كل تصرف سياسي يقوم على طبقات مختلفة من الخطاب ليست كلها على جدية واحدة او حرارة واحدة فما تريده حقًا تخفيه وراء كلام وتتكتك من أجل الخطاب المحوري الذي تحفظ به حياتك الحقيقية. اي ان كل خطاب لباس لموقف مقول احيانًا بدقة او مقول بفتور.
أنا لا أجهل مصالح تكمن وراء خطاب سياسي محض ولكني في آن واحد لست اقول ان السياسة كذبة كبيرة. اعتقد ان هناك موروثات سياسية وربما دينية تحفظ كيان الجماعات الدينية في بلدنا ولكني افهم ايضًا ان اختلاط عناصر سياسية وغير سياسية رافق في التاريخ ظواهر كثيرة بما في ذلك التاريخ الديني أفي الكنيسة كان هذا أم في الاديان الاخرى.
هناك طبقات كلام وتجمّع مسالك. هذا يذكرني بحديث جرى بيني وبين صاحب جريدة خارق الذكاء… سألته: كيف يجب ان نقرأ الصحيفة، هل الكلام المنشور نأخذه على ظاهره ام ثمة شيء آخر؟ قال لي ما مفاده ان هناك صيغ كتابة او رموز كتابة وهناك غير قراءة الظاهر.
كثيرًا ما رأيت نفسي ساذجًا في قراءة السياسة الفعلية لاني لا أفهم الاّ النص الظاهر ويبدو ان هذا غاية في البساطة. والبساطة كلمة اخرى لتقول الشفافية او لتقول العراء، ولا سيما اذا كنت تحاول ان تجيء من الله الى هذا العالم.
واذا تعقدت الامور ولم تبق قادرًا على التحليل فتذهب الى الدعاء اذا احسست انك كاتب تنزل من الحياة الروحية الى دروب التاريخ المضني الذي يعيشه شعبك واذا كنت تخشى ان يحل الشر في شعبك. والشر هو الدم اولاً والدم هو الانقسام والهروب من العيش الواحد. ولست مطمئنًا الى شيء. وهذه الاسطر كتبت اول هذا الاسبوع لان تقنيات الطباعة تقضي بذلك وقد تجري حوادث كثيرة بين ليلة كتابتي ويوم صدور هذا المقال.
ما وددت قوله “إن سلام شعبنا أهم من كل موقف سياسي واهم من كل ايديولوجية. ان يحكم غيرك أو ان تحكم أنت خلاف لا قيمة له اذا قورن باطعام اولادك وتدريسهم وتطبيبهم. أظن اننا لم نفهم بعد في لبنان ان الحياة اهم من الفلسفة حول الحياة وان العمل السياسي هو قبل كل شيء ان يحفظ انفسنا من الموت والى ما يقود اليه. انا ليس عندي مشكلة، ان تسيطر هذه الشريحة او تلك. امنيتي ان يسودنا المتنورون كما حلم بذلك افلاطون والفارابي حتى يأتي الحكم خدمة.
اذا اهتممت بالعيش حقًا، بالخبز والدواء والمدرسة وما اليها، يقيني ان حجم السياسة يتقلص. واذا سودت العيش الوافر على كل أمر آخر يتحول البلد ورشات عمل وتغدو السياسة وسيلة لقيام هذه الورشات.
ارفعوا القهر عن هذا البلد. ما عندنا هو قهر القبائل التي لا تحس انها جزء من الوطن، اظن ان كل فريق يرى نفسه مؤهلاً لانشاء دولة عادلة، طاهرة ومقاومة. اي ان ثمة بعضًا من سوء الظن في الآخر. المشكلة في هذا البلد ان الحذق فيه كبير وان الطهارة ليست في خدمته. الانسان يطلب الثقة. امنحه اياها تحسن معاملته. من يعيد الينا الثقة؟ لا بد من محاولات جديدة لاقناع كل فريق ان الفريق الآخر لا يمارس الزبائنية او التبعية لقوم في الخارج. ان المسألة هي في هذا ان تبين انك لا تلعب لعبة الآخرين ولكن هذا قد يقتضي بعض الوقت، والسؤال الاكبر هو ماذا يجعلك تلعب لعبة لبنان اي لعبة المواطنة التي ليس لك منها منفعة مال او سلطة او مجد.
لا يهمني ان نكون واحدًا في الحكم اذا لم نكن واحدًا في الحياة. كل حكم في هذه الدنيا الى زوال. اما بقاؤنا معًا بلا ايديولوجية وبخاصة بلا تخويف ولا احتمال سفك للدماء فهذا ما نسترضي الله به. ان سيادة الطوائف معًا ليست سيادة لاحد وذلك في مسيرتنا الى تجاوز الطائفية الى حكم مدني. ولكن اذا سادت طائفة واحدة فلا يمكنها ان تسود بسياسة حكم مدني. هي لا تسود بايمانها لأن الايمان مع القوة يستحيل الى سياسة اي الى انشقاق. اية سيادة لأية طائفة قهر. هذه سيادة بشر وتاليًا مختلطة بشهواتهم.
وسيادة فريق تعني في آخر المطاف نكران المواهب عند الآخرين وتاليًا التفريق الديني الذي هو تعبير اضطهاد. والذي هو فوق السياسة لا يتنازل الى من هو دونه فهناك حروب بلا سلاح. فالاقوى صامت والصامت لا يشارك حتى يقلب المعادلة ويصبح اكثريًا. وهذه هي لعبة الديموقراطية التي فيها أسواء كثيرة ولكن في لعبتها العملية تحافظ على امنك وسلامتك وحرية كلامك حتى تختل الموازين ويتكلم الصامتون.
كل قوة قاهرة. لكن الديموقراطيات الراقية تجعلك تتكلم ولا تجعلك تنتصر بالقوة بالسلاح ولكنك تنتصر بالقناعة ونشر القناعة اي بالعدد. وعلى رغم هذا الرقي ففي مرحلة من مراحله النضالي هناك دائمًا قهار. لذلك حلم افلاطون في الجمهورية ان يحكم البلد فلاسفة لأنهم في المبدأ أهل الحقيقة وأهل خير ولا يكرهون.
دائمًا كان يهزأ بي بعض السياسيين الكبار في الغرب لما كانت ظروف حياتي تسمح لي بالتكلم اليهم وأسألهم اذا كانت الطهارة ممكن جمعها الى السياسة. المشكلة ان السياسة ميزان كالقضاء لكن القضاء ليس فيه مصالح ان ابعدنا عنه الرشوة.
عند اليونانيين القدماء كل الاشياء بما فيها السياسة تستقيم بالعدل فاذا أخل بكفة من كفتي الميزان لا يكون عندهم إذًا موافقا لنظام الكون ومن نظام الكون يأتي الفكر الصالح وكأن المبتغى ان يقتنع القوم بنسبية السياسة ونسبية اي تدبير من تدابير الحكم.
هذا لا يعني ان ادارة الدولة ليس فيها ايمان بأي طور من اطوار التاريخ. ففي الحقبة التي نعيش فيها لا بد من اعلان ان اسرائيل هي العدو واننا متحفظون جدًا عمن يناصرها. هذا يعني ايضًا اننا نشك كثيرًا في مشروع الشرق الاوسط الكبير لأن قلبه اسرائيل. وبالقوة نفسها نرفض الشرق الاوسط الاسلامي لأن المسيحيين في العمق مرفوضون فيه ولو استرضوهم ببعض الوظائف اي انك لا تستطيع اذا كنت سوريا ان تحتويك اية عمارة اقليمية او عالمية.
“تعالوا الى كلمة سواء” في الحقل السياسي تعني ان نرفض معًا ما يفرقنا وألا نقبل بأي محور. هذه كانت سياستنا منذ رفضنا حلف بغداد ومنذ البيان الوزاري لحكومة رياض الصلح العروبي الصميم الذي أبى ان ندور حول اي بلد قريب او بعيد. هناك فرق بين ان تصادق وبين ان تترنّح بمعاشرة هذه او تلك من الدول.
شعوري اننا في حاجة اليوم الى مبرات الاطهار والى ادعيتهم لنمنع عنا الويلات ونأكل لقمة عيش مع اطفالنا بهناء وان يأتينا نشاطنا السياسي اقرب ما يكون الى عقلانية هادئة رافضة للانغلاق حتى تدلنا قلوبنا المطهرة على حل مشاكل هذه الدنيا فنجعلها، اذ ذاك، على ضعفنا فردوسًا. أيها اللبنانيون، لا تضيّعوا فرصة فردوسيتكم على الارض.
Continue reading