Monthly Archives

October 2011

2011, مقالات, نشرة رعيتي

الغنيّ ولعازر/ الأحد 30 تشرين الأول 2011/ العدد 44

مَثَلٌ من لوقا، والمَثَلُ في الأناجيل حكاية ألّفها يسوع لم تكن محكيّة في الشعب. يصوّر فيها إنسانا غنيا وآخر فقيرا. الغنيّ يلبس الأُرجوان والبزّ وهو الحرير، «ويتنعّم كل يوم تنعّما فاخرا». الغنى الفاحش باللباس والطعام والمأوى والأثاث. هذه كلها متعة يومية.

يصوّر الإنجيلي الى جانبه فقيرا مطروحا عند بابه. كان مطروحًا لأنه كان مُصابًا بالقروح. كان جائعًا دائمًا تأتيه الكلاب لتلحس قروحه. نحن مع مرض شديد يُعرّض صاحبه الى عشرة الحيوان. اسمه لعازر اي الله هو الأزر أي العون. لعل لوقا أعطاه هذا الاسم ليدلّ على أن الفقير ليس له إلا الله.

«فنَقَلَتْه الملائكةُ الى حضن إبراهيم». هذه عبارة عند اليهود ترمز الى سكنى الملكوت. كان الفقير إذًا من عُشراء الله. الإنجيلي أراد أن الفقراء اللهُ رِزْقُهم ومُعينهم.

ثم جاء في النص أن الغني «مات فدُفن». وقال لوقا انه في الجحيم وهي في لغة العهد القديم مملكة الموت، وأَوضح انه في العذاب. لا يقول الإنجيلي لماذا هو في العذاب، ولكن مما سبق في النص الإنجيليّ نفهم أنه لم يكن يُشفق على الفقير ولم يكن يلحظه مطروحًا قرب باب قصره. هذا الغنيّ توجّه الى إبراهيم ورأى الفقير في حضنه. اشتهى أن يكون في الملكوت، ولكنه لا يستطيع أن يُلغي العقاب الذي استحقّه في دنياه، وأوضح الكاتب هذا بقوله: «بيننا وبينكم هوّة عظيمة قد أُثبتَت». اشتهى أن يغيّر ذووه الأغنياء مثله سلوكهم باقتبالهم رسولا من السماء. سأل هذا إبراهيمَ الذي يقتبل في حضنه أبناء الملكوت.

أتى الجواب قطعيًّا: «عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا منهم». يقصد بموسى والأنبياء كُتُب العهد القديم التي تُعلّم الرحمة وكيف يخلص بها الانسان ليس أن الله بطبيعته شديد العقاب ولكن الخطيئة تُعاقِب صاحبها وتمنعه من رؤية الله ومن مُشاركة القديسين. كان لوقا كثير الوضوح بقوله عن أهل الغنيّ وأصحابه: «إن لم يسمعوا من موسى والأنبياء فإنهم ولا إن قام واحد من الأموات يُصدّقونه».

نحن نُمتَحن على محبتنا التي نُظهرها في هذه الدنيا. فإن وُجدتْ فينا على الأرض تبقى في النفس التي يستردّها ربنا اليه، ومحبتنا الباقية فينا هي خلاصنا. والمحبة هي أولا أن نرى الآخر وحاجاته وأن نجعله يحسّ أنه أخ وأن ما لنا هو له. إنه شريكنا في ما نملكه. وهي من حقّه علينا. إذا حصلنا على ثروة فنحن أُمناء عليها لا في سبيل ملذّاتنا ولكن في اعترافنا أنها أمانة لجميع الذين هم معنا وحولنا إذ لا يجوز أن يبقى أحد بلا طعام وكساء ومأوى.

ما لنا ليس في خدمتنا وحدنا. إنه للإخوة جميعًا ولا سيما للمعوزين الذين نحن وكلاء الله في خدمتهم حتى نُمجّد الله بما أَعطينا ويُمجّدوا هم بما أَخذوا.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

النميمة / السبت 29تشرين الأول2011

اذا اردت الا تواجه نفسك اي حقيقة وجودك يصير لسانك سيفا على الاخرين لتقتلهم فيك اذ انت عاجز عن إبادة خطاياك او لا تراها لئلا تخيفك وتبقى مضطجعا على ذاتك التافهة. عندما يصير كل الكلام في السياسة مسيطرا على السياسة الخارجية اي طعنا ببلد آخر هذا يعني ان الزخم الجمعي في البلد المثرثر دليل الفراغ فيه والانتفاخ هو الفراغ. الآخر، اذ ذاك، جريحك او قتيلك اذ لا ترى نفسك ذا جروح او قريبا من التلاشي. انت لا تقدر ان تعترف لأن الاعتراف هو الكشف والكشف بدء التداوي او كله وهو اليقين ان الآخر طبيب لك او انك ناتج من فحصه ونصحه.

الثرثرة هي القوقعة اي هذا الانطواء على الفراغ. لا تستطيع ان تتحمّل الفراغ فتهرب منه لتدمير الآخر غير مدرك انك تدمّر نفسك. انك تبدأ تدميرها اذا أحسست ان الآخر اذا أحبك تكتشف ذاتك الحقيقية وتحبها اذا رغبت في إصلاحها بالمشاركة وهي نظرة الناس اليها بحب. تنوجد انت فقط اذا أحببت وانحنى عليك من أحب ربه. لعلّ الغاية الوحيدة لله في خلقه مسيرة المحبة فيه. فيها فقط يتجلّى الله والمحبة اقتفاء الكلمة الذي من البدء كان.

اما اذا انطويت فلا بد لك من حديث يأتيك من الفساد والشر فيك وقد أغراك الهوى ونعني به جذور الخطيئة. اوساخ تعرف انت طبيعتها او لا تعرف ولكنك تنزعها من عمقك ونتيجتها الأذى ولو لم ترده صراحة وعمدا. ولكن لا بد من الأقذار ان تخرج لتقبع في نفس اخرى ما لم ترفضها هذه النفس لكونها طاهرة. فلا يصيب السهم دائما فتؤذي النميمة صاحبها فقط.

#   #

#

الاخلاقيون يميزون بين الافتراء والنميمة. لم أجد في القرآن سوى افترى، وفي معظم الآيات هو الافتراء على الله كذبا او هو التكذيب بآياته ام سمى القرآن اعداءَ المسلمين مفترين من أمثال ذلك: «ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب» (سورة المائدة، الآية 103)، «ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون» (النحل، 116).

الكذب خوف عند فاعله وتجريح للآخر. هذا هو الافتراء ولكنك قد تقول عن الآخر امرا واقعا لا كذب فيه اما لأنك ثرثار او لقصد التجريح. تقول مثلا: هذا سرق وفي هذا تتحدث عن أمر حصل. هذا ما يسميه علماء الأخلاق نميمة ويقولون افتراء اذا لم يحصل سوء وانت اخترعته.

اي كشف لعورات الناس يسيء اليهم اساءة كبيرة لأن هذا يدعو من له مصلحة بهذا الى ان يمزقهم تمزيقا وقد تلازمهم نميمتك طوال حياتهم. هذا يصح كثيرا اذا تناولت عفة النساء بطعن. يصدّق الناس هذا بسرعة ولا يسعون الى تدقيق في الأمر. وقد ينتقل الحديث من لسان الى لسان ويدمر عائلة او عائلات وانت مدعو الى ان تكون عن آثام الناس صامتا والصمت ينجّيك دائما من الإفصاح الرذيل. الصمت مراقبة للنفس عظيمة اذ كثيرا ما تخلو هكذا في حقيقة ربها لأنها تكون منشغلة بالتوبة. اما الثرثار فلا يعرف التوبة.

قد تجعلك اجتماعيات سامعا لكل شيء. هذا ترميه في بئر الصمت ولا تترك لنفسك مجالا للتأمل في معاصي الناس خشية ان تقع فيها. آباؤنا حذرونا من ان نتذكر خطيئاتنا الماضية بعد ان تبنا عنها خوفا من ان تغرينا بها ثانية. انت تتأمل في الفضائل وجمالها علها تجذبك اليها ولا تتأمل في الفاسدات لئلا تحلم بها او باقترافها.

#   #

#

اقرأ هذا: «اللسان نار، وهو بين أعضاء الجسد عالم من الشرور ينجّس الجسد بكامله ويحرق مجرى الطبيعة كلها بنار هي من نار جهنم. ويمكن للإنسان ان يسيطر على الوحوش والطيور والزحافات والاسماك، واما اللسان فلا يمكن لإنسان ان يسيطر عليه… وهذا يجب ان لا يكون، يا اخوتي» (يعقوب 3: 5-13). اذا كان الرسول يرى الصعوبة في عفة اللسان ويطلب الينا مع ذلك العفة فهذا يعني انها ممكنة ان التمسناها من الله.

الله لا يريد منك إلا نقاوتك اذا كانت قوية فيك تصبح ينبوعا لنقاوة الآخرين. كل منا يريد ان يكون محبوبا. لذلك يتقلص ويحزن ان انت افتريت عليه. كذلك يحزن ان نقلت عن لسانه ما أسره لك شخصيا. خذ هذه القاعدة ان تعتبر ان ما يقوله احد لك كثيرا ما لا يريد او يجرؤ الى قوله لسواك. كل ما نسمعه اعتبره سر كما يقول المسيحيون. اما اذا أدركت ان إشاعة حديث بلغك ينفع الناس ويقويهم في الحق فأشعْهُ على الا تكشف حديثا ائتمنت عليه وما أراد صاحبه ان تذيعه.

«المجالس في الأمانات» قاعدة سلوكية عندنا. لذلك كان الصمت اولى وأنفع في معظم الحالات. هنا استعفاف يبنيك ويبني الآخرين. ليس كل ما تعرفه مشاع. معظم الأشياء ملك لأصحابها ولمن ائتمنوهم، فتقيّد بهذا حفظا لطهارتك وحفاظا على سلامة الآخرين وصيتهم.

كل انسان سره له وقد تسمح له الصداقة ان يخبر عنه اذا تأكد ان ما يقوله ليس فقط لا يؤذي ولكنه نافع. تحصّن بالصمت يجعلك مبلغا بصمتك. انه لا يحتاج دائما الى كلماتك لينقل الخير الذي اختزنته. الانسانية شركة محبة والمحبة تحتاج الى شهود يحيون انفسهم بالوصايا الإلهية ويحيون الناس بعطفهم ولطفهم ومعاضدتهم في الخدمة. هؤلاء كان الله بهم رحيما.

Continue reading
2011, مقالات, نشرة رعيتي

مِن سيرة بولس/ الأحد 23 تشرين الأول 2011 / العدد 43

في رسالة اليوم يقول بولس الرسول انه بَشّر أهل غلاطية بالإنجيل. هو يدُلّ بهذه الكلمة على تعليمه ولا يقصد الأناجيل الأربعة التي لم تكُن مدوّنة عندما أَرسل هذه الرسالة الى أهل غلاطية. ثم يقول انه لم يتسلّم هذا التعليم من إنسان ولا من واحد من الإثني عشر، بل تسلّمه من الرب مباشرة اي بإعلانٍ أَعلنه له السيّد.

ويُثبت هذا الكلام بأنه لما كان في ملّة اليهود كان يضطهد كنيسة الله بإفراط ويُدمّرها، ونحن نعلم هذا من أعمال الرسل حيث قال هذا. فلما ظهر له المُخلّص على طريقه من اورشليم الى دمشق حوّله الى تلميذ له لم يوجد آنذاك في حماسته وإخلاصه وسعة علمه وعمق لاهوته أحد.

هذا لمس عند ظهور الرب له على طريق دمشق أن الله أَفرزه اي اختاره من جوف أُمه ليكون له تلميذا ودعاه الآب بنعمته أن يُعلن ابنه فيه ليبشّر به بين الأمم الوثنية، وبهذا أخذ في ما بعد تفويضًا من التلاميذ حتى قال: «لساعتي لم أُصغِ الى لحمٍ ودمٍ» أي لم أَسلُك حسب انفعالات بشرية، ولكن أَسلمتُ نفسي لصوت يسوع وأمره.

كان بولس يعرف أنه أساسيّ أن يتّصل بالرسل ليوحّد نفسه بهم لا ليأخذ منهم سلطانًا إذ اتخذ هذا السلطان من المسيح مباشرة. ويوضح أنه من دمشق انطلق الى ديار العرب. ويعتقد المفسرون أن هذه الديار هي حوران وكانت في الإدارة الرومانية تسمّى العربية.

ماذا فعل هناك؟ ربما وجد بعض المسيحيين القلائل وعايشهم لأن حوران ليست بعيدة عن دمشق. وما من شك فيه أنه كان يصلّي ويختلي بربّه ويعلن له ربّه حقائق الإيمان، وهذا يؤكد ما قاله في مطلع هذه الرسالة.

ثم يقول: «إني بعد ثلاث سنين صعدتُ الى اورشليم». هو لم يقضِ سابقًا، أي بعد تنصّره، وقتًا في اورشليم. وذهابه اليها بعد هذا الغياب الطويل كان هدفه أن يزور بطرس. معنى ذلك أنه كان يعرف أن بطرس لم يكن قد غادر فلسطين في السنين التي قضاها بولس في ديار العرب. عرف بولس ذلك بطريقة ما. فقال: «أَقمتُ عنده خمسة عشر يومًا، ولم أرَ غيره من الرسل سوى يعقوب أخي الرب» (اي نسيب الرب يسوع).

ماذا كان يعمل بولس هناك؟ لا شك أنه كان يصلّي كل يوم مع بطرس ويتحادثان في اللاهوت.

الى هذا يدلّ هذا الكلام على أن بقية الرسل كانوا قد غادروا فلسطين الى بلاد التبشير. ولا نقرأ في أعمال الرسل أن بولس استطاع أن يتصل بأحد منهم، ثم نراه على علاقة مع بطرس في أنطاكية.

نستدلّ من هذا الكلام أن بولس سعى أن يبقى ملاصقًا للرسل. نحن نبقى مع كنيسة الرسل التي هي كنيستنا. لا نستطيع ان نعيش بعيدين عن الإخوة. إنهم جسد المسيح.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

الأرض الجديدة / السبت في 22 تشرين الأول 2011

الله في كل نفس بشرية. يملأها ولا تحده لأنه ليس في مكان ويملأ كل مكان. وهو الذي يحيي النفس ولو تسربت اليها الخطيئة لأن هذه لا تستطيع ان تلغي الحضور الإلهي في الذات البشرية. فان هذه صنعها لما جعلها على صورته. القلب البشري وحده سماء الله وانت تدخل قلبك لتراه أكان ذلك قبل الموت ام بعده. واذا اواك الرب في نعمته لا يلغي موتك مأواه. بعد فراقك هذا الوجود انت لا تصعد الى السماد اذ ليست هي فوقك ولا تنزل الى الجحيم لأنها ليست تحتك. انت «في الصعود» امام الله تعزية لك وحياة ابدية وانت ايضا امامه في الجحيم وليس هو الذي يعذبك ولكن خطيئتك تعذبك. المواجهة مؤلمة اذا لم تشأ هنا ان تصبح من جنس الله.

فاذا كنت لا تصعد ولا تنزل تكون انت المقر للحسن وللسوء فتجيء بالحسنات اليك وبالسيئات اليك. يقول القديسون عندنا ان البهاء الإلهي والقباحة لا يجتمعان فيك بمعنى ان الله يطرد المعاصي المتعششة فيك وهم ينطلقون من ان الفضائل متماسكة والرذائل متماسة. هذا نعرف شيئا منه. فالسارق لا محال يكذب ومن قتل يرتكب كل المعاصي او قادر ان يرتكبها. القديسون نظروا الى نهاية الجهاد حيث تتلاحم كل الفضائل فينا واذا انقطع الجهاد تتواصل الرذائل. ولكن على طريق السمو او السماء وهما واحد . انت في صراع مع ما في نفسك التي تلتقي فيها مشاعر متصادمة كأنها ملعب لأحاسيس متضاربة تختلف بين شخص وآخر. الواقع ان ثمة فضائل تتضمّن اخرى او تقويها اذ ما من شك مثلا انك لا تبلغ التواضع الا تجمعت فيك ذروة المحاسن.

اذا صحت هذه القراءة تكون النفس مشدودة بين مشاعر متناقضة الا عند الذين تحرروا من الهوى كما يقول المتصوفون الارثوذكسيون اي الذين بلغوا ذلك الهدوء الذي يقيمهم في عدم الانفعال بالشهوة. اما نحن ساكني الارض فنبقى في الصراع حتى يتم الله علينا رضاه ويرفعنا فوق هذه الترابية المحزنة.

#   #

#

ليس عندنا شيء مقبل لا نذوقه في هذه الدنيا بمقدار. لذلك صح قول المشككين ان جهنم هنا والسماء هنا ولكن الخطأ عندهم نكرانهم ان الـ «هنا» يمتد الـ «الهناك» لكون الانسان دائما بقوة القيامة التي يحملها او بقول الله انه باعثنا من القبور. في المصطلح المسيحي عندنا الدهر الحاضر والدهر الآتي. مشكلتنا مع الملحدين ان بنكرانهم وجود الخالق ينكرون اي وجود للإنسان بعد موت. ينتهي الإنسان عندهم مع هذا الدهر. ربما لهذا سماهم الرب دهريين. عندنا ان الدهر الآتي تتويج للدهر الحاضر. فاذا كان زمانك الحالي زمانا الهيا يبقى كذلك بعد موتك واذا كان ملؤه الشر يبقى قبيحا بعد فراقك هذه الدنيا. عندما نتكلم نحن عن سماء وجهنم كحالتين من الدهر الآتي لا ننسى ان هذا الآتي يبدأ هنا. السماء ليست اذًا، حسب التصور التقليدي، ما تسعى اليها فوق ولكنها الاتية اليك هنا. هي تنزل. انه مصطلح لغوي فقط ان نقول سماء بالعربية لندل على السمو والارتفاع لأننا نشبهها الى الجبال التي ترتفع اليها من السهول.

كذلك جهنم التي تعني بالعبرية وادي هنم الذي كان محرقة الزبالة في اورشليم (القدس) يملكها انسان مدعو هنّم تعني بالتصور الموروث مكانا لعذاب النار. طبعا ليس من نار خارج ما يحرق الجسد او المتاع في هذه الدنيا. ليس في الدهر الآتي من امكنة. الله وحده هو الوجود. الكتب المقدسة استعارت لفظة النار لأنها مؤلمة جدا وأقصى درجات الحريق تسبب الموت.

جهنم فيك ولست انت فيها. ما لم يمت ضميرك – ولا يموت الى النهاية- فعذابك هو الخطيئة. وكلما قوي ايمانك وارتكبت يقوى ألمك الداخلي ولا نجاة منه الا بالتوبة اي بالاقلاع الكامل عن الخطيئة وحب الرجوع الى وجه الله. عند التماسك هذا الوجه تنزل اليك السماء وتطرد ما فيك من بقايا الخطيئة اي يمكنك انت طرد السماء او طرد الجحيم. ويمكنك -ان لم تكن مؤمنا جديا- ان تتلاعب بينهما.

هنا تتبين ان من نسميهم قديسين هم وحدهم أنصار الله حتى الأخير لأنه هو وحده حبيبهم. انهم آثروا وجهه على كل وجه وحلاوته على كل حلاوة. يدفعون ثمن هذا الحب غاليا. انهم لقد انقطعوا عن كل ما يعيق اتحادهم بالرب. كل معصية اتحاد. لذلك عليك ان تميتها فيك لتتحد بربك. وهذا حسب تعبير الروحانيين عندنا زواج. النفس في لغتنا عروس الله اذا أبادت نزواتها وقالت فقط ما يقوله لها الرب وحفظت وصاياه.

#   #

#

هذا الذي ينشئ نفسه على كلام الله يكون من كلام الله. لا يعمل من اجل ربح السماء. انه ربحها منذ الآن. عير ان من تأكلته خطاياه يحس انه في الجحيم لأن بين الإنسان ذي الضمير الحي والخطيئة نفورا. انه عند كل خطيئة هو مرمي في النار. في الوقت نفسه يجوع الى الله. حتى الانسان الطاهر جائع الى الله اذ يتوق الى ان يسكنه روح الله دائما وفي عمق. يأبى الانسان الصالح ان تلطخه المعصية ويعطش الى ان يجبهها في كل حين. من المحزن طبعا الا يحس بعض القوم بخطورة المعصية وقباحتها. تدخل اليهم ولا يأبهون لها، يعايشونها بلا احساس منهم بخطورتها. يبقى واجبنا ان نكشف لهم جلال الله لينجذبوا اليه ويحيوا به ويتحسسوا جسامة الخطايا. هناك خطايا يصعب استئصالها ولا سيما اذا عتقت. لها كيانها، حضورها الفاعل. مع ذلك لا يسوغ ان نيأس من انسكاب نعمة الله على هؤلاء. اذا اكثرنا الصلاة من اجلهم لهم بها فرصة التجلي فيسكنون بهذه الأنوار التي حلّت فيهم بعد ان صاروا خلائق جديدة.

اهمية الصلاة من اجل من نعرفه غارقا في بحر من سيئات ان السماء لجميع ساكنيها. ان ودنا لهم ان يبتغوا البرارة حتى لا يرضوا انفسهم في الرذائل. ونحن لا يجوز لنا ان نفرح بخلاص فردي. الله يريد الكل ان يخلصوا. ان نتمم مشيئته هو ان نريد ما يريد وان نسعى اليه. واذا هبطت السماء الى هذه الأرض تتجلى الكنيسة -العروس ونصير واحدا في القداسة.

الى الصلاة تأتي هذه الوحدة بالقدوة. ان ترى مثلا ناسا صادقين طوال معرفتك بهم يدفعك الى الصدق. الناس بالقدوة يطهرون بعضهم بعضا وينشئون جسد المسيح.

كل ما في الأرض باطل قبل ان تصبح الأرض سماء فيما تقوم بأعمالها العادية، فيما تأكل وتشرب وتتآلف على الحب. القضية الوحيدة ان نستعيد الفردوس المفقود الى الدنيا التي نسكن حتى تردم الهوة بين الله والناس ليفرح الرب بأبنائه ونفرح نحن بأبوته.

السماء الجديدة التي يتكلّم عليها سفر الرؤيا هي الأرض الجديدة التي يسكن فيها العدل. هذه الأرض يجددها الله وأحباؤه في كل حين. اليوم، اليوم اصنعوها لمجد الله وفرحكم.

Continue reading
2011, مقالات, نشرة رعيتي

مَثَل الزارع / الأحد 16 تشرين الأول 2011 / العدد 42

في كل زَرْع زارع وزَرْع مثل القمح وأرض مزروعة أو نحاول أن تكون مزروعة. هذه أشياء قالها يسوع في مَثَل هو ألّفه. يسوع من الناحية الأدبية في الأناجيل الإزائية اي الثلاثة الأولى واضع أمثال.

في هذا المثل يتكلم اولاً على أنواع الأرض. نوعٌ من الحَب في أرض أولى وقع فيها الحب على الطريق وليس على الأرض فأكلته طيور السماء، وعلى أرض ثانية وقع على الصخر فلم ينبت اذ اختنق بالشوك، وعلى أرض ثالثة نبت وأَعطت الحبةُ مئة ضعف وهذا نادر جدا. فلما سأله التلاميذ عن معنى المثل أَوضح انه للتلاميذ فهم ولغير تلاميذه ليس من فهم. فبخلاف ما يعتقد البعض ليس المثل لتسهيل الفهم. يجب ان يكون قلبك منفتحا لتفهم.

أَدخل يسوعُ تلاميذه في الفهم وقال: الزرع هو كلمة الله، والزارع طبعا هو الله، والله وكلمته واحد. عاد الى الأرض الأولى وأوضح أن الذي وقع على الطريق هُم الذين يأتي إبليس وينتزع الكلمة من قلوبهم. هؤلاء لم يسمعوا شيئا او لم يريدوا أن يسمعوا. هي حال الكثيرين منا. هناك فئة أُخرى تسمع الكلمة الى حين وليس عندها استمرار في الطاعة. ليس لها أصل. وهنا يُصرّ يسوع أن الكلمة الإلهية تضعها انت على الكلمات الإلهية السابقة. انت تُنمي معرفتك للكلمة اذ تُسلم قلبك الى الله. عندك استمرار في تقبّل الكلمة وإلا تقع عند أول تجربة. ليس عندك قوة لصدّ التجارب.

النفس التي تشبه تلك الأرض التي كان فيها شوك هي التي تختنق «بهموم هذه الحياة وغناها وملذّاتها». جزء من هذا الكلام ردّدته الكنيسة في نشيد الشاروبيكون في القداس الإلهي: «لنطرح عنا كل اهتمام دنيويّ»، أي لا تكن الدنيا شاغلتنا او ضاغطة علينا. هذا لا يعني أننا لا نتعاطى في الدنيا عملا، ولكن يبقى قلبنا عند الله. لا تكون الدنيا تحصرنا فيها.

هموم الحياة يوضحها لوقا الإنجيلي بشيئين: الغنى والملذّات. الغنى الذي نستبقيه في جيوبنا او المصارف ولا نشارك الفقراء فيه يستبدّ بنا حتى يصير ربّا. عند ذاك انت تسمع لهمساته او وسوساته ولا يبقى لك وقت او قوة لتسمع لكلمة الله. الغنى يُسيّرك ولا تُسيّرك الكلمة.

أنت عبدٌ لما تسمع له: عبدٌ للمال اذا شئت او عبدٌ لله اذا شئت، عبدٌ للخطيئة او عبدٌ للبرّ. هذا يعني أنك تختزن البرّ في نفسك وتثمر بالبرّ لأنه يزيدك إذا اقتنيته. وهذا يتطلب صبرًا طويلا دائما. والصبر أن تستقبل الله فيك على الدوام ليطرد الرب كل ما يجرّبك اذا جاء المجرّب. أن تحب الله عاملا فيك هذا هو الصبر المسيحيّ. انت لتستمرّ كذلك يعني أنك تتقبّل النعمة اذا نزلت عليك وتُعطيها فورا. هذا يعني ألاّ تؤجّل عمل الخير الى الغد إذ قد لا يكون لك غد. وهذا يعني أن تحب كلمة الله وتؤمن أنها هي التي تُجدّدك وتطرد عنك كل رغبة في الخطيئة.

افهمْ أنك لستَ الزارع وأنك فقط متقبّل الزرع الإلهيّ حتى لا تستكبر. أَطع ربك ولا يبقَ فيك إلا أثره فتصبح إنسانا إلهيا.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

الأقباط / السبت 15 تشرين الأول 2011

«وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط ان الله يحب المقسطين» (المائدة 42). هذه كلمة مرسلة الى القائمين على الحكم في مصر الذين نزل عليهم حلم الحرية، وهي تتضمن السلامة والعدل والسلامة بين الناس. ومن أسس العدل الا يُستصغَر (بفتح الغين) احد في اية كتلة من القوم. انا لست سائلا اهل الحكم عما فعلوا الأسبوع الماضي او ما فعل بعض من أقباط. نحن نسعى الى ما كان اهم من حدث واحد ولو مؤلما جدا. نحن ساعون الى ديمومة علاقات مجموعات يشير الى وحدة الشعب المصري قبل ان يضطر هذا اوذاك من الأمة ان يأسف ويعزي بعد فوات الأوان. الرؤية الا يحل وقت نعاين فيه مذبحة اخرى صغيرة كانت ام كبيرة.

طبيعي ان نناشد المسلمين في مصر ونحن أكيدون ان معظمهم أمة مسالمة غير ان للفاضلين ان يربوا الأمة كلها ولا يترك للرعاع شأن الوطن كله. لماذا يتوالى حرق الكنائس. لست أعلم نية الحكام الحاليين في شأن استئذان المسيحيين السلطة في شأن بنائها وترميمها تصل الى استئذان إقامة مرحض في المبنى الملحق بالكنائس. هذه جزء من تشريع عثماني لم يعدل مع الاستقلال. ولكن لماذا لم يطبق هذا في بلاد الشام مرة واحدة وأشاد المسيحيون الكم الذي ارادوه من البيع. اين هذه القسوة من العهود العمرية؟

اذا كانت السلامة جزءا من الحرية فالسلامة تتطلب من العرب الى اي دين انتموا ان يصلّوا. ألم تفهم مصر ان الأقباط اوجدهم ربهم ليبقوا كما اوجد المسلمين ليبقوا الا اذا اعتقدت مصر انه لخيرها وتقدمها العمراني ان التخلص من الأقباط نافع لهذا البلد العظيم. بالله قولوا لي كيف القضاء على الأقباط نافع للجماعات الدينية الأخرى في البلد؟

مذبحة وراء مذبحة تجيز لنا ان نعتقد ان ثمة خطة لإراقة الدماء لا أستطيع ان افهمها الا لمصلحة الاشرار وهي بالتأكيد لمنفعة اسرائيل. وقد بينت في مقالات اخرى ان عند اليهود عداء للمسيحيين خاصة. ولكن بين المسلمين حكماء كبار قادرون على الدعوة الى التعايش مع المسيحيين وهؤلاء يسمعهم الشعب الذي تدفعه قلوبه الطيبة ان يراعي حرية الأقباط في عبادة مأذونة في التشريع وفي التعبير عن الفكر اللاهوتي شعبيا او اكاديميا في عقل مصري عال قائم على العطاء للأمة وعلى تلقي ما عند الأقباط من فكر.

#   #

#

عندما كنت أتردد الى مصر كان عدد الأقباط الذي كانت دوائر الدولة تقر به لا يتجاوز النصف او الثلث من العدد الحقيقي الذي تعرفه الكنيسة بسبب من واجب الإحصاء في الرعايا. وكأن الحكم نفسه في هذه السنوات الخوالي ضالع في استصغار الأقباط. هل للحكم الذي يسعى ان يقوم اليوم مدني حقا لكي لا يخفي الحقيقة؟ هذا الاستصغار مريب ومصر تقول منذ جمال عبد الناصر ان قوميتها عربية وتاليا ان الأقباط عرب والعربي اخو العربي في السراء والضراء. الزاوية العربية مقاربة شرعية لوحدة مصر. واذا اصر المصريون شعوريا على الوطنية المصرية فلا احد ينازع الأقباط على هويتهم.

انا أناشد المسلمين في العالم ان يكون المسيحيون العرب هاجسهم. في الاسلام المسيحيون في ذمة المسلمين اي في رعايتهم. نحن من انصار حكم مدني لا يكون احد فيه في رعاية الآخر. مع ذلك يطلب الاسلام الى اتباعه ان تكون لهم غيرة على اهل الكتاب وان يسندوهم في حكم معتقدهم. وهذا قد يتطلب تعاونا اسلاميا عالميا ليحافظ المسلمون على المسيحيين في ديارهم. ورجائي يتركز ليس على الدول الاسلامية وحسب بمقدار ما يرتكز على تقوى الشعوب الاسلامية.

قد تكون الغاية الأولى من الحوار المسيحي-الاسلامي في الظروف التي نمر بها الحفاظ الكامل على الجماعات المسيحية العائشة في دار الإسلام. والاتكال هنا علي المثقفين المسلمين المتدينين في كل مكان. وهذا التحرك من شأنه ان يحس المسيحيون انهم في أمان. لنا ان نرجو الى المسلمين ان يتمسكوا بديانتهم من هذا القبيل فلا نشك بهم ولا يشكون بنا. ولهم في معتقداتهم ما يجعلهم قرباءنا وان يجعلنا من قربائهم فنشعر ويشعرون اننا معا من ملة ابراهيم. لا نريد لهم الا الخير وتقدمهم في كل ما يعود من خيرات هذه الأرض.

ونحن نقول لهم صادقين ما ورثناه من الإنجيل اي المحبة وهم يقدمون لنا الرحمة التي في كتابهم وتلتقي قلوبنا بما فيها من نقاوة وإخلاص. وليس احد منا صاغرا عند الآخر.

#   #

#

نحن ننتظر ان يضبط الحكم في مصر وغير مصر الاوضاع لأن للحكم قدرة على القسط او بلغة اليوم على المساواة وعلى الحرية في المساكنة الوطنية.

سيء هو الإنسان الذي يبيت للآخر الأذى وصالح ذلك الذي يريد له النمو والازدهار ويتقبله تقبل الأخ لأخيه.

المسلمون والمسيحيون رزقهم الله احترام الحياة، الحياة للكل. «ولئن بسطت يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي اليك لأقتلك اني أخاف الله، رب العالمين» (المائدة، 28). هذا اشتهيه ميثاقا الهيا بيننا، ميثاقا يلغي القتل الجماعي بصورة قطعية اذكروا ان الدين يقوم على الشهادة اي إرادة ان يبقى الآخر على حريته. «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» (البقرة، 256). هذه قاعدة مطلقة لا تنسخها آية أخرى في ما يتعلق بأهل الكتاب. من هنا ان المسالمة اساس اسلامي لمعايشة المسيحيين. هذا مبدأ يحلو لي ان يقوى في دار الإسلام ويحلو لي ان يفهم اهل الغرب اننا في هذا الشرق نريد ان يحب بعضنا بعضا وهذه قاعدة في المسيحية تشمل في الحب كل انسان بصرف النظر عن دينه، من حيث ان البشر جميعا هم اخوة في رؤية الرب لهم.

الأحب عند الله ان تكون المجزرة قد انتهت في مصر لأن مصر ليست بلد الفتنة اذا ترك الشعب لضميره. في المشرق الذي يضم سوريا ولبنان ليس من سابقة قريبة لذاكرتنا فيها تقاتل لا سيما ان كل جماعة دينية تعتبر الأخرى أصيلة فلا العثمانيون او المماليك اتوا بالمسلمين ولا الفرنجة اتوا بالنصارى. نحن معا هنا من اقدم العصور وذهب كل منا مذهبه وعلى قدر التصور البشري سنبقى معا في هذا المشرق العربي ملتصقين بالرحمة الالهية وبالثقة بيننا الى ان يرث الله الأرض ومن عليها واذا قدرنا نحن ابناء سوريا ولبنان وفلسطين التاريخية ان نلازم بعضنا بعضا فلا شك ان هذا يصبح نموذجا للمسلمين والمسيحيين في كل الأرض ولا سيما في ديار العرب سوف نحمل مصر وشعبها في أدعيتنا وسوف يكون عيشنا الواحد في أرض العرب دعوة الينا جميعا لنبقى واحدا في رعاية الله.

Continue reading
2011, مقالات, نشرة رعيتي

هيكل الله الحي / الأحد 9 تشرين الأول 2011 / العدد 41

في فكر يسوع أن هيكل اورشليم سيُهدم، وفي فكر بولس أنه لم يبقَ له معنى لأن الله لا يسكن هياكل مصنوعة بالأيدي. فاستعاض الله عن الهيكل بأنه سيسكن هو في الناس. «إني سأَسكُن فيهم وأَسيرُ فيما بينهم وأَكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا».

عندما يقول «سأَسكُن فيهم»، يعني أنه يجعلهم كنيسة له، أُمّة مقدّسة كما سيسكن في قلب المؤمن بالروح القدس. وأما قوله «وأكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبا» بصيعة المضارع اي الفعل الدائم فيدلّ على أن محبة الله لشعبه باقية الى الأبد وتَظهر أُلوهة الرب بالتفاته الدائم الى شعبه، وهذا يتكوّن شعبًا له لمعرفته أنه محبوب. ليس من شعب بالمعنى الاجتماعي. يصير شعبًا لله لكونه يُقابل محبة الله له بطاعته للرب. الله يحبّ، والشعب يطيع كلامه. شعب الله يُكوّنه الله ولا يكوّن هو نفسه.

واختصاص هذا الشعب بهذه المحبوبية يدفعه الى قبول كلمة الرب: «اخرُجوا من بينهم واعتزلوا». هذا انفصال معنويّ بالإيمان عن الوثنية وليس انفصالا اجتماعيا إذ لا بدّ أن يبقى المجتمع المَدنيّ والسياسيّ قائمًا، ولكن هناك من كان لله بالإيمان وهناك من ليس له هذا الإيمان.

ويوضح الله وجهًا من وجوه أُلوهيته أنه يكون لنا أبًا ونصبح نحن له بنين وبنات. هذه هي عائلة الآب كما يسمّيها بولس. هذه هي الولادة الجديدة او الولادة من فوق كما وصفها السيد في الإنجيل الرابع. وإذا كنّا عائلة الآب فمطلوب منّا أن نستمر في هذه العائلة، ولذلك يأمرنا الرسول أن نُطهّر أنفسنا من «كل أدناس الجسد والروح». هناك خطايا تُرتَكب في الجسد، وهناك خطايا تُرتكب بالنفس فقط كالكبرياء والبغض وكل أنواع الحقد.

عندما نسعى الى الابتعاد عن كل خطيئة «نُكمل القداسة بمخافة الله» اذ القداسة هي التشبّه بالله المنزّه عن كل خطأ وكل خطيئة. وفي هذا قال الرب: «كونوا قدّيسين كما أني أنا قدوس». وهذا يقتضي أن نخاف الله. العهد الجديد تربويا بقي على فكرة خوف الله، على خوف العقاب. ليس من مزاح مع الله، ليس من غنج ولو كانت لنا دالّة عليه. خوف الله ليس رعبا في حضرته ولكنه جدّيةٌ في تلبية أوامر الرب. ليس من تسوية ممكنة او معقولة بينك وبين الخطيئة. عليك أن تعرف أنها موت، وأن حياتك مع الرب تقتضي أن تُطيع كل كلامه وأن تعيش معه بثقة كاملة واتكال عليه واسترحامه.

نستمرّ في العهد الجديد أن نخشى العقاب وفي آن معًا أن نرجو المكافأة بسكن الروح القدس فينا وأن نذوق الملكوت فينا منذ الآن وأن نرجوَه في اليوم الأخير.

نحن نصير معا شعب الله بالمشاركة الكنسيّة وتجلّي الله في الكنيسة وفي الفرد معا. المهم أن نحسّ أننا له بنين وبنات لأننا عرفناه أبًا حاضنًا إيّانا، قادرين أن نقول له: «أبانا الذي في السماء» لأننا ذقنا بالنعمة أنه يُجدّدنا كل يوم بنعمته.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

الأمومة / السبت 8 تشرين الأول 2011

الوالدية أبوة وأمومة وفي لقائهما سر لا يكتنه ولكني أحاول استيضاحه لأفهم نفسي وأمي. كيف يكون الإنسان كله نفسا وبدنا منذ لحظة اللقاء بين رجل وامرأة والنمو، عقليا وجسديا، مشروط بهذا اللقاء. وهل التواد الضعيف او القوي بين الرجل والمرأة صلة بنوعية الولد ام نحن بيولوجية بحتة او عقل محض او يضاف اليهما نعمة من عند ربك لأنك في ظاهرة الخلق الموصول دائما بالحب؟ غريبة العربية المحكية التي تقول عن المولود ان هذا خُلق في اليوم الفلاني مع ان الله لم يخلق الا آدم وحواء.

ما من شك اننا تصورنا تصويرا لا غوص عليه ممكنا. بدءا لماذا جسد كل من الزوجين مهندس للآخر من حيث ان العلاقة تسير نحو الانجاب اي نحو الوحدة بين الجنسين واستمرارهما. هل ان كل هذه الهندسة التشريحية وضعت فينا ابتغاء التكاثر؟ ولماذا ملء الأرض بالأطفال والواضح ان الموت مسجل فينا منذ اللحظة الأولى من تكويننا. هل الحياة هي السر ام الموت؟ نحن في إعجاب امام الحياة وفي رهبة امام الموت لأنه هو الصدمة ومع ذلك تستمر الخليقة.

في عجائبية هذه المسيرة للأمومة مكانة مميزة منذ حصولها وحتى انتهائها بالموت في كل جوانب وجودها. يمكن اختصارها بأنها مدى باقٍ كالأرض في حين ان مساهمة الذكر تبدو مقتصرة على الزرع الذي يبدو دون مشاركة المرأة ديمومة حتى لو كان الوالد عظيم الشعور. وكأن الحياة هي في المرأة التي تحفظها مع ان الرجل ساهم في نشوئها.

بعد ثانية التكوين يبيت الجنين مع أمه كيانا واحدا او ما يبدو واحدا من جهة الهواء والغذاء ونمو الأعضاء حتى التأثر بالموسيقى التي تسمعها الوالدة الى ان يقطع حبل السرة وتبقى الرضاعة. ولكن بعد الفطام لا تستقل الوالدة.

هنا تحضرني قصة زيارتي لمريض في رعيتي منذ خمسين سنة ونيف يدعى ابراهيم. بعد وصولي بقليل تدخل علينا أمه وتناقش فيما اذا كان اخذ الدواء. قلت لها: يا ام ابراهيم هل نسيت ان ابراهيم عمره 64 سنة؟ فهمت عند ذاك، ان الرجل كان لا يزال في عينها وليدا يربى. هذا ينقح ما ظننته طويلا ان النساء يبكين عند الموت بسبب من قوة انفعالهن وفهمت بعد ذلك أنهن يقبلن بالطبيعة الموت لكونه عدوا للحياة التي ظهرت بهن. منذ أيام قليلة كنت أقيم جنازة فتى دون العشرين من العمر. كانت امه متلا شية حين كان أبوه يتابع الصلاة حاضرا متينا، واضح كان إيمانه لما حدثته قبل الدفن. اجل كان -حسب عباراته- عميق الرؤية الدينية ولكنه على مستوى الطبيعة كان متماسكا. السر في ذلك عندي كان ما أسميه استمرارية الأمومة.

#   #   #

اما الأبوة ولو كانت حليفة الأمومة في طبيعة الإحساس الا انها تنمو في العمق لسببين اولهما شعور الوالد بأنه أصل في تكوين ولده وثانيهما رقة يمكن ان تكون كبيرة لكونه يحمل الولد على ساعديه. الحنان الطبيعي اذا توفر يساعد ولكن رقة الوالد تعظم بالضم. هي اساسا عمل خارجي في حين ان احتضان الأم وضع بيولوجي يترك اثارا سيكولوجية كبيرة ومديدة في الزمن.

الوالد لا يعوض للأولاد كثيرا عن زوجه اذا ماتت اولا لأنه يعمل خارج البيت فلا يبقى له وقت يعطي فيه ما كانت الأم تعطيه لو عاشت. اما الأرملة فقد يمدها الله بشيء يشبه الرجولة فتحمل العائلة. ذلك ان كل كائن بشري فيه بعض رجولة وبعض أنوثة وظروف المعيشة تقوي هذا العنصر او ذاك. يشتد اللين او الصبر او المجاهدة حسب الوضع المعيشي الذي يكون فيه الفريق المترمل.

فمن المؤكد ان الأمومة والأبوة تلتقيان في العائلة بحيث تعظم كل واحدة في منحاها اذا ترسخت الأبوة في نحوها والأمومة في نحوها وكانت كل منهما رافدا للآخر. الطفل لا يبقى سليما اذا انقطعت العلاقة بين الرجل والمرأة فانفصلا وكان الولد يتأرجح في المسكن بين الواحد والآخر. اذاك، ليس عندنا رافدان ملتقيان. الكمال في ان يكون الأب حاملا امومة ما والأم حاملة رجولة ما بحيث يكونان جسدا واحدا اي كيانا موحدا.

#   #   #

في حسباني ان الأمومة تربية منذ حمل الجنين، تربية كتبها الله في جسد المرأة بالصبر، تحمل الأوجاع ثم العناية الفائقة بعد الوضع والقيام بالتربية سنين طوالا والرعاية ما دام الوليد حيا حتى أقصى كهولته فضائل يمنحها الله في مجانيته العظمى ويرفقها الرب بحنان تفاوت كثافته بين امرأة وامرأة حتى شاع ان الأم حنون فأكّد بولس ان المرأة تخلص بولادة الأولاد اذا هم ثبتوا على الايمان والعفاف والمحبة. الاولاد يأخذون ولا يأخذون منها. هي المعطاء واولادها لا يبادلونها المحبة بالمقدار الذي يستلمون ذلك ان الحب ينزل (الى البنين والبنات) ولا يصعد الا بمقدار. لذا كثيرا ما ترى الأهل في حالة اجحاف تصل احيانا الى الحزن الكبير.

الولد يخرج الى العالم ولا بد له ان يصدم ذويه ليؤكد استقلاله عن الرحم. ازاء التمرد على الوالد يحاول ابوه ان يثبت سلطانه. ويعزز هذا التنافس على الوالدة بين الولد الذكر وأبيه. لذلك كان الولد (نفسيا) قاتل أبيه: العاطفة مبذولة ويبقى صراع ما مع الأم او مع الأب. لذلك نزلت الوصية: «اكرم اباك وأمك». لو كانت هذه في سياق الطبيعة او لو هانت لما جاءت.

ما أنكرت ان هذا الإكرام ينساق انسياقا احيانا ولكن هذا يحتاج الى جهد حتى يأتي الأولاد لذويهم ردا على حب هؤلاء.

من هنا، ان الأمومة الصالحة واجب ولئن كانت الغريزة تسندها كما تسندها النعمة المسكوبة من السماء على المرأة المنجبة.

#   #   #

تصل الأمومة أحيانا الى حد القداسة ولا سيما اذا كان الولد يصحرها اي لا يستجيب لها بقدر محدود من العاطفة. واذا قابل عطاءها الأخذ تصير جنة. غير ان بعض الأمهات ينكرن انفسن ويبذلن حياتهن مجانا اتماما لمشيئة الله. يبذلن الزوجية مجانا في أحايين كثيرة. في هذه الحال، تصبح الأمومة اعجوبة او ترهبا.

إكليل هذا الكلام ما قاله يسوع عن مريم لما كان معلقا على الخشبة وكانت واقفة عندها مع التلميذ الذي كان يحبه والتواتر يقول عنه انه يوحنا الانجيلي ولكن المؤكّد في النص انه التلميذ الذي كان يسوع يحبه ويحق لنا ان نقوم بقراءة نقدية ونفهم انه نموذج لكل من احبه السيد. «فلما رأى يسوع ان التلميذ الذي كان يحبه واقفا قال لأمه يا امرأة هوذا ابنك ثم قال للتلميذ هوذا امك».

من هذا الكلام لنا ان نفهم ان كل انسان فيه مسيحية ما يصبح ابنا لمريم. هي حاملة الأمومة لكل بشر. ربما توقعا لأمومتها في الإنسانية النبوية وامتدادها في الإنسانية التي الله أحبها لنا ان نرى في الطاقة وعد حنان ورفق في كل أم.

Continue reading
2011, مقالات, نشرة رعيتي

الرحمة / الأحد 2 تشرين الأول 2011/ العدد 40

من العظة على الجبل، وهي قاعدة الأخلاق المسيحية، في هذا المقطع يبدأ بالقول: «كما تريدون أن يفعل الناس بكم كذلك افعلوا انتم ايضًا بهم». الآخر كل شيء لك. يحتاج ان يكون حبيبك. أهو في حاجة الى طعام؟ فاعطه منه. هل هو في حاجة الى تعزية، الى اقتراب منك؟ فمُدَّه بكل ذلك لأنه ينوجد بك.

ليست المسيحية مبادلة عواطف. أحبب بلا انتظار ردّ المحبوب عاطفة مثيلة بعاطفتك. «مجانًا أخذتم (من الرب) مجانًا اعطوا» لإخوتكم البشر. لا تفرّق في العطاء بين من يحبّك ومن لا يحبّك. أمر الله المؤمنين جميعًا بأن يحبوك كما الله يحبّك. يصل الى ذروة المعنى بقوله: «أحبّوا أعداءكم». اذا عاداك أحد الناس لا تردّ اليه العداء. هو أخطأ أولا الى الله ثم الى نفسه وأنت لا تنتظر منه عاطفة ليس له قدرة ان يعطيها إيّاك. هو المهم في عينيك ولا أهمية لكونه جرحك او هدمك. انت همّك تقدمه الروحي. وأنت تعرف انه سقط في مرض الخطيئة وما يطلبه الله اليك ان ترفعه من هذا السقوط. مصلحته الروحية همّك وليس أن تبقى فوق التعدي. كفاك أنت ان تكون حبيب الله.

عِدَاؤه عيّنك طبيبًا له كما ان هذا الجريح على الطريق من أورشليم الى أريحا عيّن الله له طبيبًا وهو السامري الشفوق الذي من غير جنس اليهود ومن غير دينهم وهو في تراثنا صورة المسيح الذي يُعنى بأهل الكنيسة والخارجين عن الكنيسة على السواء. ينبغي ألا يمس قلبك اي حقد او بغض وأن تقيم في قلبك كل من تجدهم في مسيرة حياتك إذ هكذا يسكن الله في قلبك. فإذا لم يسكن فيه يكون قلبك فارغًا لأن الرب هو الحضرة. سعيك ان يصبح قلبك مثل قلب المسيح الذي غفر لقاتليه. مَن أبغضك لا يعرف انه يؤذي نفسه. إذا أحببته قد يحس بأنه يؤذيها.

وينهي متّى هذا المقطع من عظة الجبل بقول يسوع: «فكونوا رحماء كما ان أباكم هو رحيم». القاعدة هي ان تتمثلوا بالله. هو نموذج سلوككم. هو أب للشاكرين والأشرار ونعمته واحدة لهؤلاء وأولئك وان كانت له أساليب تربوية مختلفة فالله في شدّته ولطفه واحد كما ان كل والد في الدنيا محبّ لولده اللطيف وولده الشرس بالمحبة نفسها ولو اختلف الأسلوب.

الرحمة هي السِعة. في هذا الكلام يأمر السيد ان نعطي من لا يريد عطاءنا، أن نعطي بالسخاء نفسه حسب الحاجة التي نعرفها عند الآخر. ولكن أية كانت الحاجة فأنت حاضن كما ان المرأة تحضن أولادها جميعًا بلا تفريق. ولكن فتش عمن يحتاجون الى رحمتك في أيام ضيقهم ولكل نفس ضيق مختلف. فتّش من الحاجات المختلفة ولبّها. الآن، الآن وليس غدًا لبِّ فيفهم المحتاج انك رسول الله اليه وبك يصير عارفًا لله.

الرحمة وجه من وجوه المحبّة عندما يكون الآخر في وضع خاص. تفهم هذا الوضع. ادخل هذا الوضع وارحم الآخر من داخل نفسك وداخل نفسه فيصبح المعطي والمُعطَى اليه واحدًا في الرب لأنك لا ترحم الا اذا كنتَ مع الرب الذي هو مصدر الرحمة. اذهب ووزّع نفسك على الآخرين حتى لا يبقى فيك الا الحب.

جاورجيوس

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

الحب الواحد / السبت أول تشرين الأول 2011

سوريا واحدة ونحن نريدها واحدة. تشرذمها خطر على المنطقة كلها وأولا على لبنان. لقد أنشأ الانتداب الفرنسي ثلاث دول فيها حتى استعادت وحدتها سريعًا لإحساس شعبها بوحدته.

هذه الوحدة يمكن توطيدها بالسلام الذي يفترض ان يبقى الدم في أوردة السوريين وشرايينهم «نجني من الدماء يا الله» (المزمور الـ50).

لا قوة للشرق العربي ولا أمل له بالصمود امام العدو بدون سوريا قوية، متلاحمة أطيافها، حرة من تاريخ تشنجاتها، غير وارثة سوى أمجادها. ان الحكم المدني حلمها فيما صار مؤخرًا حلم العرب. نرجو أن يبقى هذا الحلم في النفوس ورفضًا للتراث المتجمد وتمييزًا بين اللاهوت والناسوت او بين حكم الله لما نسمّيه خلاص النفوس وحكم البشر الذين لهم ان يستلهموا ربهم في إدارة شؤون الأرض. فالأولى لا تصير آخرة ولكنها تتوق اليها وتنتقل وفعلها في الحضن البشري.

في كل العروبة هذا هو الموضوع لأن العروبة تتضمن سوالا رئيسًا حول شرعية قيام الانسان في ناسوتيته وهذا ما يبرر التعددية وحمل عبء التعدد في وحدانية الوطن. التعددية ليست بعثرة والاصطفاف الواحد بلا ألوان سياسية مختلفة يقتل الأفراد اي يقتل الحرية. وعليك ان تختار بين الحرية المتفرقة الأفكار بالضرورة والحزب الواحد. لله وحده الحق بأن يعتقد انه كل الحقيقة.

أرجو ان يصل العرب الى الاعتقاد ان اختلافهم غنى لهم وان يعتقدوا بخاصة ان الله لم يفوض احدًا بإدارة الدنيا. هذا ما يعنيه الحكم المدني. انه تجمع الناس في بلد من البلدان يجعلون عقولهم معا وانا ما قلت ان عقولهم معزولة عن الله كل كتلة لها ان تظن انه يوحي لها ما يشاء ولكنها لا تستطيع ان تفرض على بقية الناس ما هي تحسبه أساس الحياة المجتمعية. لا يعني لي شيئا ان تقول دولة انها تدين بهذا الدين او ذاك. الدولة هيكلية قانونية اي انها ذات تركيب تجريدي. اما الوطن فأشخاص يتلاقون ويتفاعلون وبينهم وجداناتهم اي أعماقهم الإنسانية ومن هذه الأعماق تطلع مسيرة الدولة. أنت في الوطن أخي وأقيم معك الدولة في مواجهة أفكارنا وقناعاتنا وفي مقابلتها نصل معا الى حكم يوافقك ويوافقني ولا بد ان نختلف ولكن ميثاقنا ألا أبسط يدي لأقتلك ولا تبسط يدك لتقتلني. الدولة هي قبل كل شيء مكان السلام.

#   #   #

ليس أحد يعلم الى أين الربيع العربي صائر. لا بد ان فيه بذارا ديموقراطية ولكنه قد لا يخلو من أصولية. قد لا تكون هذه على الشدة نفسها في كل البلدان ولكن يجب ان نفهم ان ديكتاتورية جماعة قد تكون اسوأ من ديكتاتورية فرد. أمام هذه الضبابية التساؤلات حول الحرية تطرح نفسها بسبب من اختلاف الفلسفات السياسية.

غير ان هاجسي ليس التطور الممكن لكل ربيع عربي لأن العروبة السياسية ذات ألوان او نكهات مختلفة. ما يحدث في مصر لم يكن له مثيل على أيام ملوكها وقد كنت في شبابي متتبعًا لحكم الملك فؤاد والملك فاروق وأتت ببطرس غالي باشا القبطي رئيسًا للحكومة وثورة مصر على الانكليز قام بها مسلمون وأقباط على السواء اي ان قربى المسيحيين من الأجانب ما كان معروفًا. لماذا تغير الموقف بعد ثورة يونيو لست أعلم على التدقيق لأقول في الأمر شيئًا. الانبا شنوده بابا وبطريرك الاسكندرية كان يرفض رفضا قطعيا ان يحلم اي قبطي بذاتية قبطية على الصعيد السياسي. هل يكون احد أسباب التوتر ان الأقباط في الجامعات والمهن الحرة كالطب والصيدلة كانوا متفوقين بصورة منقطعة النظير. ربما التقدم العلمي لا يخدم احدا. الى هذا كلنا يذكر ان الانبا شنوده منع ابناءه ان يزوروا اسرائيل بعد إقامة علاقات ديبلوماسية بين البلدين. واللاهوت القبطي ككل اللاهوت الأرثوذكسي متشدد تجاه اليهودية واليهود. وممنوع على أحد ان يجادل المسلمين فيما لو أصدر احدهم كتابًا او مقالا ضد المسيحية. وما من شك ان الأجهزة الأمنية المصرية على شيء من التراخي إزاء أحداث طائفية. المشكلة تحتاج الى حل جذري لأننا نريد جميعا ان تبقى مصر العزيزة بلدا عربيا مميزا. ما من واحد من جيلي حركته الثقافة العربية الا اذا جاء عقليا من مصر. ومن يعرف العظمة الروحية عند أقباط مصر وتقواهم وهدوءهم يحزن لاغترابهم.

#   #   #

ما يهمنا بنوع خاص هو المثلث سوريا-فلسطين-لبنان- حيث تتقارب الطبائع والتقاليد بين المسيحيين والمسلمين. لست أعرف لماذا لنا هذه الخصوصية في دنيا العرب. ولكن الواضح في ذاكرتنا الجماعية ان الحكم العربي منذ البدء راعى المسيحيين. فقط حكم المماليك كان قاسيا ربما ايضًا على أطياف غير مسيحية. بقيت عقلية القربى سائدة بيننا في العصر العثماني قبل كفاحنا والتتريك في اوائل القرن العشرين. بكل اطمئنان يمكنني القول ان السلاسة في علاقات الطوائف كانت حاكمة ولن تتغير طبائعنا بسهولة او سرعة. لذلك لست أرى سببا لمخاوف بعض المسيحيين. ما جرى في العراق الواقع في حرب طويلة لا يمكن اتخاذه نموذج خطر على المسيحيين فالكل هناك قتل الكل. ونحن تختلف ذهنيتنا عن الذهنية العراقية.

هل ينقص المسيحيين شجاعة ورجاء. لنا ان نمد أيدينا الى أيدي المسلمين كما كنا نفعل دائما. أفهم ان يقال ان ثمة حركات جديدة، متصلبة.

ولكننا على كل الصعوبات نحن نحيا بالمسيح القائل انه معنا حتى منتهى الدهر. الخوف اكبر قوة تقتلعنا من مكاننا. هو دائما قتال لمن يسميهم الناس أقليات لأن العدد عندهم هو كل شيء. الى هذا شعوري ان المسلمين المعتدلين الذين يحبوننا ويريدوننا أهم وأقوى من المتشددين. وكل منا يعرف بينهم الصديق المحب.

آن للمسلمين ان يفهموا ان التهمة القديمة القائلة بأننا كنا نتعاون مع الأجنبي لم تبق الآن صحيحة. ألستم تذكرون ان شارل ديغول الشديد في إيمانه الكاثوليكي هو القائل ما مفاده ان فرنسا تتعامل مع الطوائف اللبنانية على السواء؟ يبقى الأميركيون الذين يدركون ان الدولة ليس لها صاحب الى الأبد. وهم لم يظهروا يوما انهم أصدقاء المسيحيين. ماذا نستطيع نحن ان نعطيهم ولهم مداخلهم ومخارجهم مع بلدان عربية ليس فيها مسيحي واحد. ونفط المسلمين جذاب.

في السنة الـ 636 كان العرب يحاصرون دمشق. فهم واليها منصور بن سرجون جد القديس يوحنا الدمشقي انه يجب ان يفتح أبواب المدينة لئلا يدخل العرب عنوة وقد يتعرض المسيحيون الى خطر. ولكن لما احتل العرب دوائر الدولة وجدوا ان المسيحيين ماسكون بكل الدواوين. استبقى المسلمون المسيحيين في الدوائر لكونهم اصحاب المعرفة. معنى ذلك ان المسيحيين فهموا ان العرب دخلوا بلاد الشام ليظلوا فيها حكاما وفهم المسيحيون انه لا بد من التعاون.

الشيء الآخر الذي لا بد من قوله ان اهل السنة هم 85% من مسلمي العالم وان كل فكرة حلف الأقليات باطلة وغير نافعة. هذا لا يعني اننا نترك صداقتنا مع الشيعة. انهم اولا رافضون كل صدام مع السنة ولهم جميعا ومتحدين قيل: «كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالعروف وتنهون عن المنكر». نحن مغتبطون جدا لنهضة الشيعة كما نحب شعراءهم القدامى والمعاصرين. وفي الإلهيات نحب انفتاحهم وقد ظهر عظيم من عظمائهم الامام موسى الصدر انه يحبنا في صدق كامل ورددنا محبتهم في صدقنا. غير انه لا بد ان نفهم اننا عايشنا السنة في المدن معايشة صدق ايضا فيها كبر عندهم واظن اننا كنا على كياسة تجاههم ومحبة ربطت افرادا وعائلات الى هذا اليوم. نحن لسنا فئويين في معاشرتنا المسلمين وهم امة واحدة. قلبنا مفتوح لهم جميعا اذ ليس في قلوبنا ان كنا للمسيح سوى المحبة.

غير اننا، مسيحيين ومسلمين، في حاجة الى التوبة والتطهر الدائم لنعانق الآخر. ووحدتنا الوطنية عناق حتى لا يمسها الرياء.

هذا وطن العطاء القائم على الرجاء وديمومة التنقية. المسلمون فيهم «جرح عيسى» اي جرح الحب كما سمّاه ابن عربي ولا يريدون ان يشفوا منه لأن له الولاية. ونحن معهم في هذا الحب. هكذا يُبنى الوطن.

Continue reading