Monthly Archives

April 2007

2007, مقالات, نشرة رعيتي

الاشتراك في القداس/ الأحد 29 نيسان 2007/ العدد 17

في كنيسة خدمت فيها قديما كنت أحصي ان الحضور يوم الأحد كانوا بين 3 و8% من عدد الرعية. في أبرشيتنا اليوم قال لي احد الكهنة ان كنيسته تجمع 17?% من المؤمنين. هذا العدد لا يزال صغيرا. الواضح اذًا ان القلة تصلّي، والغائبون يبررون انفسهم انهم يصلّون في البيت. جوابي كيف تصلّون وانتم تغطّون في النوم او تحتسون القهوة مع نسائكم او تذهبون في نزهة الى البحر صيفا والى كل مكان في الشتاء. أما انك تحتاج الى راحة فأنا أفهم ذلك، ولكن خذها بعد القداس، فالبحر والجبل كافيان لذلك،او تدبروا امر قداس مبكر مع الكاهن للذين يشعرون بحاجة الى النزهات. اقرأ هذا عن المسيحيين الأوائل في اورشليم: «وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والمشاركة وكسر الخبز والصلوات» (أعمال الرسل 2: 42).

التركيز هو انهم كانوا يجتمعون في مكان واحد، وان الغاية غايتان: التعلّم ومشاركة بعض من المال مع الفقراء (ما تجمعه الصينية)، والصلوات ومناولة جسد الرب، اذ الغاية من كل قداس هو المناولة وليس كما كان يفعل المؤمنون قبل عصر النهضة، ان يتناول صباح الخميس العظيم بلا قداس او مرة بعد الأصوام الاربعة.

الصلاة عندنا فردية وجماعية. الفردية هي التي تقوم بها في منزلك صباح مساء او في محلك او على الطريق. اما الجماعية فهي التي تقوم في الكنيسة يوم الأحد وفي الأعياد التي يمكنك ان تغيب فيها عن عملك. اما صلاة الجماعة فهي اساسية لغذائك الروحي وإظهار عضويتك. ولذلك اتّخذت الكنيسة الاولى قرارًا يقول بأن الذي يتغيّب عن الكنيسة ثلاثة آحاد متتالية يُقطع من الجماعة اي يُفصل من عضوية الكنيسة، وهذا القرار اتخذناه آنذاك لمّا كان الذاهب الى الاجتماع تحت الارض كان يتعرّض الى قبض الشرطة الرومانية عليه.

لماذا تفهم ان والدك اذا اراد جمع العيلة يوم الأحد حول مائدته تذهب اليه، وبسبب من العاطفة البشرية وأواصر المودة بين أفراد العائلة تجتمعون، ولا تفهم ان عائلة الله تدعوك لتجلس معها على مائدة الرب وتأكلون معا هذا الذي اراد ان يكون مأكلا لنا ومشربا. وبهذا قال بولس الرسول: «أليس كأس البركة التي نباركها مشاركة في دم المسيح؟ فاذا كان هناك خبز واحد، فنحن على كثرتنا جسد واحد. لأننا نشترك في هذا الخبز الواحد» (1كورنثوس 10: 16 و17). وهذا الكلام يتلاقى مع الذي قاله السيد في العشاء السري: «خذوا كلوا هذا هو جسدي» ولما أعطاهم الكأس قال: «اشربوا منها كلكم هذا هو دمي للعهد الجديد، الذي يراق عنكم وعن كثيرين لمغفرة الخطايا».

اما عن النوم فقال بولس: «استيقظ ايها النائم وقم من الاموات (من بين النائمين) فيضيء لك المسيح» (أفسس 5: 14). قم من هذا الكسل الروحي فلا تبقى مسجلا مسيحيا ارثوذكسيا على الهوية.

لما كنا نبني كنائس في الجبل المهجر وفي كل مكان آخر كنت أقول للمؤمنين الذين سعوا في البناء: اجل افرح بجهودكم ولكني أخشى ان نكون على الكسل القديم. لا شيء يحزنني مثل الكنائس التي نِصْفُها شاغر. ربما صرنا الآن نحضر اكثر مما كنا قبل الحرب، ولكن المشهد الواضح ان الكنائس الصغرى ملآنة وبعض الكنائس الكبرى فيها فراغ الا في المواسم.

كنت أطلقت مرة في حزني ان الارثوذكسيين موسميون يأتون في الأسبوع العظيم وفي الفصح والميلاد وقليلا في غيرها.

يا صاحبي اذا كنت تحبنا فلماذا تذهب عنا الى مواضع التنزّه او تلازم بيتك؟ انا واثق انك اذا صليت بكثافة كل يوم، وقرأت الإنجيل كذلك كل يوم، فهذا لا بد ان يدفعك الى صلاة الجماعة في كل يوم نعيّد فيه لقيامة الرب اي يوم الأحد. لا تدعنا نحزن لغيابك. كيف تحتمل ان نحزن؟ نحن نريدك معنا حتى لا نحس بفقرنا الى وجهك. لاقِ وجوه إخوتك وتناول معهم جسد الرب حتى تحيا وتكون فعليا من كنيسة المسيح.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

شعب واحد في دولتين / السبت ٢٨ نيسان ٢٠٠٧

سمعت من عدة ناس عرب وأجانب ان المغفور له الرئيس حافظ الأسد كان رجلا صادقا وانه يبقى عند كلمته فلماذا لا نعود الى ذلك الذي في كلامه عن اهل سوريا ولبنان انهم شعب واحد في دولتين. واستغرب ان بعضا من اللبنانيين الى هذا اليوم لا يحبون هذا الموقف وأملي ان يعتبر الحكم السوري هذه القولة للمرحوم الرئيس إرثا يحافظ عليه.

                      المعروف ان لفظة شعب مقولة تاريخية مجتمعية وان الامة مقولة اخرى لم يستعملها هو. ولم اسمع ان الحكم السوري الحاضر استعمل لفظة الأمة. ولم يبقَ في لبنان من يقول اننا لسنا عربا بعد ان كرس دستورنا الجديد انتماءنا الى العالم العربي. واذا اعتبرنا مقولة «الأمة العربية» فهي تشمل بلدانا أخرى. ثم قال غير سياسي لبناني انه سأل السيد الأسد الأب اذا كان يرغب في صهر لبنان في دولة عربية موحّدة انه اجاب انا اضم موريتانيا قبل ان اضم لبنان. هذه جملة افهمها انه لم يكن عنده مشروع ضم لنا او لم يكن عنده مشروع قسري لإنجاز هذه الوحدة. واذا صح تشبيه انصهار طوعي بين بلدين فهذا اشبه بالزواج الذي يتطلّب موافقة طرفين.

                      ما وصل الينا من تصريح السيد الرئيس الراحل انه اعترف بوجود بلدين مستقلين ولا يسوغ لأحد نظريا او براغماتيا ان يتصرف كأن هذا الميراث لم ينتقل اليه. اما المناقشة حول هوية هذا الشعب فلا طائل تحته بعد ان اعترفنا جميعا اننا ننتمي الى الحضارة العربية والشعور العربي واننا مع سوريا في تداخل عميق. هذا اذا اغفلنا الكلام على الجوار والتفاعل العاطفي الذي يربط بين اهل البلدين.

                      وضعنا كدولتين مستقلتين لا يختلف عن وضع بلجيكا وسويسرا واللوكسمبور وإمارة موناكو. هذه البلدان المستقلة فيها كلها عنصر فرنسي ولم تطالب فرنسا بضم واحد منها اليها. كذلك في سويسرا شعب الماني وشعب ايطالي ولم تسعَ فرنسا والمانيا وايطالية الى ضم جزء من سويسرا اليها. القومية ممكن ان تكون منتشرة هنا وثمة. ولكن التاريخ هو الذي ينشئ الدول. الدولة تقوم على المواطنة اي انها كيان حقوقي فرضه التطور التاريخي.

                      واذا عدنا الى وضع البلدين الشقيقين ولو كانا يحتويان عنصرا عربيا واحدا ما كانا يوما دولة واحدة بالمعنى الحقوقي للكلمة. كان كل هذا الشرق بعضا من السلطنة العثمانية وعند انهيارها مرت سوريا في فترة دويلات مختلفة حتى توحدت ولكن لبنان القديم كان متصرفية تابعة مباشرة لاستانبول ولم يكن معروفا بوضوح في اتفاق سايكس بيكو (اذا اهملنا ذكر المندوب الروسي آنذاك) كيف ستقسم الأراضي التي انسلخت عن السلطنة. ولكن الحديث عند المفكرين العرب اذكر منهم نجيب عازوري وشكري غانم في باريس والدكتور خليل سعادة كان ان لبنان يجب ان يكون له تنظيم خاص او حكم ذاتي الى ان اعلنت فرنسا في اول ايلول السنة الـ١٩٢٠ ان لبنان دولة مستقلة.

#              #

#

                      وتمثل لبنان في عصبة الأمم في جنيف واشترك في وضع شرعة الأمم المتحدة اي كان عضوا مؤسسا لهذه الهيئة. قبل ذلك عند تأسيس جامعة الدول العربية بعد ان عارض الوفد السوري مشاركة وفد لبناني عاد فقبله اي ان الدولة السورية اعترفت بدولة لبنان.

                      واذا ذكرنا، في تراتب القوانين، ان القانون الدولي يحكم القوانين الخاصة بالدول تكون دولة لبنان شرعية دوليا ويكون لبنان دولة قائمة بذاته. وعندما وضع مجلس الأمن ان تشكيل محكمة ذات طابع دولي مرتبط اصلا بمشاركة الهيئات اللبنانية يكون مجلس الأمن معترفا بالدولة اللبنانية استطاعت ام لم تستطع اتخاذ قرار يتعلق بهذه المحكمة.

                      ولكن فوق كل هذه الاعتبارات القانونية والتاريخية نرى ان الشعب اللبناني كله متفق على وجود لبنان ولو كان هناك مسائل خلافية حول الأزمة الناشئة بالبلد. كل فريق يصرح بلبنانيته. اذًا ليس عندنا اختلاف حول هوية البلد واستقلاله. ما من بلد لا يختلف حول مسائل سياسية هي بطبيعتها عابرة مهما اشتد الخلاف. الحامل على بطاقة هويته انه لبناني هو حقا كذلك.

                      الى هذا الاعتراف الصريح المسجّل السؤال الأعمق هو هل ابناء هذا البلد يؤمنون به حقا؟ بعد الطائف والدستور هذا السؤال غير وارد وليس عندك من تعبير شرعي عن لبنانيتك الا كونك قبلتها بقولك ان هذا البلد نهائي، الأمر الذي لا يباعد بينه وبين البلدان العربية الاخرى ولا سيما سوريا وفلسطين.

                      ما يبدو واضحا في حياتنا المشتركة اننا نريد ان نبقى من هذا الوطن لأنه موضوع حبنا وفخرنا. والحدود المرسومة قانونيا لا تمنع تعاطينا الواسع والمخلص مع الشعب السوري واية دولة تعترف بسيادتنا الكاملة اذ نحن موقنون اننا ننمو ونزدهر ضمن حدودنا وان لنا ما نعطيه الآخرين ببساطة وتواضع. واذا نحن نمونا بما عندنا من طاقات وأبدعنا – وليس في القول مكابرة – فكل انجاز لنا في اي مجال من مجالات الوجود خير للناس جميعا. والخيرات الأدبية والفنية والاقتصادية مشتركة بالحرية مع العرب الذين حولنا او البعيدين عنا. والمشاركة العربية لا تبطل مشاركات اخرى ضمن حريتنا.

                      هل نؤذي أحدا اذا احسسنا ان هذا البلد جميل وانه على صعوباته الداخلية قادر على خدمة نفسه والآخرين. والحدود المحددة لا تفرق بين وجدان ووجدان ولا تبطل العاطفة. قد نشبه بيتا صغيرا ويشبه بيت الآخرين قصرا وتحب انت ان تسكن كوخك وان يتمتع اخوك بقصره ولكنك تنام مع عيالك بمنزلك الصغير وينام اخوك الثري بقصره العظيم وتزوره ويزورك ويبقى كل منكما على كرامته.

#            #

#

                      في سوريا عقول كبيرة ومثقفون اعرف منهم بعضا في كل مدائنهم وكلموني بحب كبير عن لبنان وعن ضرورته للعالم العربي. أضيف الى هذا ان هؤلاء المثقفين حيثما حللت في المشرق العربي والمغرب العربي حدثوني بإعجاب عن لبنان وبتميز ابنائه بثقافة واسعة. هذا لم اتقبله باستكبار ولكني اؤكّد ان هؤلاء العرب يحسبون ان لنا رسالة في العالم العربي ويظنون اننا نؤلف جسرا بينهم وبين الغرب.

                      واذا كان هذا كله صحيحا فما يحمينا ويحمي الجار حدود واضحة آمنة وهذا له اهميته الأخلاقية منعا للفساد الذي يوقعنا فيه المهربون من كل صوب. ونحن على حجم صغير عصمنا انفسنا دائما عن الاعتداء كما يعصمنا ترسيم الحدود عن التآمر على سوريا في مقاهي رأس بيروت اذا صحت التهمة. ليس مثل الوضوح يقرب من الفضيلة.

                      وسوريا دولة كبيرة على الصعيد الاقليمي ومحترمة الجانب كثيرا عند الدول الكبرى وبخاصة في الزمان الذي نعيشه فليس لنا إرادة ولا قدرة على التدخل في مصيرها. جلّ ما نرجوه وهذا بكل اخوّة الا تتدخل هي بمصيرنا فلا يملي اي طرف منا شيئا على الآخر ونعيش معها بشفافية كاملة من شأنها ان توطّد القربى. والحب يأتي بعد العدالة فإنه ثمرتها.

                      وفي ظل المحبة والعدل نكون ادنى الى حل المشاكل اذا ظهرت ولكن نبقى دولتين حسب الإرث الذي استلمته سوريا من المغفور له حافظ الاسد. لا نطلب من سوريا الا ما طلبه هو اليها في تعاملها معنا.

                      مفتاح الحل لأزمتنا نحن هو في دمشق اولا. صعوباتنا ليست صعوباتها. وحكمها صامد ونحن نبارك لها هذا الصمود. فلا شيء يمنعها ان تبادر هي الى تحديد الحدود ولم اسمع من احد قادتها انه يرفض هذا مبدئيا. ولكن ارجاء البت يؤذينا نحن. والبت لصالحنا المشترك من شأنه ان يقرّب بين الفئات المتخاصمة في لبنان. ولست ارى مانعا في المبدأ ان يتفق الأفرقاء عندنا في هذه المسألة. الخلافات التي يتكلمون عليها قائمة على نقاط اخرى. والايضاح اذا جاء من دمشق قد يساعد على انفراج الأزمة اللبنانية.

                      التبادل الديبلوماسي يقوي اعتراف الواحد بالآخر والإقرار بنهائية كيانه ضمن العروبة. قال المغفور له حافظ الأسد مرة – وسمعته في التلفزيون- ان فلسطين هي سوريا الجنوبية ولكنه لم يقل يوما ان لبنان هو سوريا الغربية. وفلسطين تاريخيا كانت الأردن جزءًا منها. ومع ذلك – اذا لم أخطئ – في دمشق قائمة سفارة اردنية وفي عمان سفارة سورية. هل كثير ان تعاملنا سوريا الشقيقة كما تعامل الأردن؟

#             #

#

                      شؤون وشجون يمكن حلها اليوم بروح الصداقة في اي مكان في العالم ربما في خيمة كتلك التي جمعت الرئيس جمال عبد الناصر والرئىس فؤاد شهاب. قد لا نحتاج الى مثل هذا التعبير الرمزي ولكن ايضاح الحدود يوطد علاقات سوريا بالمجتمع الدولي الذي يكن لها ولنظامها كل الخير.

                      قناعتنا – وعبرنا عنها غير مرة – ان أمن سوريا من أمن لبنان والعكس صحيح. ولكني اقول اعظم من هذا. انا احلم ببلدين تخيم عليهما محبة كاملة لا يشترط فيها احدنا على الآخر شيئا كما في الزواج القائم على الوئام.

                      ألم يحن يوم تلاقينا وسوريا في العمق؟

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

مشاركة الخبز/ الأحد 22 نيسان 2007/ العدد 16

في بداءة العهد الرسولي فهم المسيحيون انهم متشاركون في الخبز كما هم متشاركون بالكلمة وجسد الرب، وفهموا ان مناولتهم للجسد الواحد تعني انهم إخوة، وتاليا الا يكون الطعام قليلا في اي بيت لأنهم اذا صاروا طبقات متفاوتة جدا يفقدون المحبة. قال الرب: «المساكين معكم في كل حين». فاذا كنا جماعة واحدة لا يجوز ان يجوع واحد منا.

في هذه المعرفة للواجب، في اورشليم، عندما تكاثر التلاميذ اي المؤمنون «حدث تذمّر من اليونانيين على العبرانيين بأن اراملهم كنه يُهملن في الخدمة اليومية». وذلك في الكنيسة الواحدة. اليونانيون هم اليهود (المتنصرون) الذين كانوا يأتون من المهاجر اليهودية ولا سيما الاسكندرية ويتكلمون اليونانية. وكان من الطبيعي، بسبب اللغة، ان يلتفوا بعضهم على بعضٍ. والعبرانيون المذكورون هنا هم المسيحيون الذين كانوا يسكنون فلسطين ويتكلمون اللغة الوطنية اي الآرامية. فحدث نوع من التعصّب العنصري في الكنيسة واحس اليونانيون انه كان تفريق ضدهم «في الخدمة اليومية» اي في توزيع الإعاشة.

رأى الاثنا عشر انه ليس حسنا ان يتركوا خدمة الكلمة اي العمل الكهنوتي وينصرفوا للقضية الاقتصادية فلتُكلف بالإعاشة فئة من الكنيسة، فأقاموا سبعة رجال وصلّوا ووضعوا عليهم الأيدي. قال معظم المفسرين القدامى ان هؤلاء هم الشمامسة. وقال آخرون لا ولكنهم مثل من نسميهم اليوم مجلس رعية. وقد امتاز بينهم استفانوس الذي دعته الكنيسة يوم عيده اول الشمامسة واول الشهداء وأشار سفر أعمال الرسل انه كان «ممتلئا من الايمان والروح القدس» مما يعني ان امور المعيشة في الكنيسة لا تُسند حصرا الى بسطاء القوم. ونعلم طبعا خطاب استفانوس في سفر الأعمال، وعلى اساس اعترافه بالمسيح في هذا الخطاب رجمه اليهود. غير اننا نعرف بعد هذا العهد الأول ان الشمامسة في كنيسة رومية كانوا مولجين بالأمور الاقتصادية.

عندما نرى اهتمام بولس الرسول بالناحية المعيشية لأهل أورشليم والتبرعات التي كان يجمعها لهم من الكنائس التي أسسها، وكان هذا جزءًا من تفويض الرسل لهم برسالته، نرى الأهمية الكبرى التي اولتها الكنيسة للمعاضدة بين المؤمنين. وطالما ان هذا الموضوع ورد مرات في العهد الجديد، يكون رئيسيا في حياة الكنيسة ولا نتخلّى عن هذا الجانب الأخوي حتى لو صارت الدولة متطوّرة جدا ومحت الكثير من آثار الفقر عند المواطن، يبقى له رغبة في ان تهتم به كنيسته. فقد لاحظ بعض الفرنسيين ان الضمان الاجتماعي الذي تقدمه الدولة لا يلبي رغبات قلوبهم. فالقضية هي ان يعتني بك أخوك بالايمان وان يحبك هو ويعبر عن محبته بما هو محسوس.

ولكن هذا لا يكفي. ينبغي الا يفرق المطران والكاهن بين الغني والفقير، وينبغي ان يستقبل كل مؤمن بالحرارة نفسها، وان يكون للغني والفقير المنزلة نفسها في مجلس الرعية ومجلس الأبرشية وان يكون الافتقاد واحدا. وان كان لا بد من التمايز فليُعتبر المحتاج اول الناس بيننا.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

العمر والأعمار / السبت ٢١ نيسان ٢٠٠٧

منذ سنوات قليلة انا مذهل بتركيب الجسد البشري. كيف تحوي النطفة في طاقتها كل الإنسان. أنشتين كان مهيأ لعظمته منذ اللحظة الأولى من تكوينه في الحشاء ولكنك تنمو في الزمن وتتشكّل وتتغيّر بالتربية والخبرة ولكن في حدود الجينات التي انت منها وفي حدود الذاكرة الجماعية التي منها تجيء. لا اتكلّم هنا عن الأبراج ولكن على ما اورثك ابوك وامك في عملية حب ومما يحملانه في جسميهما وربما في عقلهما ومن مناخ البلد وربما من نشوئهما الديني والثقافي. نحن امام سر كامل كنهه عند الله ونعلم قليلا «وغابت عنك أشياء». هذا ما زاد اعجابي في التكوين البيولوجي الذي يعجز العلماء كليا عن تقديره.

                      وفيما يلفتك في هذا المجال انك تأكل طعاما وبعد ساعتين يصير جزءًا من عينيك ويديك وكل أعضائك. نحن اذا مخبر كيميائي كامل وينتهي هذا المخبر باختلال وظائفه اي هذا التفاعل العجيب بين اعضائك.

                      هنا يستوقفني الموت المسجل فينا منذ تكون الجنين اذ نحيا من بعد الولادة ونموت معا بمعنى ان النمو لا ينتهي عند نقطة تبدأ فيها حركتنا الى الموت. الحياة والموت مترافقان منذ البدء وهذا بفضل الحب الالهي الذي أوجدنا وبهذا الحب نفسه الذي يستردنا الى الله عند اختلال وظائف الجسد.

                      بين هاتين الحركتين يعمل الأطباء. وظيفتهم ان يؤخروا الموت في علم تراكمي منذ هيبوقراط الذي كان لي فرح الصلاة على قبره في جزيرة كوس في اليونان. الاطباء حولوا الواقع الى نظريات وحفظوا خبرته وجعلوها فنا. انهم يصارعون معك الموت. ويلاحظون اقترابه او حدوثه المفاجئ وهذا ما اكسبهم الى التنظير فنا كبيرا فيه الكثير من الحدس. تعاون الاطباء على قدر ذكائنا ولكن ليس من عالِم في العالم يعرف متى تموت. وانا عندما أضع رأسي على الوسادة أستغفر لشعوري بأن شيئا في العالم لا يضمن يقظتي في الصباح الآتي.

                      وما زاد في ذهولي ان بعضا من نبات الطبيعة ولحم بعض الحيوان مكوّن بكيمياء ليصير جسدك. من وضع هذا الانسجام بينك وبين الطبيعة؟ هل أتى هذا كله بلا حساب ام ان فكرا واحدا جعل بينكما وحدة غايتها انت. لا تستطيع ان تنكر امام هذا العالم المتعدد، المتلون انه يتناغم والجسم البشري وكأنك انت غاية الطبيعة وان الوجود كله هو بالدرجة الاولى فكر متعال نقضي في هيمنته حياتنا على الأرض. واذا كان الانسان غاية هذا الكون وليس العكس فمعنى ذلك ان هذا الفكر (او هذا المفكر السامي) يحب الانسان على الطبيعة ويحب الأرض على بقية الأكوان ولهذا استطيع ان اؤكّد مطلع سفر التكوين: «في البدء خلق الله السماوات والأرض». لماذا جمع الكتاب كل المجرات والنجوم التي نعرف ولا نعرف باسم السموات وجعل الأرض متفرّدة عن كل الوجود. أليس لأن مليكها هو الإنسان الذي تقول التوراة ان الله خلقه على صورته كمثاله؟

#               #

#

                      فينا اذًا جمالات كثيرة قبل ان نموت. تنزل علينا رؤى ونبدع في الكلام والفنون والتقانة (ويؤثر الأكثرون على تسميتها التكنولوجيا). وبهذا الى اخلاقنا نشبه الله. غير اننا نمر بمراحل لندرك النهاية، نهاية هذا المطاف.

                      تأمّلت كثيرا في هذه المراحل بعد ان ادركت شيخوخة طاعنة اتخذ فيها وقايات كبيرة دفعا للموت ولست أرى ان كفاحنا البيولوجي وتحركنا النفسي يعنيان غير هذا. ويختلف عنهما الجهاد الروحي ومضمونه لقاؤك الله هنا وفوق وبهذا وحده تتغلّب على الترابية التي فيك.

                      غير انه يجدر بنا ان نتأمّل في مراحل العمر وهي ثلاث: الطفولة مع المراهقة، الكهولة والشيخوخة لكي نثمر عند كل اجتياز. انا ما ذقت الطفولة لما كنت فيها ربما لأن والديّ أراداني على شيء من النضج فيها والقفزة فيها مخاطر لأن الطفولة ولا سيما المراهقة تنتقم اذا تجاهلتها. كان والدي يكرهني على مطالعة بعض من صحف ومجلة الدبور وانا في السابعة وقبل العاشرة كنت أفهم من هذه الأدبيات الكثير ولكني ما تعاطيت الرياضة في المدرسة لأن رفاقي اعتبروني غير فهيم في هذا المجال.

                      غير اني منذ اربع سنين لظروف عائلية لم تتسنّ لي من قبل شاهدت الأطفال للمرة الاولى في حياتي بمعنى التعاطي والحب وما استطعت من فهم. والى الآن لا افهم كثيرا المراهقة المتقلبة، المزاجية احيانا. فاستغربت ان الطفل ليس ببريء كما تظن العامة فعنده هزء يتسلّط  فيه وغنج يستغل فيه ولكن كثيرا ما كانت عنده العفوية وأريد بها العلاقة المباشرة التي يسميها الانكليز Immediacy ولو كان عنده احيانا بعض من سياسة اي نوع من التخطيط القصير المدى. رأيت في الطفل الخطيئة ولكن بلا محاسبة اذ يعوزه الرشد الذي يؤتي الانسان المسؤولية.

                      الى هذا الطفل قادر على العطاء وعلى عاطفة جريحة، احيانا ولو لم يحفظ السوء ولكنه يحفظ الخوف. احفظ من الاطفال هذه الصلة المباشرة التي يقيمونها بلا مواربة ولا محاباة. هذا ينبغي ان نبقى عليه طوال الحياة والا نبقى على الجهالة عند الأطفال ولا على تقلبات المراهقين حتى تستقيم الحياة عند الكبر.

                      لن اكلّمكم على شبابي اذ لست قادرا على تحليل نفسي كثيرا. ولكني اختلط بالشبان الذين ارعى ويروقني الرفض عندهم لاعوجاج القادة ولكون الفضائل المفروضة في الكهولة باتت باهتة. واعذر تمرّدهم وأخشى طموحات لهم متصلة بما يشتهون ان يكسبوا. وهذا ما أراه اكثر فأكثر اذ لا تكاد تسأل فتى لماذا اخترت درس علم الحاسوب فيجيبك هذا يدر مالا كثيرا. مع اني اكره مقارنة الأجيال لا بد لي ان اذكر بأن الذين اقبلوا منا على الحقوق والطب والهندسة ولم يكن غيرها في الجامعة اليسوعية ما سمعت منهم ان هذه المهنة او تلك تؤمّن لهم دخلا كبيرا. لست اقول اننا كنا قديسين ولكن كان عندنا تطلْع الى جوهر المهنة وانسانيّتها.

                      الشباب حيوي ولست اريد بذلك قدرة الاجسام في كل طاقاتها ولكنه يحس بالحياة ووعودها بما في ذلك حياة الفكر وتأجج الإلهية فينا. فالشاب اراه عظيم التقوى وعميق الرؤية الدينية في كثرة الأحوال صحيح ان النبي داود قال: «خطايا شبابي وجهلي لا تذكر». ربما كان صاحب المزامير يتوب عن معصية فظيعة ارتكبها ونحن نعرفها ولكن لا شيء يشير على ان الشاب افتك جهالة في هذا المجال من الكهول واحفظ من هذا العمر الحيوية التي اتمنّى ان تستمر فينا بلا زهو.

#              #

#

                      اما الكهولة فهي العمر الصعب والبركات ايضا. ففي سن الأربعين وما قبيلها او ما بعيدها تحدث لكثير من الناس اهتزازات نفسية وروحية سماها الروائي الفرنسي le démon de midi, Paul Bourget مقتبسا عبارة المزامير «شيطان نصف النهار». الاربعون هي مرحلة الشك ولكنها هي ايضا مرحلة الإبداع الفني والفكري اذ ان الأكثرين كانوا بلغوا الكهولة عندما شرعوا بالكتابة. ربما اتى الشك والإبداع معا من اضطراب الكيان اي بدء الانهيار الجسدي وشيء من الانهيار النفسي.

                      عند هذا التراجع الجسدي للحيوية من المؤكد ان معظم الكهول يصيرون اعظم سماحة اذ يلاحظون ان الضعف شأن جميع الناس وانهم اخفقوا في ان يكونوا عظماء في الروح. ولكن اذا حفظ الكهل عفوية الطفل مع الفكر وحيوية الشباب ولم يخسر مثاليّته يكون قد بلغ نضجا كبيرا.

#              #

#

                      لست اعلم بعد ان كان للشيخوخة خصوصية او حسنات فهي على ما ارى تكمل سماحة الكهول وربما في مقدار اكبر لأنها ترى الناس يضعفون. الشيخ بعامة ينام على امجاده ولا يحب الكفاح الذي منه التغيير وقد يكون على شيء من الحزن لأن انتهاءه في الأرض يكتمل. طوبى لذلك الذي تضمحل عنده خشية الموت ويحافظ على حيوية لا تأتي من جسده بحيث يكون -على صعيد الوجدان والرؤية- طفلا وشابا وكهلا معا فلا تخفي فضيلة فضيلة او هبة هبة وتكون الأعمار غير حاجبة للحياة الواحدة. واميل الى الاعتقاد اليوم ان طول العمر عطاء من الله لنتوب اليه اذ تأكلنا الشقاء او بعض شقاء فيصبح الكيان البشري بكل جوانبه فيرانا الله على بلورية تروقه.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

المسيح قام /الأحد 15 نيسان 2007/ العدد 15

ولئن كان للفصح يوم واحد في الزمن الا انّ الكنيسة تحتفل بمعناه بين الجمعة العظيمة والأحد. فبعد العشاء السري قال يسوع: «الآن تمجّد ابن الانسان وتمجّد الله فيه» (يوحنا 13: 31). كانت كلمة مجد تدل على موته. فاذا كانت القيامة تعني انتصار السيد على الموت فهذا النصر حصل ايضا على الصليب وأتى انبعاث السيد كاشفا لنا نصرا حصل.

فعلى الصليب وطئ الموت بالموت لأن الحياة الإلهية التي كانت في المسيح منذ الأزل وكانت منه واياه في السنوات التي قضاها بيننا، هذه الحياة دخلت الى مملكة الموت ونقضتها. كل مؤمن بيسوع صار يرجو لنفسه الحياة الأبدية. وكل البشرية بحكم انتصاره سوف تقوم في القيامة الأخيرة، ومنذ انصلابه صرنا نحيا حياة جديدة بإبادة شهواتنا وانتظارنا النور ينزل علينا في القرابين الى ان ينسكب مليئا في اليوم الأخير.

لذلك ليس في ديانتنا ظلام ولا نتفجّع اذا سمعنا يوم الخميس العظيم مساء: «اليوم علّق على خشبة»، فقد ذاق المسيح الموت ليحررنا منه وقام من بين الأموات ليقول انه قام بهذا من اجلنا. ولهذا لا نئن ونحاول الا نبكي بكاء مرا اذا غادرنا عزيز لأن ميتته رحلة طيبة الى ملكوت السموات.

ولما سَبَتَ المخلّصُ في القبر استراح الكون به وانتهى عمل الله لأن القصد من الخلق ان نكون في السكينة التي كان يسوع فيها في القبر. وحتى تستريح انت حقا يجب ان تكون معه وله.

ثم بالقوة التي كانت فيه قام من بين الاموات في اليوم الثالث لأن يسوع لا يمكن ان يبقى في قبضة الموت او يعتريه فساد. لذلك لا نطلق كلمة جثمان او جثة على يسوع لما كان راقدًا بل نقول جسد يسوع لأنه فيما كان في القبر كان يعطي العالم الحياة. ديانتنا ديانة حياة ولذلك اجترأ القديس يوحنا الذهبي الفم ان يقول: «ليس من ميت في القبور» لأن الزمان اللاحق بموت كل انسان هو رجاؤنا الحياة الأبدية لهذا الذي جعلناه في التراب. فكما كان المسيح في القبر دائما مع الآب والروح اي دائما حيا، يكون من مات من بين أمواتنا دائما مشدودًا الى الإله الحي. ولذلك نقول في آخر النشيد الفصحيّ: «ووهب الحياة للذين في القبور» بمعنى ان من تراهم راقدين في قبورهم هم في الحقيقة راقدون في الرب وليس تاليا من قبر.

غير ان القيامة لم تبقَ حدثًا محجوبا فقد رآه التلاميذ مرارا عديدة. ولذلك نقرأ كل احد فصلا متعلقا بظهوره للتلاميذ.

هناك شهود شهدوه وتكلموا عليه. الظهور في العلية بلا توما ثم ظهور مع توما. ظهور على بحيرة طبرية. الظهور لمريم المجدلية في البستان. الظهور لتلميذي عمواس وهما في الطريق وغير ذلك.

بعد قيامة المخلص بات كل شيء نورا. لذلك لا نكذب ولا نشتم احدا ولا نقسو لئلا نصير ظلاما. هذا فصح كي ينتشر ضياء المسيح. هذا فصح لنسمي كل الناس إخوة. لكي تنهض الكنيسة بهذه المحبة. واذا اخذنا هذا الضياء لا ننتظر شيئا يضاف عليه.

المسيح قام!

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

صلاة الجماعة / السبت ١٤ نيسان ٢٠٠٧

اذا أحزنك وضع البلد والإنسان تلجأ الى الله الصانع العجائب وحده وإحساس الكثيرين ان لبنان في حاجة الى أعجوبة تفتح الأبواب الموصدة. وفتح الأبواب يتطلّب منا أدعية مكثّفة والرب لا بد مستجيب. وأهم صلاة عندنا صلاة الجماعة حسبما ورد عن المسيحيين في القرن الاول: «وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والمشاركة (او الشركة) وكسر الخبز (او المناولة) والصلوات» (اعمال الرسل 2: 42). يجتمعون يوم الأحد ليكونوا واحدا ويقووا بعضهم بعضا ويصيروا كيان المسيح الظاهر بالكأس الواحدة.

              لا ينكر احد الصلاة الفردية صباح مساء في البيت وفي كل مكان القائمة اصلا على ان تتلى في الكنيسة وما يرفعه المؤمن من أدعية ولكن لا دعاء فرديا يسمو صلاة الجماعة اذ نكون فيها في الحقيقة شخصا واحدا وفما واحدا وقلبا واحدا.

              في احد توما الذي اليه نصير غدا حسب تقويم كنيستي نقرأ في إنجيل يوحنا ظهورا ثانيا للسيد لتلاميذه وكان قد تراءى لهم مساء يوم الأحد الذي قبله اي يوم قيامته. اذ ذاك لم يكن توما معهم وأعطاهم الروح القدس اذ كانوا معا منتظرين المعزي الذي وعدعم به بعد العشاء السري. ثم ظهر الرب في الأحد الثاني وكان، عند ذاك، توما معهم وكان لم يصدق ان الرب ظهر فقال له المعلم: «هاتِ اصبعك الى هنا فانظر يدي، وهات يدك فضعها في جنبي ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنا». لماذا وبّخ السيد هذا التلميذ على عدم الايمان؟ لا اجد طبيعة عدم ايمانه الا بأنه لم يصدق إخوته التلاميذ. كانت شهادتهم كافية ليؤمن. فلكون توما انفصل عقله وقلبه عن عقل زملائه الرسل وقلبهم وقع في خطيئة الجحود. كان ينبغي ان يكون مع الجماعة ولو غائبا عنها.

              المتخلفون عن قداس الأحد اذا سألتهم عن غيابهم يجيبونك: نحن نصلي في البيت. كيف تريدني ان اصدق ان الذي يغط في النوم ثم يحتسي القهوة مع زوجته ثم يفطر كان لحظة في حالة صلاة، انه يفكر في الواقع انه لا يحتاج الى ان يقف مع الجماعة المصلية وان يكون قلبه الى قلبها ووجهه الى وجهها ليرى الله من عليائه اننا نشكل معا وجه ابنه على الأرض. طبعا يؤلمني هذا التهاون وهذا الإعراض عن الاخوة اي هذا الانعزال العميق عن المشاركة.

              الفردية متأصّلة فينا- على هذا الصعيد وعلى غيره- والفردية هي الانقسام والتجزئة والتبعثر والخروج الفعلي عن الأمة المقدسة. قد لا يعي الغائب اننا نحن نصلي في الكنيسة للإخوة «الذين تغيّبوا عنا لأسباب ممدوحة». ما عدا ذلك ما العذر؟ انا لا اذكر هنا الذين فقدوا كل ايمان ولكني لست اظن ان في الشرق انسانا ملحدا بالمعنى الكامل. غير ان المحبة لله تفتر وافتقادنا للإخوة قد يتعطل وهذا اهمال للذين يحبونك ويريدونك مرصوفا في صفوفهم اي انهم لا يستغنون عنك وانت بالتغيّب استغنيت عنهم.

#           #

#

              عندنا قانون من بدء المسيحية يقول: ان من تغيب ثلاثة آحاد عن الكنيسة فليقطع اي فليخسر العضوية. والمعنى انك مدعو الى الكأس المقدسة ولا عذر لك ان خفت من ان يلقي عليك العسكر الروماني القبض. وكانوا يذهبون الى الكنيسة وهم تحت التهديد.

              يؤلمني جدا اذا اعطيتكم احصاء تقريبا عن الذين يحضرون صلاة الجماعة. ففي المنطقة التي ارعاها لا يتجاوزون العشرين بالمئة اذا كانوا كثرا. لست هنا لأعالج امام قرائي هذه الصعوبة. ربما وجب إكثار الكنائس ولكن هناك معابد تستوعب ومع ذلك يسود في احيائها اهمال كبير.

              في بلدان بعيدة عنا كثيرا يسوق المؤمن سيارته بين ساعة واربع ساعات ليصل الى الكنيسة لأنه ساع الى الخبز السماوي كما يقول يوحنا. عندما  كنت اسمع في البيئة التي نشأت فيها الكثيرين يقولون: احس بضياع كامل يوم الأحد اذا اضطررت الا اشارك في القداس الالهي. هل من له هذا الشعور اليوم؟ ليس يقول يسوع: «الكلام الذي اكلّمكم به هو روح وحياة». هل قصرنا بتبليغ هذه الرسالة؟ هل اهمل المسؤولون نقل الايمان؟ هذا بحث آخر ولكن هل معذوراحد بإهمال الألم الذي يكابده المصلون عندما يجدون انفسهم قلة اي عندما تتحول الكنيسة الى قاعة نصفها شاغر فلا تكون جماعة بل حجر.

              لماذا صلاة الجماعة؟ الجواب البسيط هو لكوننا كنيسة اي جماعة الذين يومنون بيسوع. حتى لو صلّى احد وحده فهو من الجماعة اي انه عضو في جسد المسيح. وانت تتحقق عضويتك في هذا الجسد عندما تتناول القرابين المقدسة اذ عند ذاك تصير من الجماعة. لكون هذه تجتمع قال بولس: «أليست كأس البركة التي نباركها مشاركة في دم المسيح؟ أليس الخبز الذي نكسره مشاركة في جسد المسيح؟ فلما كان هناك خبز واحد، فنحن على كثرتنا جسد واحد، لأننا نشترك كلنا في هذا الخبز الواحد» (١كورنثوس 10: 16و17).

              هذا يدل على ان خصوصية الكنيسة لا تقوم بالبناء وحسب ولكن بتناول الكأس. واذا كان ثمة ضرورة لإقامة الذبيحة خارج مبنى الكنيسة فالكنيسة قائمة في المجموعة البشرية التي تشترك بالقرابين المقدسة. في هذه الأيام، منذ عهد النهضة الذي بدأه شبابنا نرى المؤمنين جميعا يقتربون من الكأس ولم نبقَ في الزمان الذي لم يكن احد يقبل الى المناولة الا يوم الخميس العظيم او ثلاث او اربع مرات في السنة. صح ان الانسان يصبح عضوا في الكنيسة بالمعمودية ولكنه لا يبقى عضوا فاعلا الا اذا أقبل على الذبيحة الإلهية في كل يوم أحد وعيد. انى لك ذلك وانت مضطجع على سريرك  صبيحة الأحد مدعيا انك تصلي؟

              كيف تعيّد للقيامة كل احد وانت مستلقٍ في غرفتك؟ كيف تعي هذه القيامة عندما تتناول فطور الصباح في  منزلك ثم تقوم بنزهة مع أولادك؟

              صح ان الله موجود في كل مكان ولكن المسيح قال: «خذوا كلوا هذا هو جسدي» وقال عن الكأس: «اشربوا منها كلكم. هذا هو دمي للعهد الجديد». بهذا نقيم العهد معه اي بهذا نحبه ويظهر لنا ذاته. غير ان العهد قطعه هو على صليبه. ولكن كيف تعلن ايمانك بالمصلوب اذا لم تقبل قول الرسول: «فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تعلنون موت الرب الى ان يأتي» (١كورنثوس 11: 25).

              كيف تكون غريبا عن اخيك، كيف تنعزل عن المكان الذي قصده ليستمع الى الكلمة الإلهية التي تؤهله ليتحد بالمخلص فيصير من المخلص والمخلص اليه. للمسيح حضوران هو حددهما: اولا بالانجيل وثانيا بالكأس المقدسة. انا ما انتزعت المسيح عن قلبك اذا تواريت عن الإخوة. ولكن هذا الذي في قلبك اذهب اليه حيث يجتمع الإخوة وأعطهم ما في قلبك وخذ ما في قلوبهم لتكونوا جماعة يراها هو واحدة فيه. هكذا تسيرون معا اليه واذا انعم عليكم بالكلمة والكأس تسيرون في الله وتصبحون معا سكان السماء ولو بقيت أجسادكم الآن على الأرض.

              لقد تحسس بعض من شعبنا منذ سنوات قيمة الذبيحة الإلهية بعد ان كانوا قديما يهتمون للإنشاد وحده. باتوا الآن أكثر لصوقا بالمخلّص كل حسب فهمه وكل بمقدار حبه. والفهم يزداد عند من فهم قول الكتاب: «ذوقوا وانظروا ما اطيب الرب» (مزمور 34: 8). وهذا يتحقق بامتياز عندما تلامس الكأس شفتيك فتنزع آثامك وتطهّرك من كل خطيئة.

              اذا كنت لا تهجر عائلتك الجسدية كيف تهجر عائلة الرب وهم اقرب اليك من أبيك وأمك؟ الى هذا صلوات مختلفة خارج القداس لا تؤتى انت معانيها ما لم تلازم الكنيسة في المواسم الكبرى وفي المواسم الصغرى. وبعض منها يتمم خارج اوقات عملك. واذا كان جسدك يتنشّق الهواء فإن روحك لا تتنشّق بصورة كاملة الا اذا سكنها الله بكلمته. انها في امتدادها وعرضها وشرحها هي في الكتب الطقسية التي لا تقتنيها في بيتك. واذا تلوتها مع الإخوة او استمعت اليها ترتفع قامتك الروحية وتمتشق حتى السماء. لا تتقزم روحيا بالجهل. الله يحييك بما قاله مرة واحدة وبالعبادات التي وضعها بإلهامه آباؤنا القديسون.

              «استيقظ ايها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح» (افسس 5: 14). لا تسترخ. ان الله لا يحب المسترخين. بادر بالجهد الذي قال لنا الله كيف يكون. اهتزّ وتعال الينا فتستوعبنا ونضمّك الينا ويستوعبنا الله جميعا حتى نتحرك به واليه. الجماعة في حاجة اليك ولا تكتمل الا بك فتعرف عندئذ ان هذه الجماعة عليها بهاء الله.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

أحد الفصح المجيد / الأحد 8 نيسان 2007/ العدد 14

يوم الفصح نشرع بقراءة انجيل يوحنا. وقيامة المسيح مؤسسة على انه كلمة الله، والكلمة كان مع الآب قبل إنشاء العالم. «ولما حان ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة». وكان هذا مقصد الآب قبل ان تتكون الأزمنة. القيامة هي نهاية العمل الذي باشره الله بتكوين العالم. وبعد هذا نعيش بقوّة القيامة التي تنقينا من كل خطيئة اذ تجعلنا قائمين مع المسيح وجالسين معه في السماويات.

في مطلع إنجيل يوحنا جاء الكلام على النور الذي هو المسيح الذي ينير كل انسان آت الى العالم. ثم يكمل الإنجيلي تأمّله في المسيح ويقول انه كان في العالم اي قبل ان يولد من مريم وهو الذي به كان العالم لأنه مشترك مع الآب والروح في الخَلْق. ثم يقول انه جاء الى خاصته اي اليهود، ولكن خاصته لم تقبله وأوصلته الى الموت. وهذا ما سيتحدث عنه يوحنا في آخر انجيله.

يبدأ البشير اذًا من الخلق الذي قام به ابن الله مع ابيه وروحه، ثم ينظر الى الذين قبلوا المسيح ويقول ان الله اعطاهم سلطانا ان يكونوا اولادا لله بنعمة الفداء الذي أخذوه من الصليب. والصليب أنقذهم من الموت الروحي وسينقذهم نهائيا عند المجيء الثاني للرب. هؤلاء يقول عنهم انهم لم يولدوا من لحم ودم ولا من مشيئة رجل، اي انهم ولو ولدوا من آبائهم وامهاتهم فبنظر الله انهم ولدوا منه بالأبوة الإلهية التي تكشّفت لهم وأحسوا ببنوتهم له بقوة الروح القدس التي اتخذوها بالمعمودية ويتخذونها دائما بالكلمة والقرابين.

وفي المقطع الثاني من الفصل يقول: «والكلمة صار جسدا» اي لبس جسدا من العذراء وحلّ فينا وسكن بيننا، وفي ترجمة دقيقة «نصب خيمته في حيّنا» لكونه صار بشرا ومثل البشر ما خلا الخطيئة. ثم يتابع قد ابصرنا مجده الذي انكشف في آلامه اولا ثم في قيامته. ولذلك بتنا نحن ايضا بسبب عطفه قائمين في المجد الإلهي. واخيرا يقول: «من ملئه نحن كلنا اخذنا ونعمةً عوض نعمة او نعمةً فوق نعمة».

ولكون البعض كانوا يظنون انهم يخلصون بناموس موسى قال «ان الناموس بموسى أُعطيَ واما النعمة والحق فبيسوع المسيح حصلا». لا تبقى الآن الا شريعة المحبة وهذه لا حاجة فيها الى فرائض الشريعة القديمة لأننا نتغذى نحن من النعمة والحق اي بنعمة الروح الإلهي والحق الذي استلمناه من كلام المسيح ونطيعه نحن لنكون للمسيح.

النعمة والحق لم يُعطَيا قديما بواسطة احد. انهما حصلا بيسوع المسيح. ذلك انه هو النعمة والحق. ذلك ما سيوضحه السيد بقوله: «انا الطريق والحق والحياة» وما سيقوله لمرتا اخت لعازر قبل ان يُحيي أخاها بقوله: «أنا القيامة والحياة». هو في شخصه، في حبه المكشوف لنا على الصليب ينبوع حياتنا الحقيقية التي هي القداسة.

هذا هو فصحنا الأبدي. فإذا كانت كلمة فصح تعني العبور فإنما ننتقل نحن من الخطيئة الى البر ومن الظلمة الى النور. كل توبة نقوم بها فصح لنا ما دامت التوبة. واذا الكنيسة احبت مسيحها تصبح عروسا له لا عيب فيها ولا تجعيد ولا وسخ. وتصبح الكنيسة متجاوزة اخطاء اعضائها وتغسلهم بتوبتهم فيسكنون حضنها وهي في حضن المخلّص. بهذه الروح نستقبل القيامة لنكون قياميين، مستنيرين ومنيرين. الى هذا نتوق وهذا ما سنحققه برضاء الله عنا لنكون منذ الآن وارثين لملكوت النعمة.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

القيامة / السبت 7 نيسان 2007

«سبق (داود) فرأى وتكلم عن قيامة المسيح انه لم تترك نفسه في الهاوية ولا رأى جسده فسادا فيسوع هذا أقامه الله ونحن شهود لذلك» (أعمال الرسل ٢: ٣١ و٣٢).

ليس عندنا في الإنجيل وصف لخروج السيد من القبر أو لما قد يسمى انتعاشه. الايقونة القانونية للقيامة هي نزول المسيح إلى الجحيم، لمملكة الموت مرتديًا حلة من نور ويقيم بيديه الانسانية كلها ممثلة بآدم وحواء. هذا هو انتصاره على الموت. وعندنا في الأناجيل الأربعة وعند بولس تأكيد لظهورات السيد وتأكيد ان هذا الذي تراءى أمامهم هو هو الذي عُلق على الخشبة. من هذه الترائيات انه «اظهر نفسه للتلاميذ على بحر طبرية» لما كان تلاميذه ذاهبين إلى الصيد وما عرفوه في البدء. ثم يقول التلميذ الذي كان يحبه لبطرس هو الرب. المحبوبية تفهم.

واذا اكتفينا بشهادة يوحنا يذكر لنا ان مريم المجدلية جاءت إلى القبر باكرًا والظلام باق «فنظرت حجرًا مرفوعًا من القبر وأخبرت بذلك بطرس والتلميذ الذي كان يحبه وقالت لهما أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه». هذا ما نسميه برهان القبر الفارغ. ثم كان لقاء المعلم مع مريم المجدلية في البستان وقد ظنت انه البستاني ثم سماها باسمها «فالتفتت تلك وقالت له ربوني (بالآرامية) الذي تفسيره يا معلم».

كان يهم الإنجيليين ان يقدموا شهادات ليقنعوا قراءهم. غير ان ابلغ شهادة عندي في كل الكتب ترائي المخلص لتوما الذي شك بعد الترائي الاول للتلاميذ ولم يكن فيه. فشك بما قال له التلاميذ. في المرة الثانية جاء يسوع والأبواب مغلقة فقال لتوما:”هات اصبعك إلى هنا وأبصر يدي وهات يدك وضعها في جنبي ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنا”. أجاب توما وقال له: «ربي وإلهي».

توما أبصر جراح اليدين وجرح الجنب. ربما كان هذا الرسول يعتقد ان زملاءه رأوا شبحًا لأنهم كانوا يهلوسون. هنا أراد يوحنا الإنجيلي في سرده الحادثة الثانية ان يقول ان هذا الذي عاينه توما هو اياه الذي علق على الخشبة وان آثار الصلب ما زالت في جسده. من هنا نستطيع ان نقول أننا أمام حادثة قيامة.

نحن لسنا اذًا فقط مع فكرة القيامة ولكننا مع انتقال يسوع الناصري من قبر كان في شكل مغارة مغلقة بإحكام وانه هو نفسه صار خارج المغارة. وعلى هذا بنى بولس كل ايمانه بالمسيح.

#     #

#

موته كان الحدث الأول في كل هذه المسيرة. وهذا كان امرا قرره احبار اليهود وحكم به الوالي الروماني وشهده شهود كثيرون. والقيامة دلتنا على ان هذا الذي رؤي كان اياه ذاك الذي رفعوه على الخشبة ثم رفعه الله اليه.

السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف كان جسد هذا الرجل عند القيامة. عندنا دليل واحد انه دخل على التلاميذ والأبواب مغلقة. لا نقول نحن ان جسده اخترق الحواجز. نقول انه حضر ونبقى في السر الكامل. مجموعة الاوصاف تدل على انه تخلى عن كمدة الجسد، هذا ما يسميه العلماء l’opacité de la matière. ولكن كما رأينا في ما ذكرنا من ترائيات هناك تواصل بين المسيح المصلوب واياه قائمًا أو هناك تماه مع إضافة النورانية على هذا الكائن الذي بدا لأحبائه غير مرة.

غير أننا نستطيع مداورة ان نعرف شيئا عن مظهر يسوع في الوصف التي تقدمه الرسالة الاولى إلى أهل كورنثوس عن البشر الذين سيقومون في اليوم الأخير في الإصحاح الخامس عشر. الإنسان سيكون في عدم فساد (الفرق ان السيد لم يعرف الفساد قبل الموت وفي الموت). ثم يتابع بولس عن جسد البشر: «يزرع في هوان ويقام في مجد (يسوع عرف الهوان طوعًا). يزرع في ضعف (عرف السيد الضعف الجسدي طوعًا) ويقام في قوة. يزرع جسمًا حيوانيًا (بالمعنى البيولوجي وكان يسوع على هذا) ويقام جسمًا روحانيًا».

صار جسد يسوع بالقيامة جسدًا ممجدًا أي قائمًا بصورة محسوسة في المجد الإلهي وكان في المجد الإلهي بصورة غير محسوسة قبل ان يتجلى على جبل ثابور. القيامة لم تعطه مجدًا. كشفته فقط وهو قائم فيه إلى الأبد في ناسوته الجالس عن يمين الآب.

#            #

#

أثر هذه الحقيقة فينا أننا نحن المؤمنين به أمسينا قياميين أي قادرين على التغلب على الفساد والخطيئة والموت في اليوم الأخير. ايماننا ان قيامة جميع البشر ثمرة هذه القيامة التي تحققت في المسيح يسوع. نحن عندنا الطاقة الفصحية بالتوبة وغفران الخطايا واهلنا الرب على اقتبال النعمة التي في كنيستي قوة نور أزلي، غير مخلوق وينزله الله علينا في هذا الزمان. أي عندنا المألوهية في الطاقة وتصير تأليها أي نصبح مشاركين الله في هذه القوى دون ان نكون مشاركين الجوهر الإلهي. هذه المشاركة ليست شركا لأننا لا نعبر من وضع المخلوق إلى وضع الخالق. ليس من اختلاط في المألوهية بين الطبيعة الإنسانية والطبيعة الإلهية. ولكن هناك انسكاب النور علينا ومعمودية نور دائمة اذا نحن بقينا على التوبة.

على هذه الأسس نفهم ان الكنيسة تعيد للقيامة كل يوم أحد وذلك قبل تأسيس الفصح لأننا من هناك نجيء وبقوتها نرى المجد الإلهي ونحن على هذه الأرض. من الفصح تجيء ذبيحة القرابين في الأحاد والأعياد ونأخذ بالقربان قوة المسيح القائم من بين الأموات ونصير إلى القوة التي تتفجر في آخر الأزمنة.

إلى هذا كل شجاعة الشهداء الذين يموتون شهادة للمسيح آتية باعترافهم بالمسيح الظافر بالموت. يصارعون امبراطورية روما وهم عزل ويصارعون كذلك كل الدول التي تشبهت بروما وقست عليهم على رغم وداعتهم الساطعة. كل جرمهم انهم كانوا يرفضون تأليه السلطان العاتي وما كانوا رافضين الطاعة. تحاسبهم الدولة على ما في قلوبهم المؤمنة بوحدانية السلطة الإلهية. تروضوا على الوحوش وكانوا يتجاوزون أجسادهم النازفة والمفترسة بفرح ولا خوف.

قصة الشهيد مرداريوس في هذا الصدد تدل على ما كان يجول في نفوس هؤلاء. هذا كان نبيلاً رومانيًا يتمشى في قصره فسمع من الشارع ما اعتبره أغاني. أطل من شرفته فرأى قافلة تنشد. سأل خدمه: من هم هؤلاء ولماذا يرتلون. اجابوه هؤلاء يسمون مسيحيين وهذه رسالة جاءت من المشرق، انهم ذاهبون إلى الإعدام ويرتلون لأنهم يعتقدون أنهم اذا أعدموا يتحدون بمعلمهم الذي يدعى المسيح. قال رسالة كهذه عظيمة. نزل الرجل من قصره وانضم اليهم ليذهب إلى الموت.

الانخطاف الرئيس عند المسيحيين ليس إلى القيامة الأخيرة. انه انخطاف إلى المسيح الذي استقبلته مرتا أخت لعازر الميت وقالت له: لو كنت ههنا لم يمت أخي. أجابها سيقوم أخوك. قالت له مرتا أنا أعلم انه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير. قال لها يسوع أنا القيامة والحياة. المعنى الظاهر ان عندك قيامة حقيقية فعالة هي قبل القيامة الأخيرة وهي أنا وفسر كلامه بعد هذا بقوله: «كل من كان حيا وآمن به فلن يموت إلى الأبد». قد يعبر بموت الخطيئة ولكنه ينهض منها اذا رآني على الصليب وخارجًا من القبر أي اذا شاهدني حاضرًا فيه.

المسيحيون المحدقون بالمخلص الآن قائمون معه في هذه الرؤية. حقيقة انبعاثهم هي اليوم ولهم ان يتطهروا الآن بلفتة منهم اليه فيصيرون خلائق جديدة مخلوقة بنوره. هذه العلاقة الحميمية به تجعل كل نفس من نفوسهم عروسة له اذ تعرف ان ليس لها حياة في ذاتها ولكنها تحيا به.

وتتمكن من ذلك اذا عاشت الفصح وهو كلمة تعني العبور مما كان ينهيها عنه، اذا عبرت اليه وتأملت وجهه وحده وعرفته انه كل موجود. في هذا السياق ألف القديس سيرافيم الروسي تحية فكان يقول لمن التقاه: يا فرحي، المسيح قام. أي انه عندك في صميم قلبك وهو محييك وليس عليك ان تنتظر شيئًا آخر اذ لا يزاد على الفصح شيء.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

إلى الصليب / الأحد أوّل نيسان 2007 / العدد 13

أحد الشعانين او أحد النخل دخل يسوع اورشليم للمرة الأخيرة اذ كان ينتظر فيها موته وانتصاره على الموت. خرج الشعب لاستقباله هاتفًا كما في طقوسهم «هوشعنا» (نقلا عن اليونانية نقول في القداس «اوصَنّا») وتعني أعطِ الخلاص. وكان الكهنة يجيبون في الهيكل: مبارك الآتي باسم الرب. وتكرّر هذا هنا.

اقتبس الإنجيليون هذه العبارة من الطقوس اليهودية وأضافوا عليها «ملك اسرائيل» ليدلّوا ان الآتي باسم الرب انما هو يسوع، وجعلوا هذا على لسان الشعب.

ركب يسوع جحشا وهذا ما تحدث عنه زكريا النبي وقد قال: «ابتهجي واهتفي يا بنت اورشليم، هوذا ملكك آتيا اليك بارا مخلّصا وضيعا راكبا على حمار وعلى جحش ابن أتان». اختصر يوحنا هذا الكلام.

غير ان التلاميذ لم يربطوا دخول السيد الى اورشليم بنبوة زكريا الا «بعدما مُجّد يسوع» والمجد هو بالصليب والقيامة والصعود.

اوضح يوحنا الانجيلي غاية الدخول الى أورشليم فجعل بعد اسطر من حادثة الشعانين قول السيّد: «ان حبة الحنطة التي تقع في الأرض ان لم تمت تبقَ وحدها، واذا ماتت، أخرجت ثمرًا كثيرا».

من الشعانين حتى العشاء السري يورد يوحنا خطابا لاهوتيا على عادته. اما في متى فبعد الدخول الى المدينة يلقي السيّد خطبا مختلفة في الهيكل ومنها الأمثال (مثل العذارى، مثل الوزنات) ويعلّم عن الدينونة. خلال الأيام الثلاثة من بعد الدخول الى اورشليم، لا يرتاح السيّد ولكنه يكمل المسيرة في التعليم حتى يأتي الاستعداد للمحاكمة في العشاء السري.

اما نحن فداخلون اليوم مع يسوع لمشاركة آلامه ونيل خلاصنا بالأسبوع العظيم.

بالألم والموت صار المسيح الختن (أي عريس الكنيسة). ولذلك نخصص ثلاث ليال للتحدث عن هذا العرس الجميل. النفس تدرك ان عملها الوحيد من مساء أحد الشعانين الى مساء الثلاثاء أنها تلبي نداء يسوع لها ان تصبح عروسه فتتخلّى عن كل ما يجعلها متمسّكة بهذه الدنيا لتلتصق بالمعلّم فقط.

ويتم العرس كاملا في قداس الخميس العظيم حيث أُسس سر الشكر. وابتدأنا نقيم العشاء السري (القداس) من بعد العنصرة بقوة الروح القدس. وبعد امتلائنا من الروح بتلاوة روايات الآلام الخميس مساء كما وردت في الأناجيل الأربعة، نسير مع السيّد الى الجلجلة حيث يكمل الخلاص على رجاء ان نبقى طوال حياتنا متحدين مع المصلوب ونائلين الفرح والنصر بصليبه ومعلنين النصر بهتاف: «المسيح قام».

هذه المواسم هي غذاء النفس وتذوق سيطرتها على الخطيئة. في هذه الأيام نفهم عميقا ان المسيح مركز الوجود، وعلى رغم الشدائد والاوجاع والحروب والفقر المدقع نعرف ان المسيح هو الحياة.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

من الأسبوع العظيم الى الفصح / الاحد ١ نيسان ٢٠٠٧

ومضات فقط لنلتمس شمس الأسبوع الذي نفتتحه غدا بالشعانين  بعد بعث اليعازر من الموت اليوم. واهم ما في الحادثة حوار السيد مع مرتا اخت الميت لما قال لها: سيقوم أخوك فقالت له انا اعلم انه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير. قال لها يسوع: «انا هو القيامة والحياة». المعنى ان القائم هو من كان في المسيح وان القيامة العامة تأتي تحقيقا اخيرا لهذا الحاصل اليوم. المؤمن في مماته او معاشه الظاهرين انما يأتي مني ويصير مثلي. واذا قام فيّ لا يحتاج الى شيء آخر يكمله. هذا العاشق ليسوع حيّ يعبر هذا الوجود وما بعد هذا الوجود.

                      في حادثة بعث أليعازر دشّن المعلّم موته اذ دخل الى اورشليم وخرج الجمع الكثير للقائه. سنخرج نحن بدءًا من غد من كل وطأة الدنيا لنلقى وجهه وفي هذا اللقاء غسل عينينا.

                      وبعد ان تنقضي الشعانين نقيم في كنيستي ثلاث ليال ما نسميه صلاة الختن. هذا مصطلح سرياني يعني العريس. ونرسم ليسوع العريس صورة لآلامه ونقيمها في الكنيسة لنقول ان من اقتبل منا، تواضع. هذا المسوق الى الذبح تصبح نفسه عروسة المسيح ولكن هذا يقتضي تشبها بالسيد في كل شيء. ونجترئ على الكلام على دخولنا خدر المسيح لأن حبه لنا هو زواجه الحقيقي مع الانسان. وهذا التزاوج بيننا وبين المخلص سيتحقق في دمه يوم الجمعة العظيمة عندما يرفعه الخطأة على الصليب، ذلك ان كل عرس لا يتم الا بالدم.

                      دخل يسوع الى اورشليم وأخذ يعلم. ندد بالفريسيين تنديدا واسعا، شديدا. ثم يحمل السوط ليطرد التجار من الهيكل. الاسبوع القادم صعب اذ كل منا مضطر ان يفحص قلبه ليعرف اذا كان من المنافقين او من تجار الهيكل وبعد ان يتعرى بتوبيخ يسوع له يصبح فقط من أحبائه.

                      عند ذاك يجالسه في العشاء الأخير وعند ذاك تهطل عليه الكلمات الجسام التي قالها السيد عن يهوذا الاسخريوطي: «ويل لذلك الرجل الذي يسلم ابن الانسان. كان خيرا لذلك الرجل لو لم يولد». السؤال المخيف هو هل انا يهوذا آخر خائن لابن البشر بعد ان آلفته طويلا ثم حولت وجهي عنه لألهو بمغريات هذا العالم ام اتناول خاشعا، مكسورا المخلص ذاته بالحب عملا بقول الكتاب: «وفيما هم يأكلون اخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي. واخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلا اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من اجل كثيرين لمغفرة الخطايا».

                      نحن لا نزال في لغة الاتحاد حيث ينبث في كياننا كله وفي قراءة اعظم سحرا هو يأكلنا ويشربنا او بتعبير ابسط في العشاء السري هذا يحل فينا ونحل فيه. ابوه الذي نخطئ اليه ينسى، عند ذاك، كل خطايانا.

#                   #

                      في إنجيل يوحنا ذكر لعشاء عادي وليس فيه ذكر لتقدمة الخبز والخمر ربما لأن يوحنا كان قد تكلّم طويلا عن خبز الحياة في موضع آخر. ولكن بعد الإشارة الى ان يهوذا اشترك في الطعام قال البشير عنه: «فلماذا اخذ اللقمة دخله الشيطان ثم قال فلما اخذ اللقمة خرج للوقت. وكان ليلا».

                      كل عشاء يتم في الليل. ما يذكره اذًا يوحنا لا يدل على الوقت. المعنى الذي استدل عليه من السياق ان التلميذ دخل الليل قلبه. هذا جزاء الذين ينكرون يسوع كل على طريقته.

#                   #

#

                      في هذا المخاض تتهيأ امة اليهود لتقتل الذي كان منها حسب الجسد وهي التي أسلمته الى الوالي الروماني. بعض علماء الغرب يقول ان بيلاطس هو الذي اصدر حكم الإعدام وما قامت على مجمع اليهود خطيئة. غير ان هذا المجمع مع الرعاع هم الذين ضغطوا على بيلاطس وبتأثيره خوفه من هياجهم الجماهيري أعدم السيد. ليس البحث الحقوقي مفيدا اليوم وما البحث في تبرئة فريق ذا معنى فكل خطيئة ارتكبها احدنا قاتلة للمسيح. ولا رجوع عن مسؤولية هذا الذبح الدائم الا بالرجوع الى وجهه والانضمام اليه.

#                  #

#

                      نحن لا نتحدث عن هذه الميتة الا لكونها مطرح النصر والبر فالقيامة. وقبل ان يتم القتل الفعلي اسلم المعلم نفسه الى مشيئة الآب في البستان. في هذه الصلاة » لتكن مشيئتك لا مشيئتي« وحّد المخلص ناسوتيته طوعا بإرادة ابيه وانهار الفاصل بين الله والبشر، هذا الفاصل الذي أقاموه ليستقلوا عن خالقهم ويؤلّهوا انفسهم على غرار آدم. كان يسوع هو الوسيط بينهم وبين الله. فلما غربوه عنهم ورفعوه على الخشبة غفر للقاتلين ولنا وبهذا «تمجد ابن الانسان وتمجد الله فيه».

                      ارادوا استئصاله ولما نظر اشعياء اليه قبل ذلك بقرون قال: «لا صورة له ولا جمال فننظر اليه ولا منظر فنشتهيه». ولكنا الآن وبعد ظفره صار هذا الوجه كل النور. كذلك قال اشعياء «لكن احزاننا حملها واوجاعنا تحمّلها… وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا… تذلل ولم يفتح فاه كشاة تساق الى الذبح وكنعجة صامتة امام جازّيها فلم يفتح فاه»

                      هذا لا يزال المشهد امام كل مؤمن به على رغم فيض النور من كل جسده. ذلك انه لما أخذ على نفسه كل أوجاعنا رفع عنا التوجّع ولكن بقينا نتأمّل في آلامه لنكف عن معاصينا ونذكر ان الله اشترانا بثمن  عظيم لنخرج في غفرانه الى روحية النصر. لذلك لا نتفجّع لأنه حررنا من كل فاجعة وأقامنا معه في مجد لا ينقطع.

                      ان ايماننا هو ان الحياة الإلهية الساكنة في جسده نزلت الى مملكة الموت وأبادتها. لذلك عندما نريد ان نعبر عن القيامة لا نرسمه خارجا من القبر ولكنا نصوره نازلا الى الجحيم ومنهضا بيد آدم وبيد حواء اي جنس البشر قاطبة من حكم الموت وأتعاب الخطيئة ليجلسنا معه في السماويات.

                      لذلك استطاع صاحب سفر الرؤيا ان يقول: «رأيت سماء جديدة وارضا جديدة» اي كونا ضاهره كما تعرفونه وحقيقته ان الله يراه نورا ساطعا من المسيح. وأكمل كاتب الرؤيا: «سيمسح الله  كل دمعة من عيونهم والموت لا يكون في ما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت».

                      بالدقة اللاهوتية هذا لن يكتمل الا عند المجيء الثاني. ولكن المؤمنين التائبين يذوقون مسبقا كنه هذا. تكسرهم ضعفاتهم هنا والأهواء ويتجلون بآن بمقدار ما يحبون بعضهم بعضا وليس من حب اذا استولت عليهم الشهوة. «بهذا يعرف الجميع انكم تلاميذي ان كان لكم حب بعضكم لبعض». ليس من مضمون للمسيحية الا هذه المحبة. وهي الفصح الدائم على هذه الأرض والفصح الأبدي في آخر الأزمنة.

                      الآن نسير الى الله وفي تعمقنا الروحي منذ الآن نسير في الله لكون البشرة فينا قد انضمّت الى ناسوتية المسيح بضيائه وحبه.

                      عندنا هذا هو مركز كل شيء ومدى كل شيء والله يحب العالم بقوة هذه المصلوبية التي تجعل الدنيا كلها محتواة في قلوبنا ولكن مضاءة. نحن الذين اتكأنا في حضنه كما التلميذ الحبيب في العشاء السري يرفعنا الى صدره لنسمع تلك الكلمات التي لا يسوغ النطق بها، لنتكلم مثلما تكلم ونصبح واحدا معه بسبب من عطفه وكرمه وانحنائه على كل ثنية من ثنايا كياننا. اي نكون في حركة العبور اليه كل حين.

                      هذا هو الفصح الذي هو البدء والمنتهى والنور الذي لا يعروه مساء.

Continue reading