Monthly Archives

November 2006

2006, مقالات, نشرة رعيتي

رسالة اليوم (أفسس 2: 14-22)/ الأحد 26 تشرين الثاني 2006 / العدد 48

المسيح سلامنا. هو في ذاته، في رحمته ولطفه. غير أن الرسول في هذه الرسالة الذي كان يواجه العداوة القائمة بين اليهود والأمم قال عن السيّد إنه “جعل الإثنين واحدًا” في الإيمان. فاليهودي لا يحق له أن يستعلي في الكنيسة على من كان قبلًا وثنيًا. واليوم اذا وفد الى إحدى القرى ناسٌ كانوا عنها غرباء فجاؤوها بسبب من التنقل السكاني فهم إخوة للقدماء بعد أن فهمنا ان ما يؤصّلنا ليس الأرض بل جرن المعموديّة والكأس المقدّسة.

فالمسيح “يخلق الإثنين (القديم والجديد) في نفسه إنسانًا جديدًا بإجرائه السلام”. ان هذه المصالحة بين شرائح كانت مختلفة حتى التناقض أتمها المسيح على الصليب بقتله العداوة في نفسه.

لماذا تزول العداوة؟ لأن الروح القدس يوصلكم معا الى الآب الذي هو غاية الوجود. وهنا قبل بلوغ السماء انتم معا “أهل بيت الله” لأنكم راسخون على صخرة الرسل والأنبياء، وهذا تأكيد على أننا -على رغم شك الكثيرين- نقيم العهد القديم كما نقيم العهد الجديد رسالة واحدة هدفها تبيان المسيح. والذي يربط البناء كلّه هو حجر الزاوية المسيح. صمودكم انكم ثابتون به وانكم تاليًا مستندون بعضكم على بعض.

لم يتكلّم هنا الرسول على الوحدة التي يجب أن تقوم بين المؤمن والإنسان الآخر الذي قد لا يعرف انه مسنود الى المسيح. فإن كان أحدهما حاقدًا لا يكون مسنودًا على شيء، فمن تأكّل الحقد قلبه ليس في قلبه مكان لآخر ويبقى منعزلا وبلا تعزية. فالحقد سوس يأكل القلب كلّه.

إن الذي لا مكان في قلبه للآخر ليس في قلبه مكان لله. فإذا شغرت النفس من واحد كانت تحبه إنما تشغر من حضرة الله، والذي أمسى بلا إله يجف وليس فيه فرح.

المرض في هذا اني أحقد على من مسّني ومسّ كرامتي كما يُقال في الدارج. ومن كان عنده هذا الشعور يعتبر نفسه شيئًا ويعتبر ان الآخر قادر أن يجرحه ولا يفهم انه قائم بمحبوبيّته عند الله وأنّ أحدًا لا يستطيع ان ينتزع منه هذه الكرامة التي هي وحدها الكرامة.

الى جانب الحقد الذي يتضمّن البغض هناك القلب المتوجه الى القدح بالآخرين وذمّهم أكان هذا مؤسَسًا على شيء أم غير مؤسَس. منّا مَن يرى البهاء الروحي منتشرًا عند معظم الناس، ومنّا مَن يرى القباحة منتشرة عند معظم الناس. بعضنا يستلذّ رؤية البشاعة، ومنّا مَن يفرح لجمال القلوب. الأصل في التعامل أن تنفتح عند مقابلة إنسان آخر وان تحسب انه حسن ما لم يثبت العكس. انه لشرّ كبير أن تترصّد الآخر وأن تحسب من البداءة انه عدوّك او انه سيّء لأنّ في هذا إنغلاقًا رهيبًا قد يمنعك من تقبّل الخيرات والفكر السليم من الآخر.

انفتح ولا تخشَ شيئًا إذ لا يستطيع أحدٌ أن ينتزع منك شيئًا أو يؤذيك. أنت تؤذي نفسك بسوء الظن الذي يتلوه سوء المعاملة. واعلم أنك اذا أحببت الآخر تقدر أن تشفيه.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

الخطاب وما تحت الخطاب / السبت 25 تشرين الثاني 2006

كل تصرف سياسي يقوم على طبقات مختلفة من الخطاب ليست كلها على جدية واحدة او حرارة واحدة فما تريده حقًا تخفيه وراء كلام وتتكتك من أجل الخطاب المحوري الذي تحفظ به حياتك الحقيقية. اي ان كل خطاب لباس لموقف مقول احيانًا بدقة او مقول بفتور.

أنا لا أجهل مصالح تكمن وراء خطاب سياسي محض ولكني في آن واحد لست اقول ان السياسة كذبة كبيرة. اعتقد ان هناك موروثات سياسية وربما دينية تحفظ كيان الجماعات الدينية في بلدنا ولكني افهم ايضًا ان اختلاط عناصر سياسية وغير سياسية رافق في التاريخ ظواهر كثيرة بما في ذلك التاريخ الديني أفي الكنيسة كان هذا أم في الاديان الاخرى.

هناك طبقات كلام وتجمّع مسالك. هذا يذكرني بحديث جرى بيني وبين صاحب جريدة خارق الذكاء… سألته: كيف يجب ان نقرأ الصحيفة، هل الكلام المنشور نأخذه على ظاهره ام ثمة شيء آخر؟ قال لي ما مفاده ان هناك صيغ كتابة او رموز كتابة وهناك غير قراءة الظاهر.

كثيرًا ما رأيت نفسي ساذجًا في قراءة السياسة الفعلية لاني لا أفهم الاّ النص الظاهر ويبدو ان هذا غاية في البساطة. والبساطة كلمة اخرى لتقول الشفافية او لتقول العراء، ولا سيما اذا كنت تحاول ان تجيء من الله الى هذا العالم.

واذا تعقدت الامور ولم تبق قادرًا على التحليل فتذهب الى الدعاء اذا احسست انك كاتب تنزل من الحياة الروحية الى دروب التاريخ المضني الذي يعيشه شعبك واذا كنت تخشى ان يحل الشر في شعبك. والشر هو الدم اولاً والدم هو الانقسام والهروب من العيش الواحد. ولست مطمئنًا الى شيء. وهذه الاسطر كتبت اول هذا الاسبوع لان تقنيات الطباعة تقضي بذلك وقد تجري حوادث كثيرة بين ليلة كتابتي ويوم صدور هذا المقال.

ما وددت قوله “إن سلام شعبنا أهم من كل موقف سياسي واهم من كل ايديولوجية. ان يحكم غيرك أو ان تحكم أنت خلاف لا قيمة له اذا قورن باطعام اولادك وتدريسهم وتطبيبهم. أظن اننا لم نفهم بعد في لبنان ان الحياة اهم من الفلسفة حول الحياة وان العمل السياسي هو قبل كل شيء ان يحفظ انفسنا من الموت والى ما يقود اليه. انا ليس عندي مشكلة، ان تسيطر هذه الشريحة او تلك. امنيتي ان يسودنا المتنورون كما حلم بذلك افلاطون والفارابي حتى يأتي الحكم خدمة.

اذا اهتممت بالعيش حقًا، بالخبز والدواء والمدرسة وما اليها، يقيني ان حجم السياسة يتقلص. واذا سودت العيش الوافر على كل أمر آخر يتحول البلد ورشات عمل وتغدو السياسة وسيلة لقيام هذه الورشات.

ارفعوا القهر عن هذا البلد. ما عندنا هو قهر القبائل التي لا تحس انها جزء من الوطن، اظن ان كل فريق يرى نفسه مؤهلاً لانشاء دولة عادلة، طاهرة ومقاومة. اي ان ثمة بعضًا من سوء الظن في الآخر. المشكلة في هذا البلد ان الحذق فيه كبير وان الطهارة ليست في خدمته. الانسان يطلب الثقة. امنحه اياها تحسن معاملته. من يعيد الينا الثقة؟ لا بد من محاولات جديدة لاقناع كل فريق ان الفريق الآخر لا يمارس الزبائنية او التبعية لقوم في الخارج. ان المسألة هي في هذا ان تبين انك لا تلعب لعبة الآخرين ولكن هذا قد يقتضي بعض الوقت، والسؤال الاكبر هو ماذا يجعلك تلعب لعبة لبنان اي لعبة المواطنة التي ليس لك منها منفعة مال او سلطة او مجد.

لا يهمني ان نكون واحدًا في الحكم اذا لم نكن واحدًا في الحياة. كل حكم في هذه الدنيا الى زوال. اما بقاؤنا معًا بلا ايديولوجية وبخاصة بلا تخويف ولا احتمال سفك للدماء فهذا ما نسترضي الله به. ان سيادة الطوائف معًا ليست سيادة لاحد وذلك في مسيرتنا الى تجاوز الطائفية الى حكم مدني. ولكن اذا سادت طائفة واحدة فلا يمكنها ان تسود بسياسة حكم مدني. هي لا تسود بايمانها لأن الايمان مع القوة يستحيل الى سياسة اي الى انشقاق. اية سيادة لأية طائفة قهر. هذه سيادة بشر وتاليًا مختلطة بشهواتهم.

وسيادة فريق تعني في آخر المطاف نكران المواهب عند الآخرين وتاليًا التفريق الديني الذي هو تعبير اضطهاد. والذي هو فوق السياسة لا يتنازل الى من هو دونه فهناك حروب بلا سلاح. فالاقوى صامت والصامت لا يشارك حتى يقلب المعادلة ويصبح اكثريًا. وهذه هي لعبة الديموقراطية التي فيها أسواء كثيرة ولكن في لعبتها العملية تحافظ على امنك وسلامتك وحرية كلامك حتى تختل الموازين ويتكلم الصامتون.

كل قوة قاهرة. لكن الديموقراطيات الراقية تجعلك تتكلم ولا تجعلك تنتصر بالقوة بالسلاح ولكنك تنتصر بالقناعة ونشر القناعة اي بالعدد. وعلى رغم هذا الرقي ففي مرحلة من مراحله النضالي هناك دائمًا قهار. لذلك حلم افلاطون في الجمهورية ان يحكم البلد فلاسفة لأنهم في المبدأ أهل الحقيقة وأهل خير ولا يكرهون.

دائمًا كان يهزأ بي بعض السياسيين الكبار في الغرب لما كانت ظروف حياتي تسمح لي بالتكلم اليهم وأسألهم اذا كانت الطهارة ممكن جمعها الى السياسة. المشكلة ان السياسة ميزان كالقضاء لكن القضاء ليس فيه مصالح ان ابعدنا عنه الرشوة.

عند اليونانيين القدماء كل الاشياء بما فيها السياسة تستقيم بالعدل فاذا أخل بكفة من كفتي الميزان لا يكون عندهم إذًا موافقا لنظام الكون ومن نظام الكون يأتي الفكر الصالح وكأن المبتغى ان يقتنع القوم بنسبية السياسة ونسبية اي تدبير من تدابير الحكم.

هذا لا يعني ان ادارة الدولة ليس فيها ايمان بأي طور من اطوار التاريخ. ففي الحقبة التي نعيش فيها لا بد من اعلان ان اسرائيل هي العدو واننا متحفظون جدًا عمن يناصرها. هذا يعني ايضًا اننا نشك كثيرًا في مشروع الشرق الاوسط الكبير لأن قلبه اسرائيل. وبالقوة نفسها نرفض الشرق الاوسط الاسلامي لأن المسيحيين في العمق مرفوضون فيه ولو استرضوهم ببعض الوظائف اي انك لا تستطيع اذا كنت سوريا ان تحتويك اية عمارة اقليمية او عالمية.

“تعالوا الى كلمة سواء” في الحقل السياسي تعني ان نرفض معًا ما يفرقنا وألا نقبل بأي محور. هذه كانت سياستنا منذ رفضنا حلف بغداد ومنذ البيان الوزاري لحكومة رياض الصلح العروبي الصميم الذي أبى ان ندور حول اي بلد قريب او بعيد. هناك فرق بين ان تصادق وبين ان تترنّح بمعاشرة هذه او تلك من الدول.

شعوري اننا في حاجة اليوم الى مبرات الاطهار والى ادعيتهم لنمنع عنا الويلات ونأكل لقمة عيش مع اطفالنا بهناء وان يأتينا نشاطنا السياسي اقرب ما يكون الى عقلانية هادئة رافضة للانغلاق حتى تدلنا قلوبنا المطهرة على حل مشاكل هذه الدنيا فنجعلها، اذ ذاك، على ضعفنا فردوسًا. أيها اللبنانيون، لا تضيّعوا فرصة فردوسيتكم على الارض.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

خيبات/ الأحد 19 تشرين الثاني 2006 / العدد 47

ليس من صورة شاملة ممكنة عن نفسية الناس في هذه الأبرشية. فالقرى مختلفة العقليات. فبعضها هادئ وبعضها أقل هدوءا وأعظم انقسامًا. وما خطونا في كل مكان خطوات عظيمة في المحبة. هذا يؤذي كثيرا ويعطل العمل أو يؤخره. أجل «لا بد من الانشقاقات» ولو سلمت النيات ولطفت القلوب فإن العقول مختلفة ولكن بعضًا يقولون شيئا مخالفا لأن خصما لهم تقدم بمشروع ومشروع حسن ويرفضونه بلا درس ولا تأمل.

هذا يقول نبني كنيسة هنا، وذلك يقول بل نبنيها هناك دون أن تكون هناك حجج. وقد يكون لك مصلحة (تحسين سعر أملاكك مثلا أو استرضاء نسيب لك) في الموقف الذي قد تتخذه، وقد ترفض قرار مجلس الرعية لأنك لم تؤخذ فيه وكلكم أعلم مني بالأسباب. المشهد الذي نراه أن الناس متفرقون لا لسبب رعائي أو هندسي ولكنهم يرفضون مشروعا لرفضهم أصحابه. هل في قرية كهذه جماعة يمكن أن نسمّيها كنيسة؟ هل هؤلاء معا هم جسد المسيح؟ هل يتواضع الإنسان ويغيّر رأيه إذا رأى أن الحق ليس معه؟ هل نحب الوحدة أم نحب خياراتنا الخاصة والقبيلة التي ننتمي إليها؟

كيف تأخذ جسد المسيح ودمه وآخر يتناولهما ولا يحب أحدكما الآخر. كيف تريان أن المسيح قادر أن يُدخل اللين إلى قلبيِكما والسلاسة واللطف وهذه كلها تسهل التفاهم. وإذا تفارقتما في الرأي وهذا مشروع، فلماذا لا تُدخلان ثالثا ليزيدكما شرحا تتفقان بعده، فمَن تنازل لا يتنازل لرفيقه ولكن للحق، وبلا الحق ما نفع أي منا؟

أنت شيء بسبب الحق الذي فيك أو بسبب الرحمة التي نزلت عليك، ولست بشيء فقط بذكائك أو بانتمائك إلى عائلة كبيرة أو صغيرة. فإذا اختلف اثنان أحدهما مع الآخر يذهبان إلى الكنيسة أي إلى الجماعة المُحِبة العاقلة التي توحد بين الناس. لا بد من حكماء في كل مكان وليس من إمكانية لجمع مئات من الناس تستشيرهم وإذ ذاك تدب الفوضى. أكيد أن الشورى أساسية، ولكن بعد هذا ينبغي أن يفصل أحد بينكم في الفكرة. وفي عقيدتنا ان رئيس الكهنة هو الذي يفصل. هذا مكتوب في العهد الجديد وعند كل آبائنا.

بعض من الرعايا تجعلني أشعر أنها تريد المطران لمأتم أو إكليل ولا تريده لرأي. وعندنا نحن انه يبتّ بشأنها نهائيا في كل الأمور. في الدنيا، خارج الكنيسة هكذا تفصل الأمور. الدستور يحدد من يتخذ القرار الأخير. بعض الأرثوذكس لا يعرفون من يتخذ القرار الأخير متمسكين بهذا الكلام الشعبي القائل أن أجدادهم وقفوا الوقف. هذا صحيح ولم يورثوا أحفادهم مسؤولية القرار بل تركوا القرار للكنيسة جمعاء. المؤمنون لهم المشورة لأن لهم عقولا وعندهم محبة، ولكن أحدا يجب أن يقول القول الأخير وهو مستقل عن الضيعة وعقلية الضيعة ولن يكون فيها رئيس بلدية ولا نائبا ولا وزيرا. رعيتك لن تكون جزءا من الأبرشية إن لم تنسجم مع راعيها. والأبرشية تخضع للقوانين لتكون من الكنيسة الجامعة.

كيف لا يبقى المؤمنون خرافا مشتتة يرعاها راعي نفوسنا العظيم؟ هذا ليس ممكنا عند ناس لم يدخلوا الكنيسة إلا يوم معموديتهم ويوم زواجهم. هذا ليس ممكنا عند من لا يعرف أن المطران أبوه وليس عنده سبب ليتحيز. ويضاف إلى هذا أننا ندرس الأشياء مع ناس مختارين عندهم عقل راشد وأخلاق حميدة ولهم اختصاصات في الحقوق أو الهندسة. ولا شيء يُبَتّ في المطرانية بلا تشاور. في المطرانية نقلل من إمكانات الغلط. ونرجو أن تتخذ القرارات بخوف الله وبلا انفعال وبلا تحزب ولا رغبة في استرضاء أحد بل التماسا لوجه الله المحب البشر. قللوا من خيباتي ما أمكنكم يرضَ الرب عنكم.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

بدّدَ، أعطى المساكين/ الأحد 12 تشرين الثاني 2006 / العدد 46

اخترنا هذا الفصل من الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس وهو متعلّق بالإحسان لكوننا نعيّد لمحسن مذهل في إحسانه ألا وهو القديس يوحنا الرحيم بطريرك الإسكندرية المتوفى السنة الـ619. تقول الرسالة عن المحسن: انه بدّد أعطى المساكين فبرّه يدوم إلى الأبد، وتقول: إنّ الله يرزق الزارع زرعًا، وعند وصول هذا الرزق إليكم تعطُون بسخاء.

أعلن يوحنا الرحيم أن الفقراء سادتنا «لأنهم وحدهم القادرون على مساعدتنا وهم الذين يمنحوننا ملكوت السموات». كان يثق بأن الله يعطيه حتى يعطي بدوره، ويذكر دائمًا قول السيّد: «كل من سألك فأعطه» وأقوالاً مماثلة. لم يكن يفرّق بين مستحق وغير مستحق. قصص عديدة تدل على سخاء له غير محدود. أما هو فقد بقي فقيرًا. وإذا مدحه أحدٌ على العطاء كان يقول: «ولكنني لم أهرق دمي عنك».

كان يحسن خارج نطاق بطريركيته. ثم بنى مأوى للذين لا مأوى لهم وفتح مستشفيات وسعى إلى ضبـط المقايـيـس والأوزان وأوصى الإكليـروس الميـسور ان يهـتم بالإكليروس الفقير. طبعا المؤمنون الأغنياء كانوا يعطونه لأنه لم يأخذ شيئًا لنفسه واعتبر العطاء تعبيرًا عن الحب. لن أذكر صفاته الروحيّة الأخرى وأكتفي بتبيانه نموذجا للكرَم.

الفقير على ما قاله يوحنا الرحيم عيّنه الله سيّدًا عليك، فالميسور المؤمن لا يفتخر والفقير المؤمن يشكر الله. وهكذا تتم مشاركتهما في المسيح. ان ابن الله يعطينا جسده ودمه في كل ذبيحة، وأنت تعطي ما هو أقل بكثير. وقد لا تستطيع الا إعطاء القليل ولكن قلبك هو المعطي وبذلك هو يتبرّر، وكلّما استغنيت عن شيء تصبح غنيًا به وبأدعية المحتاجين.

هنا أود أن أشكر لبعض الرعايا ما أمدّت به هذه المطرانية تلبية لندائي، وأتمنّى لو أعطتنا كل الرعايا مما عندها اذ تكون قد أسهمت في حاجات الكهنة والإخوة الفقراء وهم يقرعون بابنا كل يوم لأغراض شتى ولا نستطيع ان نردّهم إذ يغضب الرب لو رددناهم. لا حاجة إلى تكديس أموال الفقراء في المصارف. «لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض». بدّدوا أموالكم يُعِدْها اللهُ إليكم في وقت موافق. بعضكم إذا توافر عنده مال يسعى إلى بناء الحجر. هذا ضروري ولكن ينبغي ان نفهم أن البشر أفضل من الحجر. ففيما أنتم تقيمون أبنية يبقى عندكم محتاجون إلى طعام وإيواء واستشفاء وتعليم أولادهم. اعرفوا من هو عندكم في حاجة ومدّوا لهم يد العون ولا ترسلوهم إلينا. عطاؤكم يجب أن يُبذل على الصعيد المحلّي لأننا غير قادرين أن نسدّ حاجة كل واحد.

يقول بعضكم: أوقاف هذه الرعية هي لها. ولكن تذكّروا غاية الوقف. إنه للكهنة وللفقراء. وأنا أعرف ان بعض الرعايا ميسورة. هذه ليس واجبها أن تكدّس الأموال ولكن ان تبذلها عملا بقول الرسول الإلهي بولس: «بدّد أعطى المساكين فيدوم برّه إلى الأبد». واذكروا أيضا انكم وكلاء على أموال الله. إنكم تحافظون عليها، ولكن لا تحفظوها في صناديق المصارف. ضعوها في أيدي الإخوة المحتاجين الذين مات المسيح من أجلهم. لا تَدَعوهم يتذمّرون من الوكلاء على الأوقاف فهذا مالهم، ولهم حق فيه. انكم فقط مؤتمنون على ما رزقه الله للكنيسة جمعـاء، وفي الكـنيسة الـمال مـشترك ويُـبذل لـمن كان في حاجة إليه.

فقد قال الله على لسان بولس: «إن الله يرزق الزارع زرعًا وعند وصول هذا الرزق إليكم تعطُون بكل سخاء، وتهللوا إذا أعطيتم والله قادر أن يزيدكم كل نعمة». وفي بدء رسالته التي تُقرأ اليوم قال: «من يزرع شحيحًا فشحيحًا أيضًا يحصد، ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضًا يحصد».

ومعنى ذلك واضح وهو انكم إذا أعطيتم يبارككم ربّكم تبريكًا كثيرًا. أعطوا تُعطَوا. ما هو التعبير الصادق عن محبتكم سوى المال الذي تبذلون؟ ليس من برهان حقيقي عن المحبة الا بالبذل. المسعى المطلوب هو ان تجعلوا المحتاج يشعر بأنكم إخوته وانتم تعطونه مالاً هو له أي له حق فيه. وبذلك تكونون مستحقين للوكالة التي أوكلت إليكم.

ولكون المطرانية تفتقد أبناءها جميعًا فانهضوا بها على هذا الصعيد لئلا يقول المحتاج إنها بلا قلب. كونوا قلوبا حساسة وأيدي مفتوحة ليزكّيكم ربكم بالعطاء السخيّ فتستحقّوا ملكوت السموات.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

مجتمع بلا دماء / السبت 11 تشرين الثاني 2006

من يحمل وزر قطرة دم فالدم سياسي في لبنان؟ غير أن الجديد في البلد ان ليس عندك اصطفاف اسلامي أزاء اصطفاف مسيحي. الأمر الذي يجعلنا للمرة الأولى لاعبين في ساحات دوليّة متنافرة أو لاعبين لها. واللاعبون على ايديولوجيا تحدهم أو تحددهم أو بلا ايديولوجيا لكن أحدًا ليس في فراغ. فقد اختار كل منا فريق لعب ولو لم يدخل اللعبة لكنه صفق لها. اللبناني لا يتفرج على شيء ولو مست قواه ويحسب انه يستطيع ان يحيا بقوى مستعارة، داعمة فيه أو به مصالحها وهو دائما يتصور لنفسه حجمًا ضخمًا ولو كان في ذلك حالمًا.

ما نتمنى جميعًا ان يفهمه اللبنانيون ان ثمة دائمًا دولاً متسلطة تقف وراء اية كتلة قديمة أو جديدة تتشكل ولكن يحسب ان يفعل ذلك خدمة للبنان، الأمر الذي يجعلك في حلف موضوعي مع هذه الدولة أو تلك. منذ أيام قليلة زارني صديق فرنسي عرفته هنا منذ عقود. سألته عن فرنسا فقال انها ليست مستقلة كل الاستقلال عن الاتحاد الاوروبي ولا عن أميركا. قلت في نفسي: من باب أولى ألا نكون مستقلين عن دولة فاعلة تدعمنا وتحفظ سيادتنا. ولكن هذا شيء يختلف عن الزبائنيّة اللبنانيّة التي لا تفتش عن دولة ذات نفوذ ترعانا جميعًا لنتمكن من ان نختلف في ما بيننا وينصرها هذا على الدولة التي ترعى مواطنين لنا من كتلة أخرى.

المصيبة ليست في تحالف دولتنا ودول أخرى ذات وزن حضاري والمشاعر العربيّة تبقى اياها لكن المصيبة ان ننقسم بعضنا على بعض أو نلتمس دعمًا خارجيًا لنوطّد الانقسامات الداخليّة.

أظن اننا نستطيع سعيًا الى وحدتنا ان ننتقل الى معرفتنا وطنًا واحدًا. لنا ان نتخذ قرارًا جديدًا لم يسبق له مثيل واضح في تاريخنا الحديث اللاحق لعصر الإمارة. الغريب ان الإمارة كانت وحدها نظامًا علمانيًا في تاريخ الجبل وان الدول الحامية للبنان عند نشوء المتصرفية جعلت البلد ينتظم في الطائفيّة التي قام عليها مجلس الإدارة ومع تجميلات قليلة فقدنا ما كان يصبو اليه الأمراء أي نشوء بلد واحد ليست له هيكلية طائفيّة هذا ما وجب استعادته.

#  #

#

ان تنوعنا السياسي –ولم يبقَ تنوعًا طائفيًا اليوم– يؤهّلنا لأن نفتح نوافذ على كل العالم. ونغلق هذه النافذة أو تلك بتغيير الأزمان. المعيار –في المستوى الأدنى– معرفة قدرة من نحالف وصدقه ومعرفة احترامه لاستقلالنا الذي يبقى نسبيًا الى الأبد لأننا لسنا في مصالح الشعوب الكبرى أو الوسطى بلدًا تافهًا أو بلا نفع استراتيجي لأحد. مشكلتنا مثل عظمتنا. مشكلتنا اننا طريق ومنها تأتي عظمتنا اننا كنا خلال ألوف من السنين بودقة حضارات وكنا على بهاء كبير في حقبات من التاريخ كثيرة. من ذلك كان هذا البلد أوسع بكثير من حجمه ولم يظهر من يوحّده.

ليس من سوء في الاختلاف بما في ذلك السياسة الخارجية. السوء ان نكون زبائن للأجنبي. الخروج من الزبائنيّة يعلن وحده انكشاف لبنان جديد قائم على المواهب وتنظيم اداري، عقلاني، صارم واقتناع الجميع بانهم ممثلون في المجلس التشريعي تمثيلاً فاعلاً. واصطلحنا على نظام حكم برلماني محوره اعتبار مجلس الوزراء مجتمعًا صاحب السلطة الاجرائية. وهذا كله قابل للتطوّر. وملتئمين حول ان القوة ليست قوة طائفة واحدة أو طائفتين متحالفتين أو أكثر ومقتنعين اننا قادرون على ان نختلف على كل شيء الا على العيش المشترك.

العيش المشترك عبارة ابتدعناها لنقول اننا لا ننقسم على أساس طائفي ولا نقول بفائدة هذا الانقسام.

اليوم لسنا منقسمين على هذا الاساس اذ بتنا كتلتين فقط كل واحدة منهما مختلطة الهوية الدينية، في الحقيقة انقسامنا الحالي توتر ضمن الديموقراطية لكنه مهدد بالاختلال عنها لكونها ترفض التذابح وربما لكونها قامت في بلدان ادعت في تاريخها الحديث ان سلامة الأجساد هي منطلق كل تلاق.

أظن اننا في هذا البلد نحتاج الى الاقتناع الحقيقي والصادق ان الآخر موجود وان الحياة تقابل أي تفاسير مختلفة لما يجب ان يكون أو لا يكون اذ الناس مختلفو العقول من جهة ومختلفو المصالح من جهة ومع ذلك ينبغي ان يتعايشوا بسلام.

هناك آلية دقيقة للوصول الى السلام الذي يعني احترام الحياة ولو بقي كل فريق على اقتناعه. هناك الأدب السياسي وغير السياسي وهناك مستوى التهذيب والحضارة في البلد. هناك آداب ديموقراطية في الحياة العادية بحيث تختلف بحدة ولا تشتم ولا تؤذي مصالح الغير. وهذا مقتن كثيرًا عندنا مع بعض تملق أحيانًا اذا تحدثنا في شؤون الوجود. لكنه يختل اذا تحدثنا عن الطوائف الأخرى أو المحاور السياسية الأخرى.

هذا الذي بدا متعذرا حتى الآن ينبغي ان نقتحمه وان نستدخله وعند ذاك لا يخيفك تشنّج مهما بلغ من القسوة. وهذا يتضمّن خيار اللاعنف كما انتهجه غاندي لأن سلامة الأجساد في الوطن أهم من كل نقاش سياسي.

#  #

#

الى هذه التأملات لبنان على كف عفريت. هل ينجينا العقلاء اذا عقلوا أم اننا لا نزال في حاجة الى خلاص إلهي أو الى «نصر إلهي» ينصر الله فيه عباده جميعًا بحيث يفتشون معًا عن نصر بسيط، شعبي، ربما على أنفسهم. انه لشأن عظيم جدًا لو عرف أهلنا معنى السلام. ألاّ يموت أحد ذبحًا هو خير انجاز يقدمه من بيده حفظ وحدتنا.

الألم هو المشهد الوحيد في الشرق بين بغداد والقدس. أرقام لا تطاق بين العراق وفلسطين الحبيبين. اليوم ايها الأقوياء ان سمعتم صوت الله لا تجعلونا عراق آخر. لقد قاسى لبنان منذ بدء السبعينات آلاما لا توصف. يا أيها القادرون على ألاّ يُراق دم حافظوا على أهل هذا البلد خارج نطاق الموت. لا تأخذوا مكانة الله بالسيادة على الحياة والموت. بعد ذلك كل معضلة الى حل. اذا كان هذا قراركم يرضى الله عنكم ويبارككم تبريكاّ كثيرًا.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

مَثَل الغني ولعازر/ الأحد 5 تشرين الثاني 2006 / العدد 45

تعلمون أنّ ما يُسمّى المَثَل في الانجيل قصة تعليميّة ألّفها يسوع لينقل تعليمه بالصورة، بالحكاية فيفهم من يحب أن يفهم ويرذل تعليمه أعداؤه.

هنا عندنا قصة غني يلبس الأرجوان الذي تنتجه فينيقية والبز اي الحرير ويتنعّم ككل الأغنياء كل يوم تنعما فاخرًا. فالمال هو للّذة والسلطة على الناس والمجد الباطل. مقابل هذا الغني فقير اسمه لعازر وهو مختصر إليعازر، والكلمة في العبريّة تعني الله أزري او عوني. اسمٌ أطلقه يسوع على هذا الفقير الذي جعل الرب عونا له. وهذا المتسوّل كان مطروحًا عند باب الغني، ولكن هذا لم يشأ ان يراه.

في بلادنا كنت أسمع بعض أصحاب البيوت اذا قرع محتاج باب بيتهم يقولون:”الله يبعت لك” وهي عبارة مهذّبة تعني: لست أريد ان اعطيك شيئًا. لفظة الله هنا مستعارة للدلالة على البخل.

“مات المسكين” فنقلته الملائكة الى أحضان ابراهيم. “ومات الغني أىضًا فدُفن”.. لفظة ملائكة هنا تدل على أن الرب استقبل هذا الفقير في الفردوس وكانوا يدلّون على هذا بعبارة “احضان ابراهيم” الذي يقول الكتاب انه اوّل من آمن بالإله الواحد. الله يعنى بالفقراء وبخلاصهم. واما عن الغني فلم يقل لوقا ان الملائكة نقلته الى أحضان ابراهيم، ولكن قيل فقط انه دُفن.

المعروف أن المثل لا يؤخذ بجزئىاته، بتفاصيله. يصور يسوع هول الخطيئة وفظاعتها فيقول عن الغني انه معذّب في اللهيب ويقول انه في الجحيم. هذا الكلام لا يتضمّن تعليمًا لاهوتيًّا عن وضع النفوس بعد الموت. فالكنيسة الارثوذكسيّة لا تعلّم أنّ النفس تذهب الى النار بعد الموت او الى السعادة الكاملة. هذا ما سوف يكون بعد القيامة. وليس في الإنجيل تعليم كامل الوضوح عن حالة الأرواح بعد الموت، ونكتفي بالقول إن من عانى من خطايا قاسية، رهيبة فصلته عن الرب ينتظر الديان العادل الذي يدينه بعد القيامة، وانتظار الدينونة فيه شيء من العذاب. كذلك من انتظر فرح القيامة لكون نفسه غير مثقلة بالخطايا الجسيمة فهو على شيء من السعادة. ولكن لا نقول شيئًا أكثر من هذا.

المثل كله -على كثرة الكلام- عن حالة نفوس الأشرار ونفوس الأبرار ليست غايته كشف تعليم لاهوتي عن هذا الموضوع. انه بالدرجة الأولى يحتوي تعليمًا عن الرحمة وعن صعوبة الخلاص للذين يتنعّمون بهذه الدنيا وعن ان المساكين الذين رجوا الله في هذا العالم على شقائهم إنما الله يحبّهم ويحتضنهم في الدهر الآتي لأنهم كانوا دائما في حضنه. ما كان هنا يبقى هناك. أأنت مع المسيح في هذه الدنيا، تنتقل اليه في الدنيا الأخرى. أأنت عدوه هنا، تبقى عدوه هناك لأن نفسك هي اياها. ولا يحوّلك الموت من إنسان شرير الى إنسان صالح.

الدعوة في هذا المثل هي التنبّه الى ما في ملذات الدنيا من أخطار والى أن نجد لذّتنا في المسيح. المنبهر بالمال والسلطة والجسد الآخر وما يحيط بهذا الجسد من أزياء وافتخار على الآخرين والتباهي بالجمال والوسامة، كذلك المنبهر بذكائه وعلمه والمنتفخ بفهمه، هذا وذاك قد استغنيـا عن المسـيح. ومـَن أهـمله ربـّه هنا يبقى مهملا اياه هناك. واذا لم تعرف مسيحك هنا تظهر أمامه بعد الموت قبيحا. ليس هو الذي يبعدك عن نفسه. انت تكون نفيت نفسك عن وجهه وليس لك في ذلك عذر لأن المفروض انك سمعت الكلمة التي نزلت عليك بالإنجيل ولمستها بعباداتنا ولكن لم تصغِ الى الإنجيل ولا الى صلواتنا فكنت في الصحراء ومصحرا وليس لك موضع لترث الله.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

إلهامات في ايطاليا / السبت 4 تشرين الثاني 2006

هل لوجه الله مطارح يتجلى فيها بامتياز؟ لاعتقاد بعض بهذا انتهينا، كتلة صغرى، الى دير Bose في مكان قصي من الشمال الغربي لايطاليا حيث ما يقارب سبعين راهبا وراهبة يطلبون ربهم بصورة فريدة. ومن الفرادة ان هذه الجماعة الكاثوليكية تتقبل مسيحيين آخرين في عضويتها. أردنا هذه الجماعة لنصلي معها على القلة التي عندنا من اللغة. ذلك ان المزامير التي يكثرون من تلاوتها وفصول الكتاب كنا نفهمها بناء على العربية.

لقد الفوا عباداتهم وانتقوا لها ما انتقوا والمصادر واحدة ووجد أسقف فهيم أباح لهم الحرية. الترتيل واحد حينا او على نظام التناوب وموحد الصوت يرتدون ثوبا رهبانيا في الصلاة فقط وخارج البيعة ثياب مدنية بسيطة لا افتعال فيها للتشبه بالفقراء وفي العبادة لا تقليد للأباطرة وبعامة ليس من التماس للزينة. هناك فقط المصلوب الفلورنتيني المعروف وأيقونة بيزنطية واحدة تتغير حسب الموسم الطقوسي.

اذا أكلت لا تجوع ولا تتخم. تتناول خمرا طيبة كما في كل أديرة العالم. هذا طعام النصارى كما كانوا يقولون في بغداد في العصر العباسي والاخوة يغتذون بخاصة مما تنتجه أرضهم ويصنعون الكثير مما يحتاجون اليه. ذلك ان الاثاث الخشبي مصنوع بجمال يبلغ حد الاناقة أحيانا. هناك تجتنب الغنى المبتذل واصطناع الحاجة المثقلة ولا تسلك مسلك الرهبانية المتقشفة حتى الشراسة لان نسك العقل والقلب أنجع من نسكيات الجسد وأعمق والقاعدة في الرهبانية كانت الاعتدال على مدى الأزمان.

قرأت قانون أو دستور Bose ويتضمن ما نعرفه عن الفقر والبتولية والطاعة. وعلى هامش النص مصادر هذا القانون في الكتاب المقدس. في المضمون العميق كل هذا من التراث ولكنه مسكوب في قالب عصري. هناك مرحلة ابتداء من ثلاثة اشهر او مرحلة مريدية كما يقول المتصوفة ليترك الشاب او يبقى واذا بقي له مرحلة النذور. أظن ان النص الذي قرأته يدخل القلب دخولا سلسا ويجعلك تحس ان الرهبانية –إن عُرفت– هي من الانجيل او من شدته وأقصى متطلباته وتفهم ان الانجيل لين وان نير الرب حمله خفيف ان أنت أحببت وطلبت النور.

لعل الجديد في ما رأيت ورأى صحبي انك مع جماعة لا تتفرد باستقبال عضوية الكاثوليك ولكنها تتسع الى معايشة مسيحيين آخرين فهناك الى جانب انجيليين او ثلاثة اسقف أرثوذكسي يلازم الدير ستة اشهر في السنة ويشترك في الصلاة وهو شديد التمسك بعقيدته ولكنه يرى نفسه معزى. هناك لا تسمع نقاشا مذهبيا ولا تلمس أي احتدام بين الاخوة وتتعلم السماحة وان تزيل سوء الظن وان تلوم في موضع اللوم وان تغفر دائما ولا تستعلي فقد سألت مرة عالما كبيرا بينهم عما يعمل غدا فقال لي: غدا سأكون في المطبخ طوال النهار.

#  #

#

الدير مكان خلوة للذين يحبون ان يتوبوا وان يتجددوا بكلمة الله. لذلك يعقد الرهبان حلقات دراسة للكتاب مرة في الاسبوع لمن جاء اليهم والكثيرون يأتون فقط في الآحاد للمشاركة في القداس واذا استمعوا فيه الى العظة واقتبلوا الكأس المقدسة يعيشون ساعات من الدفء في ما بينهم ويذوقون الله وما أخذوه من قدوة حسنة وتتبارك بيوتهم بعد ذلك بما يصير فيها من حب.

فالدير اذا كان مقرا للبهاء الالهي انما يصبح لهذا البهاء ممرا الى قلوب المعذبين في الارض. هنا تفهم ان الذين يسنّون القوانين ويؤسسون الدول انما يفعلون قليلا لأن حيلة الناس ان يخالفوا القانون والدولة تزول ككل شيء أرضي او تتدمر مع انه لا غنى عن المؤسسات تقيمها والقوانين تسنها والدول تحميها ولكن ذلك زائل ولا بد أن تعمل في الزائل وعبقرية السياسي ان يعرف ذلك ويستمر في البنيان ويزدهر به في آن. لكن الدولة لا تجعل القلب نيرا او مستمرا. ولا يقودنا اهتراء الاشياء الى ان نذهب الى الصحراء او أن نهمل عائلاتنا ولكنه يعني ان نجدد أنفسنا بالروح وأن نفهم ان النور كان دائما في كتل صغيرة تحتضنه وهو يرعاها. تلك هي المأساة ان المؤمن نور العالم والناس أحبوا الظلمة على النور لأن أعمالهم كانت شريرة وان أنت أوجدت سجونا للمعاصي فلا تستطيع ان تسجن كل الناس عن كل خطيئة وتستمر الخطايا في السجن او تولد فيه. الدير كهذا الذي كنا فيه يقول اننا قائمون على الرجاء وان النور سوف ينبلج كاملاً في اليوم الذي يعيّنه لك في حكمته وإنّا الآن نرى أضواء تزيل بعض العتمات فإن «النور في الظلمة يضيء» ربما لا نستطيع ان نعمل شيئًا الا ان نكون جماعات نورانية خطاياها قليلة وبرها كثير. ان ملكوت الله عند القلة أو هو مؤلّف من القلّة وبعد هذا طوائف فيها حنطة وزؤان معًا لأن الطوائف جماعات ولن يستأصل منها الزؤان قبل اليوم الأخير.

ويمكن ان تعرف من في طائفتك مطفأ ومن هو وضّاء ولا سيما اذا كان التعليم ضعيفًا أو قليلاً واذا كان القليليون يسهرون على التقويم. غير ان السيد قال لمن لا نعرف بالضرورة هويته: «أنتم نور العالم» وكذلك: «أنتم ملح الأرض» هؤلاء يمكن ان يكونوا من كل الأمم ويمكن ان يأتوا من المشارق والمغارب ويطرح أبناء الملكوت خارجًا. رُبّ أخ لا يكون على عقيدتك ورُبّ من سمّي أخًا ليس بأخ. وتذهب الدنيا ويعرف الله مختاريه فتُشكل كنيسة السماء ممن نعرف وممن لا نعرف. لكن الله واضع في قلبه الذين يذهبون كل يوم الى الشهادة.

#  #

#

هذه الجماعة في دير Bose مسكونية حتى العظم اذ انها تقيم في الصيف لقاء حول روحانية الكنيسة القديمة (شرقية أو يونانية) ولقاء آخر حول روحانية الكنيسة الروسية وذلك على مستوى علمي فائق العلو. ويشترك في هذين المؤتمرين اختصاصيون من كل الكنائس. وفي احساسي ان هذا التراث الشرقي يراد به إغناء الكنيسة الكاثوليكية الغربية التي تسعى الى مناهل الشرق منذ عقود وعبّر عن هذا السعي إصدار نحو خمسمئة كتاب للآباء اليونانيين والآباء اللاتين. هذا عمل فرنسي أثّر نسبيًا في المجمع الفاتيكاني الثاني ما في ذلك ريب.

أما اللبنانيون الثمانية الذين حجّوا الى هذا المكان فاستمعوا الى محاضرة خلابة عن الكنيسة الأنطاكية ألقاها عالم بنديكتي ضليع من الفكر الشرقي فكشف الأسس ورنا الى الاتفاق واتضح انه أراد ان يرسخ الإنطاكيين (الأرثوذكس والموارنة) الذين كانوا هناك على انطاكيتهم. هذه التي تجذب الجميع اذ في انطاكية «دعي التلاميذ مسيحيين للمرة الأولى».

كذلك حاضرنا رئيس الدير في الخلاص وفي صعوبة الانسان المعاصر في فهم هذه المقولة وتكلم أسقف ارثوذكسي وعلماني ماروني في الموضوع نفسه. الأرثوذكسي في رؤية كتابية – لاهوتية والماروني من موقع التحليل الأنثروبولوجي المستنير بالايمان. فكان تلاحم بيننا وبين الرهبان وكأننا عشنا حياة عائلة واحدة.

طرحت أسئلة دقيقة عن الخلاص في المسيح وعن خلاص الأمم التي لا تدين بأزلية المسيح دون التعرّض لديانة معينة. وخلصنا الى ان الوضع النهائي للنفس البشرية هو في سر الله الراحم جميع البشر. لم يكن هاجسنا ان نبحث علاقة الأديان بعضها ببعض ولا ان نقيّمها تقييمًا ولكن كان همنا ان نغوص في علاقة الرب المباشرة بالبشر.
أعطيناهم وأعطونا. أحببنا بساطتهم المذهلة وضيافة قلوبهم وبراءة طفولتهم الروحية المستوية على رجاحة عقل. وأظن انهم اقبلوا على انفتاحنا الكبير عليهم وعلى ما بنوه في طريقهم المنور الى السيد وكأننا ترهبنا خلال إقامة خمسة أيام وكأنهم مسّوا ما كنا نحمله من مسيحية هذه البلاد.

أدركنا ان قلوبهم كانت الينا طوال الحرب العبثية الاخيرة وفهمنا ان الصلاة عنصر من عناصر السلام لأن الله سلام. عدنا الى لبنان ولم نغادر الطيّبات الروحية للمكان وكأننا غلبنا المدى بالحضور الإلهي. ان نرجو ان نبقى على مسيحية جدية وان يظل هؤلاء الاصدقاء على مجاهدتهم المباركة. هذا هو التحقيق الحقيقي للوحدة والباقي يُزاد لنا في اليوم الذي يعيّنه للكنيسة جميعًا ربّنا في غزارة رأفته.

Continue reading