؤه.
وهذا لا يعني ان الحرب قد انتهت على الصعيد النفسي فالقتال نفسه كان له ما يستثنيه اذ كان المتراس يعطي المتراس الآخر خبزًا أو ماء صافيًا لان المحاربين ما كانوا يكرهون بعضهم بعضًا أو كان هذا موقتًا ولم يرسخ في النفس. وعند راحة المحاربين في قبرص مثلا لم يكن ما يمنع التلاقي في المطاعم واتصور ان فريقًا كان يدفع الفاتورة بسبب من كرم النفس الذي لم يبدده القتال.
اذكر مرة ان سياحًا من الألمان طلبوا مني ان يحضروا جناز المسيح في الجمعة العظيمة وكانت الحرب قد انتهت فصلينا في احدى كنائس الجبل. بعد هذا قدمت لهم الشاي في قاعة الكنيسة ثم قلت لهم: نحن الآن في المنطقة الدرزية فخافوا خوفًا شديدًا ولكني طمأنتهم لما قلت لهم: اننا والدروز على أحسن حال. لماذا كانت الحرب؟ لماذا لم تنته لكنها اتخذت وجهًا جديدًا.
كُتبت عن الحرب كتب كثيرة وبعضها قيم. كانت تحليلية، وصفية. ولكني لا اعرف مؤلفًا دان الحرب اخلاقيًا. اعرف افرادًا اعترفوا لي بالخطأ ولكني التقيت لمعاملة عندي رجلاً اقر بأنه قتل 32 رجلاً ذبحًا على فخذه وسألته عما إذا كان قد ندم؟ لكنه قال لي: لم اندم. لا اذكر اسم هذا الانسان ولكني لم افهم اطلاقًا انه لم يضطرب بسبب من هذا الاجرام. مرة كنت مدعوًا عند أحد كبار القوم من بعد قداس وقربني إلى مائدة الشرف وقال لي: هذا فلان وبحركة عفوية أو لرياء اجتماعي صافحته وكان من كبار القتلة وبقيت ايامًا طويلة لا اطيق نفسي ولا احتمل خطيئتي.
البارزون منا اجتماعيًا أو بحكم مقامهم يسلمون على مجرمي الحرب ويستلذون معشرهم ولا يقدر أحد ان يخرج عن المجتمع كما يقول بولس ولكن هل استطعنا اقناع واحد ان يعترف؟ انا لست ساذجًا حتى اطلب التوبة عن كل خطيئة. ما طلبت التوبة. طلبت الاعتراف ولا مغفرة بلا اعتراف ولا يسعك ان تصير من جديد انسانًا سويًا ما لم تقر انك خرجت عن انسانيتك. لا تنتهي حرب من دون صدق.
سيبقى الطاقم أو معظمه ويحيا لبنان على حلم التجدد ولكن لا اعرف من عنده دواء. اما قال الشاعر:
وتداويت من ليلى بليلى في الهوى.
كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
يتداوى اللبنانيون من السياسة بالسياسة ومن الكذب بالكذب ولا يشفق أحد على الشعب المسكين الساعي إلى طعام أو مسكن أو طبابة. السياسة ان تجالس على الارائك من ينفعك وينفع نفسه لأنكم أنتم وحدكم البلد. يتجالسون حتى يحين وقت كب الواحد للآخر. السياسة استضعاف واستقواء عند الاكابر وتعرية الآخرين من كرامتهم فهم لا يقدمون شيئًا ولا يستأخرونه. نحن مثل اثينا القديمة ليس كل سكانها مواطنين.
غير اني لا اريد ان استبكيكم كثيرًا وانا موجع وكلكم موجع. ولست املك وصفة في هذه المرحلة سوى ان اقول: عوا واعقلوا ولا تكونوا مطية لاحد واكتبوا يوم الاقتراع الاسم الذي تريدون وامتنعوا عن الاسم الذي لا تريدون لان القيد في الورقة شهادة ومن لم يقبله ضميرك لا تؤد له شهادة. انت حر فمارس حريتك ولا تخف.
ولا تقع في خطأ الانكفاء أو التمنع عن التصويت. فلا بد ان يكون بين المرشحين احرار أو ابرار أو قريبون من الطهارة. ادل بصوتك لان الممانعة قد تكون شهادة ولكن لا تنفع هذه. كن حاضرًا في البرلمان بمندوبك وجالسه في ما بعد وانصحه أو لمه. ولا تفكرن طائفة صغيرة في الانقطاع لان هذا يزيد عزلتها وتهميشها ويوسع الشرخ بين الطوائف.
وإذا جاء المجلس على غير ما تروم فكافح في ما بعد بكل وسائل الكفاح السلمية واجهر بفكرك وحالف الصادقين واضغطوا بكل قواكم على المجلس الآتي شبانًا كنتم ام كهولاً فقد يستحي من بقي له ذرة من الحياء وقد تضطرون بعضًا إلى الصدق وبعضًا إلى العمل.
واحزن ولا تيأس لان في البشر بمن فيهم السياسيون صورة الله. قد تبدو تحالفات جديدة ويظهر في الافق عظماء فكر وعظماء عمل فهيئهم للولاية اللاحقة. ان لبنان لا بد ان يحيا. لكن الحياة العظيمة الخصبة تتطلب منا نسكًا وتطهرًا كبيرًا. وإذا لمت بعضًا على احابيلهم فلا تقع انت فيها مهما حسبت نفسك صغيرًا وغير ذي تأثير فقد تبيض وجوه وتسود وجوه ويؤتى بأمثالك إلى الحكم على قياس الاخلاص والمعرفة.
استقلالنا السياسي اخذناه منذ ستين سنة ولم نأخذ طهارتنا. وهذه تأتي من الجهد البشري في الذات وتنعكس بعد ذلك في حياتنا السياسية. ما السياسة سوى الطهر والمعرفة ممدودين في العمل الجماعي؟ ترهب في سبيل ذلك حتى تبدو الدولة كنيسة كما يقول دوستويفسكي واراد بذلك وضعًا ليس فيه قهر وكله حب بحيث تخضع للقانون بسبب من محبتك للبلد. اظهر شيئًا من هذا في الانتخابات المقبلة على رجاء قيامة لبنان.
Continue reading