سمعت من عدة ناس عرب وأجانب ان المغفور له الرئيس حافظ الأسد كان رجلا صادقا وانه يبقى عند كلمته فلماذا لا نعود الى ذلك الذي في كلامه عن اهل سوريا ولبنان انهم شعب واحد في دولتين. واستغرب ان بعضا من اللبنانيين الى هذا اليوم لا يحبون هذا الموقف وأملي ان يعتبر الحكم السوري هذه القولة للمرحوم الرئيس إرثا يحافظ عليه.
المعروف ان لفظة شعب مقولة تاريخية مجتمعية وان الامة مقولة اخرى لم يستعملها هو. ولم اسمع ان الحكم السوري الحاضر استعمل لفظة الأمة. ولم يبقَ في لبنان من يقول اننا لسنا عربا بعد ان كرس دستورنا الجديد انتماءنا الى العالم العربي. واذا اعتبرنا مقولة «الأمة العربية» فهي تشمل بلدانا أخرى. ثم قال غير سياسي لبناني انه سأل السيد الأسد الأب اذا كان يرغب في صهر لبنان في دولة عربية موحّدة انه اجاب انا اضم موريتانيا قبل ان اضم لبنان. هذه جملة افهمها انه لم يكن عنده مشروع ضم لنا او لم يكن عنده مشروع قسري لإنجاز هذه الوحدة. واذا صح تشبيه انصهار طوعي بين بلدين فهذا اشبه بالزواج الذي يتطلّب موافقة طرفين.
ما وصل الينا من تصريح السيد الرئيس الراحل انه اعترف بوجود بلدين مستقلين ولا يسوغ لأحد نظريا او براغماتيا ان يتصرف كأن هذا الميراث لم ينتقل اليه. اما المناقشة حول هوية هذا الشعب فلا طائل تحته بعد ان اعترفنا جميعا اننا ننتمي الى الحضارة العربية والشعور العربي واننا مع سوريا في تداخل عميق. هذا اذا اغفلنا الكلام على الجوار والتفاعل العاطفي الذي يربط بين اهل البلدين.
وضعنا كدولتين مستقلتين لا يختلف عن وضع بلجيكا وسويسرا واللوكسمبور وإمارة موناكو. هذه البلدان المستقلة فيها كلها عنصر فرنسي ولم تطالب فرنسا بضم واحد منها اليها. كذلك في سويسرا شعب الماني وشعب ايطالي ولم تسعَ فرنسا والمانيا وايطالية الى ضم جزء من سويسرا اليها. القومية ممكن ان تكون منتشرة هنا وثمة. ولكن التاريخ هو الذي ينشئ الدول. الدولة تقوم على المواطنة اي انها كيان حقوقي فرضه التطور التاريخي.
واذا عدنا الى وضع البلدين الشقيقين ولو كانا يحتويان عنصرا عربيا واحدا ما كانا يوما دولة واحدة بالمعنى الحقوقي للكلمة. كان كل هذا الشرق بعضا من السلطنة العثمانية وعند انهيارها مرت سوريا في فترة دويلات مختلفة حتى توحدت ولكن لبنان القديم كان متصرفية تابعة مباشرة لاستانبول ولم يكن معروفا بوضوح في اتفاق سايكس بيكو (اذا اهملنا ذكر المندوب الروسي آنذاك) كيف ستقسم الأراضي التي انسلخت عن السلطنة. ولكن الحديث عند المفكرين العرب اذكر منهم نجيب عازوري وشكري غانم في باريس والدكتور خليل سعادة كان ان لبنان يجب ان يكون له تنظيم خاص او حكم ذاتي الى ان اعلنت فرنسا في اول ايلول السنة الـ١٩٢٠ ان لبنان دولة مستقلة.
# #
#
وتمثل لبنان في عصبة الأمم في جنيف واشترك في وضع شرعة الأمم المتحدة اي كان عضوا مؤسسا لهذه الهيئة. قبل ذلك عند تأسيس جامعة الدول العربية بعد ان عارض الوفد السوري مشاركة وفد لبناني عاد فقبله اي ان الدولة السورية اعترفت بدولة لبنان.
واذا ذكرنا، في تراتب القوانين، ان القانون الدولي يحكم القوانين الخاصة بالدول تكون دولة لبنان شرعية دوليا ويكون لبنان دولة قائمة بذاته. وعندما وضع مجلس الأمن ان تشكيل محكمة ذات طابع دولي مرتبط اصلا بمشاركة الهيئات اللبنانية يكون مجلس الأمن معترفا بالدولة اللبنانية استطاعت ام لم تستطع اتخاذ قرار يتعلق بهذه المحكمة.
ولكن فوق كل هذه الاعتبارات القانونية والتاريخية نرى ان الشعب اللبناني كله متفق على وجود لبنان ولو كان هناك مسائل خلافية حول الأزمة الناشئة بالبلد. كل فريق يصرح بلبنانيته. اذًا ليس عندنا اختلاف حول هوية البلد واستقلاله. ما من بلد لا يختلف حول مسائل سياسية هي بطبيعتها عابرة مهما اشتد الخلاف. الحامل على بطاقة هويته انه لبناني هو حقا كذلك.
الى هذا الاعتراف الصريح المسجّل السؤال الأعمق هو هل ابناء هذا البلد يؤمنون به حقا؟ بعد الطائف والدستور هذا السؤال غير وارد وليس عندك من تعبير شرعي عن لبنانيتك الا كونك قبلتها بقولك ان هذا البلد نهائي، الأمر الذي لا يباعد بينه وبين البلدان العربية الاخرى ولا سيما سوريا وفلسطين.
ما يبدو واضحا في حياتنا المشتركة اننا نريد ان نبقى من هذا الوطن لأنه موضوع حبنا وفخرنا. والحدود المرسومة قانونيا لا تمنع تعاطينا الواسع والمخلص مع الشعب السوري واية دولة تعترف بسيادتنا الكاملة اذ نحن موقنون اننا ننمو ونزدهر ضمن حدودنا وان لنا ما نعطيه الآخرين ببساطة وتواضع. واذا نحن نمونا بما عندنا من طاقات وأبدعنا – وليس في القول مكابرة – فكل انجاز لنا في اي مجال من مجالات الوجود خير للناس جميعا. والخيرات الأدبية والفنية والاقتصادية مشتركة بالحرية مع العرب الذين حولنا او البعيدين عنا. والمشاركة العربية لا تبطل مشاركات اخرى ضمن حريتنا.
هل نؤذي أحدا اذا احسسنا ان هذا البلد جميل وانه على صعوباته الداخلية قادر على خدمة نفسه والآخرين. والحدود المحددة لا تفرق بين وجدان ووجدان ولا تبطل العاطفة. قد نشبه بيتا صغيرا ويشبه بيت الآخرين قصرا وتحب انت ان تسكن كوخك وان يتمتع اخوك بقصره ولكنك تنام مع عيالك بمنزلك الصغير وينام اخوك الثري بقصره العظيم وتزوره ويزورك ويبقى كل منكما على كرامته.
# #
#
في سوريا عقول كبيرة ومثقفون اعرف منهم بعضا في كل مدائنهم وكلموني بحب كبير عن لبنان وعن ضرورته للعالم العربي. أضيف الى هذا ان هؤلاء المثقفين حيثما حللت في المشرق العربي والمغرب العربي حدثوني بإعجاب عن لبنان وبتميز ابنائه بثقافة واسعة. هذا لم اتقبله باستكبار ولكني اؤكّد ان هؤلاء العرب يحسبون ان لنا رسالة في العالم العربي ويظنون اننا نؤلف جسرا بينهم وبين الغرب.
واذا كان هذا كله صحيحا فما يحمينا ويحمي الجار حدود واضحة آمنة وهذا له اهميته الأخلاقية منعا للفساد الذي يوقعنا فيه المهربون من كل صوب. ونحن على حجم صغير عصمنا انفسنا دائما عن الاعتداء كما يعصمنا ترسيم الحدود عن التآمر على سوريا في مقاهي رأس بيروت اذا صحت التهمة. ليس مثل الوضوح يقرب من الفضيلة.
وسوريا دولة كبيرة على الصعيد الاقليمي ومحترمة الجانب كثيرا عند الدول الكبرى وبخاصة في الزمان الذي نعيشه فليس لنا إرادة ولا قدرة على التدخل في مصيرها. جلّ ما نرجوه وهذا بكل اخوّة الا تتدخل هي بمصيرنا فلا يملي اي طرف منا شيئا على الآخر ونعيش معها بشفافية كاملة من شأنها ان توطّد القربى. والحب يأتي بعد العدالة فإنه ثمرتها.
وفي ظل المحبة والعدل نكون ادنى الى حل المشاكل اذا ظهرت ولكن نبقى دولتين حسب الإرث الذي استلمته سوريا من المغفور له حافظ الاسد. لا نطلب من سوريا الا ما طلبه هو اليها في تعاملها معنا.
مفتاح الحل لأزمتنا نحن هو في دمشق اولا. صعوباتنا ليست صعوباتها. وحكمها صامد ونحن نبارك لها هذا الصمود. فلا شيء يمنعها ان تبادر هي الى تحديد الحدود ولم اسمع من احد قادتها انه يرفض هذا مبدئيا. ولكن ارجاء البت يؤذينا نحن. والبت لصالحنا المشترك من شأنه ان يقرّب بين الفئات المتخاصمة في لبنان. ولست ارى مانعا في المبدأ ان يتفق الأفرقاء عندنا في هذه المسألة. الخلافات التي يتكلمون عليها قائمة على نقاط اخرى. والايضاح اذا جاء من دمشق قد يساعد على انفراج الأزمة اللبنانية.
التبادل الديبلوماسي يقوي اعتراف الواحد بالآخر والإقرار بنهائية كيانه ضمن العروبة. قال المغفور له حافظ الأسد مرة – وسمعته في التلفزيون- ان فلسطين هي سوريا الجنوبية ولكنه لم يقل يوما ان لبنان هو سوريا الغربية. وفلسطين تاريخيا كانت الأردن جزءًا منها. ومع ذلك – اذا لم أخطئ – في دمشق قائمة سفارة اردنية وفي عمان سفارة سورية. هل كثير ان تعاملنا سوريا الشقيقة كما تعامل الأردن؟
# #
#
شؤون وشجون يمكن حلها اليوم بروح الصداقة في اي مكان في العالم ربما في خيمة كتلك التي جمعت الرئيس جمال عبد الناصر والرئىس فؤاد شهاب. قد لا نحتاج الى مثل هذا التعبير الرمزي ولكن ايضاح الحدود يوطد علاقات سوريا بالمجتمع الدولي الذي يكن لها ولنظامها كل الخير.
قناعتنا – وعبرنا عنها غير مرة – ان أمن سوريا من أمن لبنان والعكس صحيح. ولكني اقول اعظم من هذا. انا احلم ببلدين تخيم عليهما محبة كاملة لا يشترط فيها احدنا على الآخر شيئا كما في الزواج القائم على الوئام.
ألم يحن يوم تلاقينا وسوريا في العمق؟
Continue reading