Monthly Archives

May 2005

2005, مقالات, نشرة رعيتي

السامرية/ الأحد 29 أيار 2005 / العدد 22

من اجمل مقاطع انجيل يوحنا هذا الحوار البديع بين السيد والمرأة السامرية. وهي من قوم انحرفوا عن ديانة اليهود لقبولهم كتب موسى فقط ورفضهم أسفار الأنبياء. وباقٍ منهم حتى اليوم حوالى مئتي او ثلاث مئة شخص قرب نابلس وفي العالم. السيد في منتصف النهار كان قد وصل الى بئر يعقوب وهي قائمة حتى اليوم وقربها كنيسة ارثوذكسية.

          جاءت لتستقي ماء “فقال لها يسوع اعطيني لأشرب”. جابهته بقولها: “كيف تطلب ان تشرب مني وانت يهودي وانا امرأة سامرية”. القطيعة كاملة بيننا. عند ذاك حدثها المعلم بما لم تكن قادرة ان تفهمه، قال: “لو كنت تعرفين عطية الله ومن الذي قال لك اعطيني لأشرب لكنت انت تسألينه فيعطيك ماء حيا”.

          بقيت محدودة ببئر يعقوب وبعكرة ماء بديل عن الذي جاءت لتستقي منه. عندئذ رفع السيد سقف اهتمامها: “من يشرب من الماء الذي انا اعطيه فلن يعطش الى الأبد”. عند هذا السمو بالفكر قالت له اعطني هذا الماء” لكي استغني عن بئر يعقوب اذ ذاك، صدعها بقوله: “اذهبي وادعي زوجك”. اقرت بما يعني ان ليس لها زوج وانها تعيش مع رجل. ينقطع هنا الحديث عن سلوكها. ولكن ما يمكن فهمه ان الرب اوحى اليها انها لا تستطيع ان تشرب من الماء الذي يعطيه ما لم تتب.

          انتقلت، اذ ذاك، الى جدل لاهوتي حول المكان الذي ينبغي ان يتم فيه السجود. هل هو على جبل السامريين بالقرب من نابلس كما يقول شعبها ام في اورشليم كما يقول اليهود. عندئذ تجاوز المخلص هذا الجدل وقال انه ينبغي علينا معا ان نتجاوزه. العبادة ليست على هذا الجبل ولا في اورشليم. هذا نقاش يجب ان نتخطاه. “تأتي ساعة وهي الآن حاضرة (اي بسبب مجيئي) إذ الساجـدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق”. فمهما كانت المراسيم والطقوس الحالية (ذبح التيوس والعجول) المهم ان تتصل بالله حقيقة وفي العمق، في الروح الإلهي الساكن فينا. لن يبقى هيكل اورشليم ولن تبقى عباداتكم. ها عهد جديد قد أتى حيث يحتل الله قلوب الناس ويجعل في قلوبهم هذا العهد الجديد الذي لن يكون على صورة الختانة رمز العهد الذي قطعه الله مع ابراهيم. وهذا العهد الجديد سيقول يسوع يوما انه يتم بدمه ومن يشرب من هذا الدم (بالقداس الإلهي) يحيا الى الأبد.

          عند ذاك تركت المرأة جرتها فقد آمنت ان الذي يكلمها يحيا كل انسان به وانطلقت الى قومها وقالت لهم اني تبت بين يديه؟ “أليس هذا هو المسيح”. بشرت جماعتها وقبلوه عندهم وقَبِل الدعوة، واعترفوا “ان هذا هو في الحقيقة المسيح مخلص العالم”.

          من أخذه المسيح يحيا في المسيح ويبشر به اذ يعلم ان لا حياة الا به. السامرية فهمته اكثر مما فهمه التلاميذ آنذاك وصارت له.

          انت ان لم تعش معه عيش القلب المنكسر حبا تبقى أسير تقاليد واشكال ولو دينية.

          هذا لا يعني انه لا ينبغي ان نتمسك بعباداتنا. فهي تنقل المسيح الينا ان احببناها وفهمناها وأدخلناها القلب فتكون عند ذاك وجهه. ان لم يصبح المسيح كل شيء لك حتى تأتي منه وحده وتصير بدورك ينبوع ماء وايقونة لمسيحك تكون قد مكثت خارج الخظيرة. الا تبقى شعرة تفصلك عن يسوع وان تقضي حياتك متصلا به هذا ما يجعلك من تلاميذه حسب قوله لتلاميذه بعد العشاء السري: “من احبني يحفظ وصاياي”.

          بهذه الطاعة الكاملة له لا تبقى هوة بينك وبينه فتكون حبيبه ويكون هو حبيبك. واذ ذاك يقرأ الناس لا ملامح وجهك ولكن ملامح وجه المسيح.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

اقترع / السبت في 28 أيار 2005

حضورك في السياسة شهادة وعمل ومطرحك إذا غبت عنه يملأه الشيطان وهذا يعرف ان يتكلم لأنه «كذاب وأبو الكذب». قد تضع في صندوق الاقتراع ذرة من الحقيقة اذ تقول انك من البلد على رغم ضعفاته وعثراته ولا تقول انك هجرت وتواريت وبعد هذا تتذمر. في دائرتك مرشحون فتختار أحسنهم أو أقلهم سوءا لأن هذا هو الموجود الذي تتعامل واياه. أنا لا انصحك بأحد لكوني غريبًا فعلاً عن المسرح السياسي وأعرف القلة من أولي الأمر فلن أدلك على أحد لكن الطاهر يدل على نفسه والعالم يدل عليه الجميع. أما أنت فاذا ابتغيت ان يصل الطاهرون فقل هذا اسما على ورقة وكذلك إذا اشتهيت العلم في المرشح فبين ذلك بعد ان تكون دعوت الله عشية الأحد الذي يجري فيه الانتخاب في دائرتك وبعد الدعاء محص الذين تقدموا بعدما ظنوا في أنفسهم خيرًا.

الطهر والمعرفة يبدوان المعيار اذ لا نعرف حتى الساعة الاّ عناوين برامج ما خلا انك تعيش العتاق على ماضيهم وتحسب انهم بالأقل يعانقون خياراتهم السابقة كائنًا ما كان تحالف اليوم. قد ترمى أوراق بيضاء كثيرة. هذا حسن يعني ان ثمة ممتعضين أو عاتبين على التركيبة كلها أو مستغربين تحالفات لا منطق سياسيًا فيها. الورقة البيضاء قولة وتحسب ولا تهمل. ضعها أو وضع سواها لئلا تتهرب من قول أنت عنه مسؤول.

الحمد لله اليوم إن التقزز (بالعامية القرف) لم يبق حكرًا على طائفة والقرف دليل على لا طائفية الشعور. لكني أدعو المسيحيين بخاصة الى ان يكثفوا حضورهم حتى لا يهمشوا أنفسهم ولا يعتبروا لأن الهروب من الاقتراع رمز للهروب من الوطن وإذا كان المسيحيون قلة (ودلائل كثيرة احصائية تدل على انهم ليسوا دون النصف بكثير) فحري بهم ان يكثفوا حضورهم الانتخابي لينقذوا أنفسهم من تهمة اللامبالاة ويضربوا بأيديهم التهميش الذي وضعوا فيه.

قلت الطهر والمعرفة معياران، الطهر واضح. أما المعرفة فمعرفة السياسة أولاً وقد لا تتطلب الكثير من التحصيل الجامعي. فالجامعي قد يكون غبيًا في المداولة السياسية. الحنكة في الراهن هي المبتغى واستقلال الذات بما فيه من شجاعة هو الذي يبنى عليه. أفهم ان ثمة حساب أصوات وحساب تضامن في اللائحة الواحدة. ولكن إذا شئت ان تشطب فافعل هذا اذ ليس عندك ولاء لمجموعة وولاؤك لضميرك فقط. فالشطب الكثير قد يحدث اختراقًا أي تغييرًا أي هزة ممكنة أو آمالا معقودة. ولكن اذهب وقل شيئًا بكل ما عندك من اقتناع ولو كنت تتوقع الخيبة فهذا وطن الممكن ولئن بنيته في ما بعد الا انك قد تكون هيأت للبناء غدًا وفي الأسابيع المقبلة اذ ينبغي ان تعطي لقيصر ما هو لقيصر أي لهذا القيصر الموجود عندنا.

النائب بشر فلا تتوقع ان يكون ملاكًا اذ لم نصل بعد الى ملكوت الله. واعلم ان الامبراطور الروماني عندما كان يدخل روما منتصرًا كان واقفًا الى جانبه موظف يقول له: تذكر انك بشر. ربما كان التواضع حليفًا لمن تنتخب وربما كان ثابتًا في الصدق. وان لم يكن هكذا كثيرًا فأعنه على اكتسابه مسديًا اليه النصح بعد نجاحه.

أنت ما استشارك أحد في اختيار المرشحين اذ يبدأ وجودك بالاقتراع. هذه ثغرة في نظامنا. مشكلة الديموقراطية انها تتطلب الكثير من الصبر يرافقه كثير من الحزن. ولكن لا مخرج من الديموقراطية الا بنظام الاستبداد ونأباه في لبنان. لعل تعدد طوائفنا يساعد على غياب التحكم. ولعل الطوائف الصغيرة – ما دام هذا النظام – تحول دون تحكم الطوائف الكبيرة. هذا هو كبر الصغار في عالمنا هذا حتى يأتي يوم تقوى فيه النقاوة عند التائقين الى الحكم ويستقل المواطن في حكمه على الناس والاشياء عن طائفته كما يستقل عن الضاغطين بنفوذهم إلا إذا كان نفوذ الفكر ونفوذ العطاء الانساني.

وليس الوقت وقت الفحص للذكاء اللبناني القائم على تلاقي الكبار ومصالحهم. أيضًا وأيضًا هذا هو الموجود ونحن في عالم الخطيئة. ولكن قبل ان تنتهي الخطيئة فأنت تعالجها ما أمكنك العلاج. وأنت أعجوبة إذا استطعت ان تسبح في بحر التلوث اللبناني ولا تبتل أو لا تغرق.

غير اني لا أريد ان يؤول حزنك وحزني الى كآبة كبيرة. فلا بد من وجوه جديدة فلعل الاستقلال الحقيقي آت من بعد القدماء إذا تابوا ومن الجدد إذا رجوا. المهم ان تكتب اسماء الذين تحسب انهم الاقرب الى العدالة والشفافية وروح الخدمة ولم يهرولوا الى ترشيح أنفسهم ابتغاء الكسب والمجد الباطل. فاعمل لإيمانك بأن الندوة البرلمانية مؤسسة عظيمة وقد تكون الفعل في مؤسساتنا لكونها مقام التشريع والتشريع أول تقويم للبلد الى جانب القضاء. ولكن حديث القضاء سوف نعود اليه بقوة بعد تشكيل المجلس لأن العدل أساس الحكم.
وينبثق من المجلس الحكومة وقيل عن حكومات انها كانت هادرة. لكن الهدر يضعف أو يختفي ان أنت أتيت بمجلس قليل التعرض لتشكيل حكومة هدر أي مجلس مستقيم الرأي والسلوك. فالقلة الطاهرة الحازمة من شأنها ان تصرخ في مقام الصراخ وان تقوم المعوجين إذا اعوجوا. قد يكون بين نواب الغد من لا يسخر ضميره ومن يدرس الشرائع ويراقب الحكم ومهما يكن من أمر فشكل أنت جماعات ظل تضغط على المتحيرين بين الفضيلة والرذيلة حتى يحكم الله هذه الدولة. وهذا ما عناه المسيح: «اعطوا لقيصر ما لقيصر وما لله لله». الله أي الحق هو الحاكم حتى تشتهي الدولة ما يريده الله منها. الشعب العظيم يقتحم الدولة. انا موقن ان أمتنا خير من كل حكم فهي القادرة على ان تجعل الحاكم محبًا للشعب أي خادما له.

أنا واثق من ان شعبنا فيه كثير من الجودة وأقلها انه يريد ان يعيش وانه يعرف ان الخير هو ثروتنا الحقيقية. غير ان عملية التغيير تقوم على تضافر النيات الحسنة والجهود الجبارة. وما من شك عندي ان عندنا نخبًا خلابة. ولعل خطأ بعض النخب انها تتوارى عن العمل السياسي إذا انقطع رجاؤها. لكن قطع الرجاء خطيئة لا تغتفر. فاذا لم ينخرط الصالحون في الحياة الوطنية كما هي متوافرة عندنا يكونون قد جيروا البلد لحكم الأشرار أو الفاسدين. وقبل ان يتولى الأبرار قيادة الوطن فاختر أنت اصلح الموجود عسى نتدرج في المجالس المقبلة الى رؤية وجوه بهية تصنع لنا أفضل الشرائع وتراقب الحكام وتحاسب أهل الادارة فما احتسب مستحيلاً في الممارسة اللبنانية قد لا يكون غدًا مستحيلاً لأن هذه الدنيا قادرة على الا تبقى سجينة ما هو قائم بل تقبل إلى شيء من النور.

قال السيد: «لا تخافوا اني قد غلبت العالم» وهو اراد انه غلب العالم الشرير. هذا ممكن ترجمته في نطاق السياسة التي هي سيادة الحكمة. حاول ان تأتي بمجلس حكماء لا يغرهم شيء ولا يغريهم. لم يكتب على أحد ان يكون غريق السوء. اختر من المرشحين من كان أقرب الى نظافة الكف وشفافية الكيان لئلا تكون قد سقطت مع الساقطين. اختر من تعرف انه على الأقل صمم على ان يخرج من حلبة الخطأة ولا يشتهي ان يخدم نفسه وزبانيته بل ان يخدم الذين لا زبائنية له، من كان قريبًا من الفقراء والمقهورين فهؤلاء هم سادتنا أي اسع إلى الأعفاء ولو ندروا. «فالقلة تخلص العالم». والخلاص يبدأ بالوطن، ذلك لأن الوطن مدعو الى ان يصبح مقامًا لإله والذين دعاهم ربهم الى ان يكونوا له.

لا تيأس من طاقات شعبنا. انها لكثيرة، نحن، بعضنا الى بعض، مؤتمنون عليه لأننا مؤتمنون على أنفسنا وعلى اولادنا وان نحفظهم على ترابه لئلا ينزف عددنا وندعه الى الشجر والبحر والجبال. لبنان أنتم جميعا مجتمعين ومناضلين. الاوطان تبنى ولا تورث. الكمال ليس معطى. انه يأتي من ارادتنا متضافرة، مجمعة على الخير. والوطن في نوعيته لا في حجمه. لقد أعطينا العالم كثيرًا هنا وفي ديار الاغتراب. لبنان هبة الله ولكن لا بد للهبة من اذكائها بالجهد الموصول والمتراكم وذلك كل يوم.

لم يكتب علينا ان نبقى في العالم الثالث، المتخلف اذ لا نكون، اذذاك، مساهمين في ابداع أنفسنا وابداع الدنيا. البلد ليس مكانا لنتغنى به ولكن لنصنعه بالفكر والحب وان نلح على تقويمه ليسر الله والأجيال القادمة. وهذا يعني اقصاء الغش عنه وعن مؤسساته فتصبح هذه آلة لتطويرنا وجعلنا خلائق جديدة.

أنا عالم بأنك لا تستطيع ان تستأصل الخطأ والخطايا بصورة نهائية. ولكن «على المرء ان يسعى» وان يكره الخطأ والخطيئة وان يقيم العدل في كل زاوية من زوايا وجودنا الجماعي. سنقوم ونسقط لكن الانسان السوي من لا يصالح السقوط في ذاته وفي بلده. فكما ان خراب الذات يقود الى خراب الذات يقود الى خراب الجماعة هكذا يقود اهتراء المجتمع السياسي الى حزن الأفراد ويأسهم. أنت أمام عمليتين متوازيتين متكاملتين ان تنقي نفسك وتنقي المؤسسات. «اعزلوا الخبيث من بينكم» على ما قال الكتاب. ولكن لن يعزل الخبيث الا من عزل الخبث في ذاته. هذا نشاط دائم جزء منه ان تأتي بمندوبين يحبون صالحك وليس في رؤيتهم صالح آخر. نوابك لك وليسوا لأنفسهم. الوطن كله لك وأنت له والمسؤولون إذا وعوا رسالتهم يجعلونك حساسًا للبلد فتفرح وترجو فترسوا الوطن معا على الحقيقة وعلى العمل المنتج وتصيرون معًا في الصدق مجد لبنان.

شيء من هذا تممه إذا ذهبت الى صندوق الاقتراع وقلت لهذا نعم ولذاك لا مدركًا ان كلمة قناعتك تكون مشتقة من الكلمة الذي كان من البدء. اذهب بقوة وتكلم.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

التربية بالصلاة/ الأحد 22 أيار 2005 / العدد21

إن شئت تربية مسيحية وان تتجدد فيك المعاني الروحية فعليك المواظبة على الخِدَم غير القداس الإلهي. القداس مكان لفهم الكلمة والمشاركة والتقديس. ولكن مواكبة ذكرى القديسين وبخاصة التمعن بقيامة الرب يفترضان حضورك صلاة السَحَر صبيحة كل أحد وكذلك صلاة الغروب مساء السبت وفي عشايا الأعياد.

على وجه التخصيص سَحَرية الآحاد والأعياد تُدخلك في صميم المعنى الفصحي، فإنجيل السَحَر مركز هذه الصلاة وهو سرد لظهورات السيد. كذلك الإنشاد (التبريكات وغيرها) هو فصحي بامتياز. والأحد ذكرى القيامة عن طريق تعليمها. والتعليم مكثف ويختلف جزئيا من أحد إلى أحد. وإذا فهمت لا تتضجر. الضجر ينتج فقط من كونك لا تعرف هيكلية صلاة السحر ولا تعي معانيها فترى نفسك مشردا، مشتتا.

وإذا امتلأت من معنى القيامة تدخل القداس الإلهي الذي ينقل إليك ذكرى موت المخلّص وانبعاثه من الموت. القداس تفعيل ومشاركة بالأقداس ولكن صلاة السحر لكونها فصحية بامتياز تؤهلك لدخول القداس.

كذلك صلاة الغروب مساء السبوت تُدخلنا مباشرة إلى معاني القيامة وهي تفتتح اليوم الطقسي. هكذا تلاحظون، إذا أردتم إقامة الأعياد بشكل مليء، ان صلاة الغروب تدشن العيد. الدورة الطقسية يجب ان ترتب خدمها بحيث يستطيع معظم الناس حضورها إن كانوا محبين للأعياد. فتتأخر مثلا صلاة الغروب إلى الخامسة أو السادسة مساء، وتبدأ صلاة السحر بحيث يتمكن المؤمن ان يأتي باكرا نسبيا لينتهي القداس في وقت مقبول.

تربيتنا الأساسية تتم في هذه العبادات لاسيما أنّ شعبنا يقرأ قليلا الكتاب المقدس والكتاب الديني بعامة. القداس وحده لا يربيك ولاسيما أن المشهد الذي أعرفه أنا اني إذا وصلتُ إلى كنيسة يوم الأحد أرى فيها شخصين أو ثلاثة، ثم تمر دقائق فترى في فترة انهم أصبحوا عشرة، وبعد حين صاروا عشرين، ولا يكون كل المؤمنين حاضرين عند الإنجيل. فكيف أنت تتناول ولم تسمع كلمة الرب لتتوب بها. وأحيانا تلحظ ناسا يأتون إلى المناولة من خارج الكنيسة كأنّ هذا عمل آليّ.

القداس عندنا ليس طويلا عند من عرفه وفهمه. الضجر ينتج من عدم المعرفة بالإيمان وعدم الاطلاع على الكتب. طبعا يجب على الكاهن الا يطيل الإيقاع وبخاصة يجب على المرتل الا يسترسل بالتنغيم الطويل، فالأفضل من ترتيل الرسالة قراءتها قراءة مُجوَّدة تفسح في المجال للفهم. الكلمات تَفنى في النغم ولاسيما عند الذي لا يعرفها. الخطوة التي أراها ناجحة اليوم هي ان بعضا من الناس يحملون «رعيتي» ويتابعون الرسالة والإنجيل.

إذا كانت كلمة الله «روحا وحياة» فلا بد من الوصول إليها بهذه الأساليب التي ذكرنا بعضها وإلا متنا جوعا أو جفافا.

هذا الذي قلناه أصل كل شيء. لا إصلاح في كنيستنا بلا استيعاب معانيها، كل معانيها. يجب ان يتجمع «محبو الأعياد» والذين يحيون بالصلاة ليطلبوا إلى كاهنهم إقامة كل الخِدَم في حينها. هو مُقام من اجل ذلك. الطقوس عندنا تحمل كلمة الحياة. والمواظبة عليها التماس الحياة. «ان ينبوع الحياة عندك يا رب».

إذا كنا خمسة أو عشرة في كل صلاة غروب كل يوم، وأكثر من ذلك في صلاة السحر منذ بدئها، وفتحنا آذاننا لنفهم الكتب وأحسسنا بامتداد الكلمة في الصلوات المختلفة والإنشاد، نكون قد وضعنا أساسا متينا لاتصالنا بالرب. لا نحفر لأنفسنا «آبارا مشققة لا تضبط الماء» ولكن أحواضا متينة تصب فيها الينابيع، حتى يصبح كل منا «ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية» نحياها منذ اليوم.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

الانتخابات أيضًا وأيضًا / السبت في 21 أيار 2005

لست أعرف صيغة تعامل بين المواطن وبلده كتلك التي نعيشها في لبنان عنيت بها الصفة الطائفية لكل منا من حيث هي جسر لا مهرب منه بينك وبين الدولة وذلك بنوع خاص في المضمار الانتخابي. في الحقيقة ان الصفة الطائفية لا تلحق بالمواطن ولكن بالمرشحين. الناخب عندنا ليس له عنوان طائفي. المرشح وحده ينتقيه من طائفته كل مواطني الدائرة. اما الناخبون فعلمانيون كما في دول الغرب. فالطوائف لا تنتخب والنائب لا يمثل طائفته ولكن يؤتى به من طائفته.

غير ان الشعور بتمثيلية هذا المرشح لطائفته أو عدم تمثيله أو ضعف تمثيله نقضية شعورية بحتة تقررها الاتجاهات السياسية في الطائفة. اما التمثيل فلا يتكون عند الانتخاب ولكن بعد الانتخاب وهو تمثيل الامة كلها ما لا يمنع في المعاملة ان يكون هذا أو ذاك من النواب ألصق بجماعته الدينية أو أقل لصوقًا. والقانون عندنا يفترض الاختلاط في العملية الانتخابية الا إذا جاءت بعض الاقضية من لون ديني واحد أو غالب في تبني نظام القضاء.

غير ان المجتمع السياسي أو الطاقم السياسي حاذق جدًا ويحاول الآن ان يتبل هذا على ذاك ليخفف الاحتدام الطائفي أو يطفئه ما أمكن تلبية للمشاعر التي برزت في الحرب وكان لا بد من استيعابها وخلط الاوراق من جديد حسب الظاهر في هذا المسرح اللبناني الذي تختلط فيه التراجيديا والكوميديا ولا تتلاقى القلوب اذ ليس مطلوبًا في لبنان ان تتداخل القلوب ولكن ان نلعب المسرحية غير الالهية إذا استعرت عنوان ملحمة دانتي «La divina comedia».

نحن اذًا معًا في ما يبدو حتى لا يسجل ميزان الحرارة ارتفاعًا كبيرًا. هنا تلفتك التعابير اللبنانية العادية: «بيرضى الموارنة أو الدروز أو السنة إذا اعطيتهم فلانًا» فان هناك من يعطي وهناك من لا يحس انه مجهول إذا انت ضممته إلى اللائحة وقد تشاركه طائفته في فرحته. هذا مثل قولك: «بترضى البلدية إذا انت خالفت قانون البناء» وعبارات كهذه كثيرة في كل مجالات حياتنا المجتمعية. حقوق الطائفة يكون قد اعترف بها إذا برز وجه تفيد منه بشتى وسائل الافادة. كل طائفة تركب مجدها كما يحلو لها.

والبلد توازن أمجاد، تلك التي يتمتع بها الكبار.

البلد ليس حلف طوائف ولن يكون ولكن البلد حلف الكبار من كل طائفة ولم ينتدب أحد العظام ليختلفوا غير ان دنياهم تقضي بالا يختلفوا. هناك رؤوس لم يمسهم اذى في الحرب وما كان يجوز ان يمسهم. وبيوتهم لم تتهدم وان انهار الحي. هذا التلاقي بينهم اساسي لقيام البلد اي لقيامهم على البلد. الاصطدام هو بين الضعفاء. فإن كنت فقيرًا تستهجنك بيئتك ان كان لك صاحبة. اما إذا كنت غنيًا فترافقك إلى كل المجالس البورجوازية وانت وهي في فخار عظيم. لبنان بلد الابداء والاخفاء وليس بلد الكيان الجوهري.

على أي أساس يلتقون؟ لا أجد تفسيرًا الا تفسير النجاح المطلوب لكل واحد أو رجاء التمتين لوضع الجميع بما يفيد التوازن وهذا لا يعني اطلاقًا انك تؤمن بالآخر ومواهبه وذكائه واستمرار ولائه لما يقول اليوم. ليس هناك علاقة داخلية اي في النفس ولا هناك اقتناع بأن لك وله قواسم مشتركة اذ كثيرًا ما تنفرط الكتلة الموقتة بعد ولوج باب البرلمان الا في حال الخوف وانتهاء ولاية اخرى. فالثوابت هي الاشخاص وتوازنات تاريخية أو شبه تاريخية ليبقى الطاقم أو خلفاؤه.

وهذا لا يعني ان الحرب قد انتهت على الصعيد النفسي فالقتال نفسه كان له ما يستثنيه اذ كان المتراس يعطي المتراس الآخر خبزًا أو ماء صافيًا لان المحاربين ما كانوا يكرهون بعضهم بعضًا أو كان هذا موقتًا ولم يرسخ في النفس. وعند راحة المحاربين في قبرص مثلا لم يكن ما يمنع التلاقي في المطاعم واتصور ان فريقًا كان يدفع الفاتورة بسبب من كرم النفس الذي لم يبدده القتال.

اذكر مرة ان سياحًا من الألمان طلبوا مني ان يحضروا جناز المسيح في الجمعة العظيمة وكانت الحرب قد انتهت فصلينا في احدى كنائس الجبل. بعد هذا قدمت لهم الشاي في قاعة الكنيسة ثم قلت لهم: نحن الآن في المنطقة الدرزية فخافوا خوفًا شديدًا ولكني طمأنتهم لما قلت لهم: اننا والدروز على أحسن حال. لماذا كانت الحرب؟ لماذا لم تنته لكنها اتخذت وجهًا جديدًا.

كُتبت عن الحرب كتب كثيرة وبعضها قيم. كانت تحليلية، وصفية. ولكني لا اعرف مؤلفًا دان الحرب اخلاقيًا. اعرف افرادًا اعترفوا لي بالخطأ ولكني التقيت لمعاملة عندي رجلاً اقر بأنه قتل 32 رجلاً ذبحًا على فخذه وسألته عما إذا كان قد ندم؟ لكنه قال لي: لم اندم. لا اذكر اسم هذا الانسان ولكني لم افهم اطلاقًا انه لم يضطرب بسبب من هذا الاجرام. مرة كنت مدعوًا عند أحد كبار القوم من بعد قداس وقربني إلى مائدة الشرف وقال لي: هذا فلان وبحركة عفوية أو لرياء اجتماعي صافحته وكان من كبار القتلة وبقيت ايامًا طويلة لا اطيق نفسي ولا احتمل خطيئتي.

البارزون منا اجتماعيًا أو بحكم مقامهم يسلمون على مجرمي الحرب ويستلذون معشرهم ولا يقدر أحد ان يخرج عن المجتمع كما يقول بولس ولكن هل استطعنا اقناع واحد ان يعترف؟ انا لست ساذجًا حتى اطلب التوبة عن كل خطيئة. ما طلبت التوبة. طلبت الاعتراف ولا مغفرة بلا اعتراف ولا يسعك ان تصير من جديد انسانًا سويًا ما لم تقر انك خرجت عن انسانيتك. لا تنتهي حرب من دون صدق.

سيبقى الطاقم أو معظمه ويحيا لبنان على حلم التجدد ولكن لا اعرف من عنده دواء. اما قال الشاعر:

وتداويت من ليلى بليلى في الهوى.

كما يتداوى شارب الخمر بالخمر

يتداوى اللبنانيون من السياسة بالسياسة ومن الكذب بالكذب ولا يشفق أحد على الشعب المسكين الساعي إلى طعام أو مسكن أو طبابة. السياسة ان تجالس على الارائك من ينفعك وينفع نفسه لأنكم أنتم وحدكم البلد. يتجالسون حتى يحين وقت كب الواحد للآخر. السياسة استضعاف واستقواء عند الاكابر وتعرية الآخرين من كرامتهم فهم لا يقدمون شيئًا ولا يستأخرونه. نحن مثل اثينا القديمة ليس كل سكانها مواطنين.

غير اني لا اريد ان استبكيكم كثيرًا وانا موجع وكلكم موجع. ولست املك وصفة في هذه المرحلة سوى ان اقول: عوا واعقلوا ولا تكونوا مطية لاحد واكتبوا يوم الاقتراع الاسم الذي تريدون وامتنعوا عن الاسم الذي لا تريدون لان القيد في الورقة شهادة ومن لم يقبله ضميرك لا تؤد له شهادة. انت حر فمارس حريتك ولا تخف.

ولا تقع في خطأ الانكفاء أو التمنع عن التصويت. فلا بد ان يكون بين المرشحين احرار أو ابرار أو قريبون من الطهارة. ادل بصوتك لان الممانعة قد تكون شهادة ولكن لا تنفع هذه. كن حاضرًا في البرلمان بمندوبك وجالسه في ما بعد وانصحه أو لمه. ولا تفكرن طائفة صغيرة في الانقطاع لان هذا يزيد عزلتها وتهميشها ويوسع الشرخ بين الطوائف.

وإذا جاء المجلس على غير ما تروم فكافح في ما بعد بكل وسائل الكفاح السلمية واجهر بفكرك وحالف الصادقين واضغطوا بكل قواكم على المجلس الآتي شبانًا كنتم ام كهولاً فقد يستحي من بقي له ذرة من الحياء وقد تضطرون بعضًا إلى الصدق وبعضًا إلى العمل.

واحزن ولا تيأس لان في البشر بمن فيهم السياسيون صورة الله. قد تبدو تحالفات جديدة ويظهر في الافق عظماء فكر وعظماء عمل فهيئهم للولاية اللاحقة. ان لبنان لا بد ان يحيا. لكن الحياة العظيمة الخصبة تتطلب منا نسكًا وتطهرًا كبيرًا. وإذا لمت بعضًا على احابيلهم فلا تقع انت فيها مهما حسبت نفسك صغيرًا وغير ذي تأثير فقد تبيض وجوه وتسود وجوه ويؤتى بأمثالك إلى الحكم على قياس الاخلاص والمعرفة.

استقلالنا السياسي اخذناه منذ ستين سنة ولم نأخذ طهارتنا. وهذه تأتي من الجهد البشري في الذات وتنعكس بعد ذلك في حياتنا السياسية. ما السياسة سوى الطهر والمعرفة ممدودين في العمل الجماعي؟ ترهب في سبيل ذلك حتى تبدو الدولة كنيسة كما يقول دوستويفسكي واراد بذلك وضعًا ليس فيه قهر وكله حب بحيث تخضع للقانون بسبب من محبتك للبلد. اظهر شيئًا من هذا في الانتخابات المقبلة على رجاء قيامة لبنان.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

من يدحرج لنا الحجر/ الأحد 15 أيار 2005 / العدد 20

هذا احد حاملات الطيب الذي يدور فيه الحديث عن عملية تطييب جسد يسوع لأن السبت كان قد حل عند دفن السيد ولا يجوز فيه العمل. ذهبت النساء القديسات وعلى رأسهن مريم المجدلية وتساءلن: من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر. يقول الكتاب انهن تطلعنا فرأين الحجر قد دحرج. لا يقول الإنجيل شيئا عن علاقة الحجر المدحرج وقيامة المخلص. هل ازاحته قوة الهية حتى يخرج السيد ام ان القيامة بحد نفسها زلزال يزيل كل العقبات.

          همي انا ان احيا بالقيامة كل حين حسب قول السيد لمرتا: انا القيامة والحياة، ان اذوق قوة القيامة فيّ قبل المجيء الثاني وحدوث القيامة العامة. فانتصار السيد ممدود فيّ وفي المؤمنين او يكون حدثا ولى وقصة نرويها.

          انا اعيش في وسط العقبات، في المرض قليله او كثيره، في خطر نوبة قلبية ورعب السرطان. وذاك يختبر الفقر والعوز واليأس يصعب تجاوزهما ان لم تحدث معجزة اقتصادية في البلد. عقبة الخلافات الزوجية او خلافات العمل او صدمات حياتنا الكنسية بما فيها من تحامل على بعض واضطهاد لبعض.

          ان يعيش الإنسان في اخطار الأمراض المزمنة وتلك الموجعة، ان تحتمل المرأة عنف زوجها، ان يشك احدهما بالآخر. ان اسقط كل يوم في ضعف لا ينتهي، ان يبقى البلد على ما هو من تصدع ابنائه. وفقدان الكفاءة والرشدة كل هذا عقبات قليلها ينتهي.

          اين يسوع من كل هذا او اين من يسوع الظافر اذا بقيت اعاني من كل هذا او من بعض منه واتحجر في خطاياي. هل من يدحرج لي الحجر عن باب القبر الذي قبرت نفسي فيه او قبرتني فيه ظروف معيشتي. احيانا كثيرة لا يبدو لي ان اوجاعي الجسدي او المعنوية آخذة بالانخفاض كثيرا ما احس انا غريق او اني اكسر رأسي على الصخر.

          ان ايماني بالقيامة يجعلني اعتقد ان المسيح معي في عزلتي، في حرماني العاطفة ممن اتوقعها منهم. احس اولا بأن يسوع بديل عن كل انسان، بديل عن زوج يخون او زوجة تخون، عن شخص كبير في الكنيسة او في المجتمع يفتري علي ويكرهني. يسوع بديل عن كل مخلوق.

          السيد لم يعدني انه منقذي من هذا المرض او ذاك وان بعث بالرسل للشفاء ولكن لا يشفى كل واحد ولا الزوج يتوب ولا القامع يبطل القمع. فعندما قال السيد: انا معكم حتى منتهى الدهر لم يرد فقط انه مع الكنيسة جمعاء في عملها التبشيري ولكنه اراد انه مع كل واحد من احبائه في الوضع الذي يكون عليه. في المرض، في العزلة، في الخطيئة وانه سيجعلها انسانيا قياميا مشدودا الى يسوع ولو بقي تحت وطأة اتعابه.

          الدنيا وادي دموع. في اليوم الأخير سيمسح يسوع كل دمعة عن كل عين. الآن نتعزى عن الدمعة بالتعزيات الروحية التي تنزل علينا وتغيرنا من الداخل اي تقيم الفردوس في النفس مع استمرار اتعابها واتعاب الجسد. مع ذلك المسيح قائم ابدا فينا.   

وفي وسط الأمراض والفقر والجفاف العاطفي نقدر ان نكون. المسيح قام.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

الانتخابات / السبت 14 أيار 2005

ناخبًا تنظر إلى المرشحين الذين رشح كل منهم نفسه، أي اعتبر نفسه أهلاً للخدمة وهذا في أفضل افتراض. وعلاقتك بالمرشح تقوم على تقديرك للشخص الذي يلتمس تأييدك بناء على حدسك شخصه وثقتك بما قدم في الماضي ان مضت عليه ولاية ولكن ان كان جديدًا فعلام تبني استحسانك؟ أنت لست في حوار فكري مع الذي تنتخب إلاّ إذا اقترح على الناس برنامجًا وإذا فعل ماذا يضمن انه ينفذه ان لم يكن مرتبطًا بحزب يوفده ويأتي هو من فكره. ليس من ثقة في عالم السياسة تقوم على العاطفة فقط.

الديموقراطية ليست تلاقي أشخاص الا إذا كانوا أبطالاً عرفت بطولاتهم. عالم الشخص هو عالم المزاج وما أمكن من الفضائل في العالم الثالث وهو عالم قائم تحديدًا على المنافع الشخصية ولست أريد بذلك منافع مالية ولكنها دوائر صلات بين النواب يتساندون لاسباب هم يعرفونها وقد لا تكون بالضرورة سيئة ولكنك تحجبها بعاطفتك التي لا مضمون سياسيًا لها.

لذلك تكلمنا مرة عن هيئات ترشيحية تعرف الطامحين وتقدمهم للناخبين. ومألوف الديموقراطية ان هذه الهيئات هي الأحزاب التي لك ان تحاسبها وتنقذها وهي لا تخشى النقد لأن مواقفها موضوعية أو هكذا نحسب. المشهد اللبناني مشهد تكتلات لا نعرف على أي معيار تشكلت وكل شيء يدل على انها انتظمت وفق حساب الأصوات التي يأتي بها كل عضو في الكتلة. أذكر ان ديغول كان يكره الاحزاب ولكنه أسس هو كتلة تجمع الشعب الفرنسي أي انه بدل كلمة حزب بكلمة تجمع. ونحن عندنا تجمعات آنية أو فورية عمرها أربع سنوات تنتظر بعدها مجموعات جديدة لا معيار في نشوئها وما من شيء يدل على انها لا تنفرط اثناء المسيرة.

هذا هو المشهد الذي علينا ان نتحرك فيه غالبًا وفق قانون الألفين الذي له ما له وعليه ما عليه. دع عليك الحزن مهما كان القانون محزنا ويحمل ضغط التاريخ والتفريق ويثبت المنافع والتهميش تاليًا. ولكن علينا ان نسير وان ندرس في فترة قصيرة تاريخ كل مرشح في منطقتنا ان كان له تاريخ اي ان نتفحص صدقه وعلمه ما أمكن الفحص. وهذا يوجب عليك ان تتحرر من تراص اللائحة المقدمة لك فلا محاسب لك إلاّ ضميرك ولست تلعب لعبة التراص التي يلعبها المترافقون في اللائحة. لم يبق من وقت لوضع برامج وإذا وضعت فتأتي مسلوقة لا تقنية فيها ومسبوكة في عبارات انشائية وشعائر لفظية الا إذا شذ فريق عن الأمر وهذا يسعدني.

معنى ذلك ان تلاحق النائب اذ تدينه من فمه كما يقول الكتاب. وتصر عليه على مراعاة برنامجه إذا انت استسغته اذ تبقى أنت موكل النائب وان لم تقل الديموقراطية انه يصغي اليك اصغاء التلميذ لمعلمه أو المريد لشيخه.

أنت دخلت اللعبة الناقصة فالعبها أعرج وطالب وألح واصرخ لأن النائب ليس وليك بل انت وليه لأن الشعب مصدر السلطات وان كتب عليه ان يوكل بعدما زالت الديموقراطية المباشرة التي عرفتها أثينا. فاذا استمررت رشيدًا تكون ضاغطًا ويأتي التشريع، اذذاك، لغة بينك وبين الجالسين في الندوة وذلك على قدر ما فيك وفيهم من اخلاص ومعرفة. فالغيرة بلا معرفة لهب لا يدوم.

هذا يعني انه يتحتم عليك ان تكون حاضرًا يوم الاقتراع لأن التشريع ومحاسبة النواب للحكومة شيء من قوام البلد وهذا بلدك. أما صمتك فمجال لابتزازك والتحكم فيك وفي الوطن فيدور الحكم، عند ذاك، آلة فارغة من ضياء فكرك. أنا أعرف ان كل المواطنين لا يستطيعون الاستنارة بسحر ساحر. فهذا يتطلب تربية أجيال وتطهرًا دائمًا من أجل لبنان. أما المساءلة فهي حول كل شيء: الثقافة أولاً، ثم التربية واقتصاد البلد ودوام استقلاله والتطلع الى توحده وسبل هذا التوحد. وأنا أعلم انك لا تقدر على ان تحيط بكل هذا لكن الجماعات الضاغطة من أحزاب وكتل أخرى مدعوة الى ان تصبح موسوعة سياسية حتى ينتقل البلد من الحلم الى العمل ومن السذاجة الى العلم. وهذا الحضور الجديد فيك وفي أترابك في النضال هو الذي يكبح مزاجية النائب وفورية مواقفه وتحالفاته ليستحق الوكالة التي هي في الاخير وكالة عن كل لبنان.

هذا بسط موجز لما سماه غبطة البطريرك نصرالله صفير الحكمة. هي حكمة هذا الدهر ولكنها لا تخلو من القبس الإلهي. ومن المهم فيها ألا تستسلم للتزوير وان تعترض عليه. ومن التزوير ألا يسمح لمندوبي المرشحين ان يقفوا حول رئيس القلم ليتبينوا ما يسجل. ومن التزوير ألا تتقيد قوى الأمن بالمحافظة على الأمن فتنحاز بالمعاملة الى هذا أو ذاك. ومنه ألا تتمكن من الوقوف في العازل.

غير ان الأهم في كل هذه العملية ألا ترتشي. قد يؤتى بك من مكان بعيد بوسيلة من وسائل النقل. ليس من هذا مانع وان كان الأفضل حفظًا لاستقلال صوتك ان تذهب الى بلدتك بوسائلك الخاصة. فالرشوة هي الدمغة الفصيحة على انك لا تحب لبنان وانك ببغاء أو عبد ولا تستحق عندئذ ان تسمى مواطنًا. المواطنية ليس فيها مال. ومن الرشوة الخوف يخيفونك به أو التهديد. ساعتئذ يجب ان تدعي أمام السلطات لأن قضيتك تتضمن حربًا على الخطيئة. والنائب إذا لم يتسربل بثوب الطهارة يكون قد اشتراك وباع الوطن. والنائب ليس فقط مرآة لك ولكنه مرآة لبنان العظيم الآتي من فجر جديد نغتسل جميعًا به حتى لا ترذلنا الأجيال الطالعة بصدقها والطالعة بآمالها.

فاذا كانت السياسة فنًا عند المبعوثين الى الندوة البرلمانية فهي عندك الى ذلك فضيلة. فان لم تكن قادرا على النسك يوم الاقتراع فلا تتقدم اليه لأنك تلطخ نفسك بقذارة الكذب. وإذا ترددت بين الكذب والصدق فأن تتنحى أفضل لك من القيام بالانتخاب.

وفي الأيام المقبلة وهي قليلة تهيأ بالتوبة فالانتخاب لا يتطلب منك أقل من التوبة، وصلّ عسى يلهمك الله الهامًا مبدعًا لنفسك ونافعًا لمن تنتخب اذ يجيئون من نقاوتك وقد يتنقون بها فيتكلم النائب كل يوم وكأنه في حضرة الله.

هذا عمل مقدس بامتياز. فالسياسة في اطلاق معناها وحكمة ممارستها ليست لعبًا ولا لهوًا ولا تذاكيًا. انها شوق الى انسان جديد يطلع في لبنان ولكن من قلب الله. صحيح ان عمل التشريع ومراقبة الحكومة لا يخلوان من ضعف ولكن لا تساهم انت في هذا الضعف ولا تقل ماذا يقدم صوتي أو يؤخر. فقد يأتي هذا الصوت بنائب جيد أو غير جيد وقد يتغير وجه البرلمان بوجوه انت أرسلتها. وقد يجتمع الصالحون ليخدموا الأمة ويقوموا المسار ويشفوا العقليات وقد ترجو بفضلهم الخير للوطن ولا تيأس منه وقد بتنا على حافة اليأس.

ويتعلم الناس من أولي الأمر أو يحزنون. وكثير من القوم يسقطون إذا الدولة سقطت وينهضون في حياتهم الخاصة إذا الحياة العامة استقامت ويقتنع الناس ان الإخلاص ممكن لانه مجسد في اخلاص القادة. ويدفعون الضرائب إذا لمسوا ان السلطة تقوم بواجبها نحوهم ويحسون ان الوطن لهم وليس للمنتفعين من أهل السلطة. فالأخلاق عظيمة عند قلة ولكنها تسترجع إذا الحكام تخلقوا بها وكانوا أبرياء كالحكماء الذين ارادهم افلاطون وحدهم حكامًا للجمهورية.

ولا تقس الحاضر على الماضي فقد يمضي الماضي وتطل الحكمة من جديد بواسطة المتولين أمور العباد فهم معك بانو الوطن إذا صدقوا وان انت صدقت لما بعثت بهم فلا تبقى دائما مشتكيًا والوطن اليوم يشتكي كله وتغدو عاملاً ومنتجًا في حقلك لضمانك أن أهل السلطة ساهرون على عملك وعلى انتاجك وعلى فهمك اذ يجب ان تتم المصالحة بين الحاكم والمحكوم وعليك أنت ان تصبح حاكمًا ومحكومًا في آن وهذه هي الديموقراطية.

هكذا فقط تبقى حرًا من السلطة لايمانك بأن القانون العادل يحميك من عسف السلطة. وحريتك لا تقوم فقط على عدل الحاكم ولكن على الحاحك عليه بالعدل وعلى رفضك الظلم وعلى ان تقول أنت والحاكم معًا الكلمة الحلال في كل وضع يناقش. ولن يستطيع نائبك ان ينحرف إذا علم بأنك معه على عهد العمل المسؤول. فانت لست معه في زواج غير قابل للطلاق. ويحق له ان يشتهي السلطة بعد كل ولاية إذا عرف ان يرضيك لانه يبرهن، عند ذلك، انه لا يرغب فيها من أجل لذته فيها. ولكن من أجل خدمتك تكون قد أوحيت اليه بالنسك الذي يجرده عن الاشتياق الى منافعه. انت درب نائبك ان يسعى الى منافع الوطن اذ تفيد انت واياه منها. وتكون بذا قد حميته من ان يكون ألعبانًا وحميت نفسك من ان تكون مهرجا.

اعط الوطن حظًا في ان يقوم من محنته ومن تراكمات المعاصي في حياتنا السياسية. اعط لبنان ان يكون لبنان على مدلول اسمه أبيض.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

احد توما / الأحد ٨ أيار 2005 / العدد 19

الفصح غاية وانطلاقة. غاية الجهاد لمن بذل في الصوم جهادا فهو يرى على قدر ما بذل من تضحيات وعلى قدر محبة الله له. وهو انطلاقة وملء للأيام التي نعيشها حتى الصعود اذ نظل في ترتيلنا: المسيح قام وفي الأسبوع الذي يلي العيد يبرز مجد المسيح بكثافة اعظم في ما نحن ننشده وكأننا نقول ان كل حياتنا هي هذا السيد القائم الذي نحوم حوله ويتحرك هو فينا ليجعلنا له.

          ومن اسطع الأنوار لرب المجد احد توما هذا الذي تعرفه العامة بالأحد الجديد لأنه الاول بعد الفصح حيث ظهر المعلم للتلاميذ والأبواب مغلقة من خوفهم اليهود. وكان الخوف في محله اذ كان الخطر في القضاء على الأتباع بعد ان ظن اليهود انهم قضوا على المعلم الذي بقي جسد في حسبانهم مخطوفا ومدفونا في مكان آخر.

          اخترق السيد الحواجز اذ لا يحول حاجز دون جسده المنور وقال للرسل السلام لكم. عبارة سلام عادية في ظاهرها ولكن المخلص أراد ان يبعث في نفوس تلاميذه الطمأنينة. وقد قال بولس فيما بعد ان المسيح هو سلامنا. فأنتم لا خوف عليكم لأني معكم الى منتهى الدهر ولا فرق بين ان تكونوا قلة او كثرة. وكانوا قلة واذا كنتم كذلك في كل اجيالكم في اي بلد فاعلموا اني انا سلامكم وانكم بإيمانكم تغلبون وقد يحاصر اعدائي اجسادكم ويحاولون ان يزرعوا فيكم الشك في قدرتكم على الصمود ولكن اعلموا اني انا سلامتكم الى الأبد ولوخطفوا اجسادكم وعذبوها لأنكم، اذ ذاك، تصبحون في سلامي على نحو اعمق مما كنتم لما كنتم مرتاحين وميسورين واحرارا بالحرية المعروفة في السياسة.

          ثم قال لهم: خذوا الروح القدس. هذه هي العنصرة في تعبير يوحنا. فالروح القدس يؤيدكم في جميع الحق وقد قلت لكم هذا في خطبة الوداع والروح ينطق بكم اذا قادكم الأشرار الى المحاكم وهو الذي يمحو الخطايا بقوة فدائي وانتصاري على الموت وهو الذي يجعلكم تاليا خلائق تتجدد بالمحبة. وانا اتصور به فيكم فلا يبقى احد لنفسه بل اكون انا فيه وهو فيّ.

          كان هذا يوم القيامة مساء ولم يكن توما معهم. في اليوم الثامن اي الأحد الذي نحن فيه اليوم ظهر السيد وتوما كان مع الجماعة وبعد ان اخبروه بأنه رأوا الرب كان يصر على انه يعاون أثر المسامير في يديه ويفتش جنبه المطعون بحربة. فظهر لهم الرب ولام توما على عدم ايمانه.

          لماذا هذا اللوم؟ ان الخطأ الذي ارتكبه توما كان فقط انه لم يصدق التلاميذ. ونحن علينا دائما ان نصدق التلاميذ اي ان تقبل كلمة الله كما هي في الإنجيل وان تقبل التراث الارثوذكسي الذي تكون في الكنيسة جيلا بعد جيل ايضاحا للإنجيل فلا يصنع احد ديانته كما يشاء او تشاء له الرياح العاصفة فيه من جراء خطاياه او من الاراء الفاسدة التي تقدمها البدع الخارجة عن الكنيسة او تأتي بها الفلسفات الضالة التي تبدو لغير العالمين شبيهة بايماننا وهي ليست بشبيهة.

          غير ان توما نفعنا كثيرا بشكه لأنه كشف لنا ان يسوع هذا الذي ظهر انما هو اياه الذي علقه قومه على الصليب وانه ليس بشبح. هذا اقوى إثبات على قيامة المخلص اي على ان المصلوب هو الذي تراءى. شك صار قوة للأجيال اللاحقة.

          فلما تأكد توما الواد التفتيش ان المعلم هو اياه قال ليسوع: ربي وإلهي. ليس الجديد في هذا الكلام ان يدعى المسيح ربا فهذا منتشر في كل العهد الجديد. ولكن الجديد ان يدعى المسيح إلها بالمعنى المطلق. ووردت كلمة الهي بالتعريف بمعنى انك انت الإله. انت الذي عرفوك في العهد القديم باسم يهوه. انت هو الإله الخالق والإله الفادي معا وبهذا نتجدد.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

لبنان الجديد / السبت 6 أيار 2005

إذا عبرنا هذا الزمان الحزين سياسيًا بسلام يبقى على كل منا ان يمتحن قلبه ليرى إذا بقي شيء من أثر الله فيه.وهذا يفترض ان ينزل اللبنانيون من سطح الوجود الى الأعمق. ما ليس عندي فيه شك ان الانسان ليس مستعدًا لتغيير قلبه لأنه يحب ما يظهر، ما يبهر. يجب ان يقال عنه دائما حسنًا أي انه يعيش في رأي الناس فيه ولا يهمه كثيرًا رأي الله فيه. لا يبحث كثيرًا عن الحقيقة التي تشفيه. يرجئ بعضهم الذهاب الى الطبيب خوفًا من اكتشاف مرض مريع. ولعل فلسفة اللبناني الطاغية هي «تسوية أوضاع». هذه كلمة رسمية في ادارة الدولة تنم عن الوجه الذي نريد ان تكون العلاقات عليه بيننا. من العبارات التي اسمعها في عملي: «يا سيدنا، ها الشغلة ما الها دبّار». وكأن ثمة رفضًا فينا لكون الحقيقة تشفي أو الصدق يشفي أو المواجهة من أجل جلاء الأمور التي تنقذ.

أجل، نرجو إصلاحات في الدولة تنشئ فينا سلوكًا جديدًا معها ويحلو لي ان أعتقد ان عندنا في المجتمع المدني مؤسسات خيرية أو فنية وأدبية تسهم في تربيتنا الجماعية. يعزيك كثيرًا الرقي الذي تراه طابعًا هذا المكان أو ذاك من العمل الانساني ما يدل على ان في القلوب رحمة وأنك إذا اخذتنا شريحة شريحة نبدو أحيانًا على كثير من البهاء.

غير اننا أمام سؤال ملح: هل نحن راغبون في تكوين انسان لبناني واحد يشارك الآخر في القيم الأساسية التي تؤلف البلد وتجدده فتصنعه. ايضاحًا للسؤال تشاهد الاوروبي مثلا متعلقاْ بقيمة الحرية واحترام الآخر والتعاون الاجتماعي والتمسك بالتطور الدائم في اكتساب العلوم والتقنيات. وقد يختلف دينيًا عن الآخر أو لا يكون على دين ولكنه تبنى القيم التي يقوم عليها مجتمعه أمن المسيحية جاء إلهاما أم من عصر الأنوار أم من كليهما.

قد نواجه مشكلة كبيرة إذا ألغينا الطائفية السياسية اذ لا بد ان تقترن اللاطائفية بفلسفة ما. ان تغييرًا ضخمًا كهذا سوف يضطرنا الى رؤية جديدة للمجتمع والعلاقة بين الجماعات. هل الأرضية الفكرية لهذا التغيير السياسي تكون العلمانية بالمعنى الذي تعرفه أوروبا ولا سيما منها فرنسا، أم لن يعني هذا شيئا سوى تنظيم آخر للوضع السياسي؟

نعيش في وحدة تركيبة سياسية وإذا تكلمنا على وحدة وطنية نشير الى نوع من الانسجام بين شرائحنا المختلفة تقل فيها التشنجات الحاملة بذار التفسخ الوطني. غير ان الوحدة الوطنية تقوم في نصوص دستورية عندنا منذ 1926 على اننا امة لبنانية أضفنا اليها في الدستور الأخير، بلا توضيح كبير، الانتماء العربي. أي أننا في المصطلح السياسي قبلنا ان نكون دولة – أمة Etat – nation. وهذا لا يمس اعتقاد القائلين بأننا نؤلف مع العرب الآخرين امة. فلما اعتبرنا لبنان وطنا نهائيًا أقررنا – بمعنى من المعاني – اننا أمة لبنانية. هذا أكثر من مصطلح قانوني.

هناك غير دولة مثل بلجيكا وسويسرا مؤلفة من غير امة ومن غير لغة وأوضاعها أعظم تعقيدًا من وضعنا اذ لنا لغة واحدة ولا تفرق بيننا أعراق وقبائل كما في العراق. وانا أنفي نفيًا قاطعًا تعدد الثقافة لأن الثقافة هي اللغة. والثقافة العربية الواحدة منفتحة وليس عندنا تاليًا من كان على حضارة غربية وحضارة شرقية. هذه تسميات لا معنى لها اليوم بعدما أقبل اللبنانيون على اللغات وتساووا بالتعليم الجامعي وانتهجوا في طرق العيش والحياة العامة والمؤسسات نهجًا واحدًا.

وعندنا جميعًا موقف نقدي من الغرب ولو كنا من صميمه حضارة. ولا نختلف في ذا عن كثير من المفكرين الاوروبيين والأميركيين في انتقاد الصراعات الغربية، ولعل الفكر الاوروبي أشد انتقادًا منا لكثير من مظاهر العيش الاوروبي. ان اللبنانيين الذين عندهم شيء من تذوق ما يجري في العالم ولهم مسحة من الروحانية لا يتبنون الغرب في هذا المظهر أو ذاك من سلوكياته. وفي هذا يستوي المسيحيون والمسلمون عندنا.

ولكي نجيء حقًا من الأعماق نحن في حاجة الى نهضة روحية وفكرية في المجتمعين المسيحي والاسلامي بعدما بدونا متفقين على ما يسميه المتحررون من علماء الاسلام في لبنان المجتمع المدني. غير ان هذا يحتاج الى تفصيل الأمور ليس فقط على صعيد التنظيم ولكن على صعيد القناعات الروحية التي تمس الرقي الوجداني والحرية وما يؤول الى ديموقراطية حق في البلد. فلا بد من قراءة متجددة للإسلام والمسيحية على أساس الأصول من جهة وعلى رجاء مستقبل مشرق.

قد تكون كل ملة من الملتين على حدة أو في الحوار في حاجة الى ارساء القواعد الخلقية التي تمس الحياة العامة وارتقاء الإنسان الى كامل انسانيته. ولست هناك معطيًا دروسًا لمن كان على غير ديني الاّ اذا تكاثرت حلقات الحوار في تطلعنا الى إناسة (انتروبولوجيا) اسلامية وإناسة مسيحية وثيقتي الاتصال بالمعاصرة ولست أقول بالحداثة حتى لا نقع في لبس الكلمة. فاذا كانت بلدان كمصر والمملكة العربية السعودية وتونس وسواها تبحث في حقوق المرأة ومكانتها في مجتمع يسعى الى التحرر من الذكورية فمن باب أولى ان نبحث نحن في هذا.

غير ان القضية أعمق وأشمل. وهنا خذوا الكنيسة الكاثوليكية مثلاً. هي شطبت من طقوسها ومن معاملاتها ما يمس اليهود (ولا يعني هذا اني أشاطرها رأيها في كل شيء) فمن باب أولى ان ينظر الكتاب المسيحي الى الإسلام نظرة أكثر ايجابية من الماضي وأكثر انفتاحًا. ومن باب أولى لا بد ان تتطهر الذاكرة المسيحية من كل سلبياتها في ما يتعلق بالتاريخ. تجاهل بعض مصادرنا للاسلام ظلم تاريخي. أجل نحن المسيحيين الشرقيين لم نسئ الى المسلمين ولا علاقة لنا بالحروب الصليبية. ولكن من الناحية النظرية لا نزال في حاجة الى رؤية الجمالات الاسلامية دون مساس بصلب العقيدة.

في المبدأ لا تتعرض المسيحية للإسلام لأنه لاحق. لكن فيه قيما وحقائق دينية نلتقي معها ومن المفيد لتكويننا الروحي وسلامة نفوسنا ان نعترف بها والحقيقة انى وقعت هي من الله. طبعًا هناك دقة في تعليم العقيدة ولكن حيثما وجدنا قربى فلنعترف بها وإذا اختلفنا فلنعبّر عن هذا بسلام وهدأة في النفوس ومن أراد ان يجادل فليجادل بالحسنى كما يعلّم المسلمين كتابهم ان يفعلوا إذا هم جادلوا.

لا أستطيع ان أطلب من المسلمين أقل ما أطلبه من علماء ديانتي. فمنهم من اجتهد ومنهم من أغلق باب الاجتهاد ويريدون بذلك ما يتعلق بالفقه. نحن في هذه الأمة في حاجة الى ما كان أشمل من هذا. لا أريد ان أفرض على المسلمين قراءة تاريخية للقرآن فهم في هذا متنازعون. ولكني أطمح الى قراءة سلامية للمصادر الاسلامية لا تحتمل التحفظ عن كون أهل الكتاب هم أهل كتاب وليس فيها تحفظ تفسيري عن ان المسيحية ديانة سماوية. كيف التعامل مع آيات التكفير والتكفير يشمل النصارى وقد بينا في موضع آخر ان النصارى قد يكونون بدعة أو بدعًا في الجزيرة العربية وليسوا من الكنيسة الرسمية. فهناك تكفير لا نرى اننا به معنيون ونحن نشاطر القرآن في آيات تكفيرية عدة لكوننا لا نقول كل ما قاله نصارى عهد التنزيل القرآني. وانا في ذا لست معطلاً للآيات ولكني معطل لتطبيقها على مسيحيي الكنائس في عهد الرسول وفي عهدنا نحن. لا بد إذًا من أجل الحقيقة العلمية من تضييق الهوة التي تفصل المسيحية الحق والإسلام.

يعني هذا الكلام ومثيله انه لا بد من مواقف جديدة لا يبتعد المؤمن فيها عن جوهر ايمانه. ولكنه يتخذ مسافة من المواقف التفسيرية القديمة. الى هذا يجيء الانسان المعاصر من وسائل الاعلام وبعضها – خارج لبنان – فظ وغير صحيح وغير دقيق بحق المسيحية، خصوصًا ان معظم هذه البلدان ليس فيها مسيحي واحد. المهم ان يعتبر كل منا الآخر أخاه ليس فقط بسبب من تعليم ولكن بسبب من القلب. هذا يعني انه لا بد من معرفته ومن الغيرة عليه وهذا يفوق كل حساب ارضي وكل ترتيب سياسي. هذه هي الأمة الجديدة. هذا يتطلب ان ننشئ مجتمعًا روحيًا واحدًا لا يكبله نص ولا يأسره تاريخ مهما ظلم. المهم ان تصنعنا الرؤية. هي التي ترسم مستقبل علاقاتنا والبلد. بلا هذه الخلفية المشتركة نبقى قائلين بالعيش المشترك. القضية ليست قضية عيش على هذه الأرض بما فيها من توازنات. نحن لا نريد توازنًا بل نريد التحامًا. والقلب الذي نجعله إلهيا أعظم من البلد. اذذاك نتوطن السماء ولكنها سماء على الأرض. والسماوات ليس فيها انفعال ولا غضب ولا ردات فعل وليس فيها ديموغرافيا ولا مناصب اذ ليس فيها خوف. هل يخاف الأخ أخاه؟ السالك في الله يحسب كل السالكين فيه أخوة له. ففي الملكوت لن يبقى من نصوص وتزول الألقاب وليس فيها لأحد درجة على الآخر الا بمقدار ما كان له في هذه الدنيا من تقوى. وأمة الله في الآخرة أمة الذين اصطفاهم ربهم برحمته واستدرجهم على معارج الحب.

أجل لا بد من دولة في الوطن تكون كثيرة الشفافية وكاملة الإخلاص لشعبها. وعلى هذا سنعمل معًا في ما وهبنا الله من صدق. وفي الدولة تحسين للناس ولكن فوق الدولة القلوب، تلك التي لا تتكون الا بالذوق الإلهي فيأتي الناس أعظم من الحكم. الدعوة الى اللبنانيين ألا يظلوا أسرى القانون وان يصبحوا قائمين في الله. هكذا يكون لدينا لبنان جديد.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

القيامة / الأحد أول أيار 2005 / العدد 18

عندنا في سَحرية الآحاد احد عشر مقطعا في الأناجيل الأربعة تتكلم عن قيامة الرب. هل تراءى المخلص احدى عشرة مرة لتلاميذه؟ لسنا نعرف بدقة الجواب عن هذا السؤال. ولكن نستطيع القول ان الإنجيل الاول المقتبس من متى وفيه إطلاق السيد تلاميذه الى العالم ليعمّدوا لا يوازيه مقطع آخر. في الإنجيل الثالث (لصلاة السَحر) رأيناه يظهر لمريم المجدلية ونراه في يوحنا يظهر للمجدلية نفسها ويدور بينهما حديث. ضمن هذا الإنجيل الثالث نقرأ انه تراءى للاحد عشر وهم متكئون. هل هذا هو نفسه الظهور الذي تم في علية صهيون في الأحد الاول الذي يذكره يوحنا؟

          الظهور لتلميذي عمواس يتفرد به لوقا. ثلاث مرات يظهر حسب رواية يوحنا، ظهورات ربما تقاطعت واختلفت الروايات. ليس هذا هو الأمر المهم. المهم ان الأناجيل الأربعة متوافقة على ان الرب لم يبق في القبر. هذا هو الأمر اليقين. كذلك بولس يتكلم على ظهورات. هذا هو إيمان الكنيسة الاولى.

          الإنجيل تكلم عن دفن بعد موت. ولكنه لم يقل ان جسد المعلم انتعش في القبر واخترق الجدار او خرج من باب القبر بعد ان تدحرج الحجر. لم يهتم للكيف. رآه التلاميذ قد مات وعرفوا ان يوسف الرامي قد دفنه وذاع الخبر في اوساط الرسل وعند حاملات الطيب انه مدفون وذهبت النسوة لتطييب جسده. وبعد هذا نراه يتراءى ويأكل ويشرب مع التلاميذ. وشهد هؤلاء انهم رأوه عدة مرات. كذلك رأوه جميعهم انه اختفى عنهم بصعوده الى السماء. عندنا للحادث اذًا شهود كثيرون.

          و “اراهم يديه وجنبه” حسب رواية يوحنا. لم يكونوا اذًا امام شبح اذ تأكدوا بعلامة المسامير والجنب المطعون ان هذا هو الذي عُلّق على خشبة. ماذا اعطتهم القيامة؟ اعطتهم اليقين ان الذي شكّوا فيه لما هربوا هو حي وانه غلب الموت. وتوطد ايمانهم به لما حل الروح القدس عليهم. القيامة اذًا حدث حقيقي شهدوا هم له فانطلقوا بقوة عجيبة يعظون اليهود انه مات ثم قام. هذا اذًا هو الرب الذي لا يعتريه فساد. وتذكروا، اذ ذاك، قول المزامير: “لا تَدَعْ قدوسَكَ يرى فسادا”.

          ثم اعطتهم القيامة ان كل ما قال عن نفسه وعن كونه ابن الله كان حقيقيا. ولا ريب انهم عندما رأوه قد مات شكّوا بأمره وبأمر تعليمه. لم يبق الآن مجال للشك. ان هذا الذي لم ينتن جسده ما كان كبقية الناس ولا سيما ان الانسانية لم تعرف رجلا قام هكذا بقوة نفسه. له اذًا في نفسه سلطان على الموت. اليعازر ما قام بقوة نفسه ولكنه أقيم بنداء المسيح له: “يا لعازر هلم خارجا”. من هو هذا اذًا الذي حافظ على علامات موته في جسده؟ هنا فكروا انه يختلف جذريا عن بقية الناس. انبعاثه يؤكد اذًا صحة تعليمه وصحة عجائبه. فصاروا يستقرئون بقوة قيامته ان ما قاله عن علاقته بالآب كان قولا صحيحا.

          الأجيال اللاحقة التي تألمت واستشهدت فشهدت صارت قادرة ان تقبل الموت بشجاعة. وكانت تُقبل الى الموت بلا خوف فقط بتصديقها القيامة. والشهادة اديناها جيلا بعد جيل في العالم كله. وسيرة الشهداء حافلة بالقدرة العظيمة عند الشهداء لا تعادلها قدرة لأحد. العذابات موصوفة في كتبنا ودُوّنت ولم تر الانسانية قدرة مثل هذه. الاستشهاد الخارق في بطولاتها دل على ان الذين ماتوا حبا بيسوع استمدوا قوتهم من قدرته هو على غلبة الموت.

          والقداس الإلهي لا يقوينا الا لأنه ينقل الينا القوة التي كانت في قيامة المخلّص. ولذلك نصير بالقرابين التي نتناول ناسا قياميين وفق ما قاله السيد لمرتا اخت لعازر: “انا القيامة والحياة”. اي ان المسيحيين يذوقون منذ الآن بطهارة قلوبهم بداية القيامة العامة.

          فالفصح الذي هو ذكرى قيامة المخلّص هو ايضا وعد بأننا نحن نخلص بها من خطايانا. فالقيامة بدأت به واستمرت بقداستنا ولذلك صار الفصح فينا فصحا مقيما الى ان نرث الفصح الأخير في الملكوت. ويكون عندئذ الكون كله قد تجلى وصار كونا من نور.

Continue reading