Monthly Archives

February 2003

2003, مقالات, نشرة رعيتي

الآب الحنون/ الأحد 23 شباط 2003 / العدد 8

ابن شارد يرفض ما يعتبره هيمنة أبيه. يطلب، على حياة والده، قسمة الميراث. ليس في الأمر تعدّ على الشريعة ولكن عند الصبي شعور ان البيت ليس فيه دفء عاطفي. لوقا لا يدافع عن الروابط العائلية ولكنّه يبيّن الخطر الذي ينتظرنا خارج البيت. في الخارج يضلّ الولد. والكلمة الرمزية للضلال ان يعيش في الخلاعة. الشاب يظن ان الفسق مأوى شعوريّ له، انه البيت الجديد. تخيب آماله كلها. لم تستطع اللذات ان تقدّم له عمق الحياة او كل الحياة او ان تقيمه في سلام. تذكّر انه في بيت أبيه كان محاطًا بأشياء وأشخاص وروابط تجعله يحسّ انه غير متروك.

         لمّا أصابه هذا الجفاف العاطفي حنّ الى أن يرتوي من جديد من عطف الوالد وعبّر عن هذا بكلمات توبة: مضي إلى أبي وأقول له: يا أبت قد خطئت الى السماء وأمامك ولست مستحقًا بعد ذلك أن أُدعى لك ابنًا”. كان يفتقد ان يستعيد بنوة مفقودة. لم يخش لحظة ان والده كان يمكنه أن ينكره، ان يرفض عودته. ارتضى أن يكون كأحد الأجراء وعاد على الإيمان بأن والده سوف يقبله.

         “وفيما هو بعيد رآه أبوه”. الكلام يدلّ على ان الوالد كان يرصد هذه العودة، انه كان يقف على موقع مشرف من البناية ليترقب تلك العودة. ربما استغرق منه ذلك كل النهار، كل يوم او على الأقل بضع ساعات من النهار. عندما وصل الشاب ألقى الوالد بنفسه على عنقه وقبّله. تنتهي الخطيئة عند هذا العناق. ما كان عتاب. لم تكن محاسبة. تمّت المصالحة فورًا بالحب الأبوي المتدفق.

         الاستقبال لم يكن عاديًا. كانت الضيافة تفوق المألوف من الضيافة (خلع الحلّة الأولى على الولد، إعطاؤه خاتمًا في يده وحذاء في رجليه، ذبح العجل المسمّن). ولد شقي أنهكته الحياة ينتقل توًا من شقائه الى الفرح بسبب انه “كان ميتًا فعاش وكان ضالاً فوجد”. لوقا يؤكد ان التوبة هي الحياة الكاملة بسبب الله الذي هو كل الحياة.

         العنصر الثاني في المَثَل الابن البكر الذي لازم البيت دائمًا وككل الشبان عنده ما يغريه للخروج من المنزل الى حيث يلهو. ولكنه قمع الإغراء. كيف يُعطى الابن الأزعر كل شيء وهو لم يعطَ شيئًا؟ كلام الابن الأكبر يعبّر عن احتقار الفريسيين للخطأة. الفريسيون كانوا دائمًا منزعجين ان يسوع “يرحّب بالخطأة ويأكل معهم”. السيد استقبل المرأة الخاطئة لما جاءت اليه في بيت سمعان الأبرص.

         يبقى ان صاحب الدور الكبير في هذا المثل هو الوالد الحنون الذي أحبّ ابنه البار وابنه الضال على السواء. هو محور القصة. فالأبرار أبرار بسبب الآب، والخطأة مهتدون بفضل الآب. والعودة الدائمة الى وجهه هي الوحدة.

         مكانة هذا الإنجيل في هذا التاريخ ان الكنيسة ابتدأت موسم التريودي الذي نحن فيه بإنجيل الفريسي والعشار لتوحي إلينا ان أهمّ ما في سلوكنا مع الله التواضع. جيء الآن بمَثَل الابن الشاطر لترسم الكنيسة أمامنا ان كل طريقنا في الصيام الى الله تبدأ بالاعتراف بخطايانا وان هذه يجب أن ننسلخ عنها جديًّا. هناك عصيان ارتكبناه يجب ان نكفّ عنه. وهذا الصوم يجب ان نقضيه بالفرح الذي تعطيه التوبة وحدها. وبعد هذا، الفصح الذي هو كل شيء.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

موسم التوبة/ الأحد 16 شباط 2003 / العدد 7

التوبة دعوة النفس من الرب الى وجهه في كل حين. ولكن الكنيسة، في تربيتها ايانا، جعلت لنا موسما ملحا يبدأ بأحد الفريسي والعشار، ويحتدم الموسم في الصيام، ويزيد احتداما في الأسبوع العظيم. كل مرحلة إيقاع جديد، فتنتقل بنا مواسمنا من ايقاع الى ايقاع كي لا نسترخي.

          ويبدو نداء التوبة في صلاة السحر من هذا الأحد حتى نهاية الصوم بهذه الترنيمة: “افتَحْ لي ابواب التوبة يا واهب الحياة”. في هذا التدرج رأت الكنيسة ان خير ما تستهل به الحديث عن التوبة هو ان تتكلم على التواضع الذي هو شرطُ اي تغيير في النفس، فقرأت علينا مَثَل الفريسي والعشار من إنجيل لوقا.

          من هم الفريسيون؟ هم مذهب او حركة ضمن الديانة اليهودية تؤمن بوجود الأرواح وقيامة الجسد والثواب والعقاب، وغيرها لم يكن يؤمن بذلك. وكانوا يدّعون ان هناك تقليدا جاء من موسى غير الكتاب المقدس. ما خلا هذه النقطة ما كان يسوع يختلف معهم في العقيدة، ولكن معظمهم سقط في الرياء والاعتزاز بالتقوى.

          اما العشارون فكانوا الذين يتعهدون جمع الضرائب، وبالمناسبة يستغلّون الشعب فيستوفون اكثر مما طُلب منهم.

          الفريسي في المثل يعتبر نفسه طاهرا (ليس كالفاسقين والظالمين) ولا مثل العشار الواقف عن بعد في الهيكل. واقع الرجل في خطيئة العُجب وادعاء الفضيلة. غالبا انه كان على الفضائل التي ينسبها الى نفسه، ولكنه يفاخر بأنه ليس كهذا الجابي الذي يختلس اموال الناس. ويضيف انه يصوم في الأسبوع مرتين، وهذه من النوافل (غير المطلوبة) التي اضافها الفريسيون على الشريعة، ويعشّر كل ما هو له (في حين ان الشريعة لم تطلب تعشير الأعشاب كالشبث والكمون).

          العشار كان مؤمنا انه خاطئ. دخل في حركة التوبة التي بداءتها الاعتراف بالذنب. اما الفريسي فيشهد عن نفسه بطهره وفي هذا كان مترفعًا. لكنه أبطل كل هذا الكمال لكونه تكبر اذ نسب فضيلته الى نفسه ورأى نفسه اعظم من الخاطئ. لهذا صدع يسوع البشرية بقوله: “كل من رفع نفسه اتضع، ومن وضع نفسه ارتفع”. انت امام الله ايا كنت لست بشيء، وانت امام الإخوة لست بشيء اذ يجب ان تعتبرهم جميعا اعظم منك.

          في رؤية فراغنا، نرجو الله ان يملأ فراغنا. كل شيء نعمة ويجب ان ننسب كل خير فينا الى النعمة. كل نعمة من الله تعبر بنا الى الغير ونحن لسنا اصحاب العطاء الإلهي الذي يمر بنا. الله يوزعه بنا ولسنا مالكيه. لذلك لا يستطيع الإنسان ان يفتخر بما ورثه وبما جاز به الى الناس. لذلك قال الرسول: “من افتخر فليفتخر بالرب”.

          العشار الخاطئ صار عظيما لكونه أقر بمعصيته. ومنذ ذلك الحين صار دعاؤه اساسا للدعاء المعروف عندنا باسم دعاء او صلاة يسوع: “يا يسوع المسيح، ابن الله ارحمني انا الخاطئ”. هذا الدعاء مرتكز من مرتكزات الروحانية الارثوذكسية. هي صلاة الاتحاد المثلى. هنا يبدأ درب الإمساك والخشوع وانكسار القلب الى ان يُدخلنا الرب مبرات الصوم المبارك على رجاء نور القيامة.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

الكنعانية/ الأحد 9 شباط 2003 / العدد 6

انجيل الكنعانية يؤذن باقتراب الصوم، وبصورة ادق يهيئنا الى انجيل الفريسي والعشار وهو بدء كتاب التريودي الذي يحتوي على الأسابيع الثلاثة السابقة للصيام وعلى كل أسابيعه.

          توجَّه السيد من الجليل الى نواحي او ضواحي صور وصيدا بعد علاقة متأزمة مع هيرودس والفريسيين. فترة قصيرة قضاها في ارض وثنية، في لبنان الحالي: هل أراد ان يتصل بالوثنيين؟ يلتقي المرأة التي يسميها مرقس وثنية من أصل سوري كنعاني. لا نستطيع ان نعرف اين كان هذا اللقاء، أفي جنوب لبنان، ام في شمالي فلسطين. النص يقول ان المرأة خرجت. المرأة كانت غير جاهلة للديانة اليهودية اذ تُسمي المسيح ابن داود. في هذا الفصل، التلاميذ يرافقون السيد. سمعوا انها تستغيث وتقول ان لها ابنة استولى عليها الشيطان فجُنّت.

          يبدو انها صرخت كثيرا لإيمانها بالمعلّم. تضجر التلاميذ من هذا الصراخ. لا يبدو انهم وصلوا الى حنان يسوع. اجاب: “لم أُرسَل الا الى الخراف الضالة من بيت اسرائيل”. هذا الجواب لا يعني ان يسوع الناصري حصر رسالته في الشعب العبري بدليل انه يختم انجيل متى الذي يذكر الحادثة هكذا: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم” (28: 19). جواب يسوع يعني انه في مرحلة وجوده في البشرة (هنا على الأرض) يعنى باليهود، لأن الرسالة تتم فيهم لتختم بدمه الذي سيهرقونه هم. واما بعد صعوده الى السماء فالروح القدس الذي سيرسله هو يعطي النفحة والقدرة للتلاميذ فينتشر الإنجيل بهم.

          عند هذا الصدّ الرهيب “أتت وسجدت له قائلة أغتني يا رب”. عند ذاك يواجهها بأقسى ما يمكن من كلام: “ليس حسنا ان يؤخذ خبز البنين ويُلقى للكلاب”. كان يمكن ان تعتبر هذا الجواب جافا حتى الشتيمة. أن يسمى الوثنيون كلابا كان امرا شائعا على افواه الربانيين (الحاخامين). لقد نعتَ العهد القديم بعض المخالفين بالكلاب. في تصوري ان يسوع اراد ان يشد هذه المرأة الى التواضع الكبير وان يجعلها بلومه للوثنية (لا لها شخصيا) كاملة الثقة به. لذلك قالت: “نعم يا رب فإن الكلاب ايضا تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أربابها”. اظهرت كامل اللطف وكامل القبول لشخصه.

          لذلك غيّر يسوع برنامجه الذي لم يكن شاملا الوثنيين. يسوع هو الذي رضخ لإيمانها كما وضّح لمريم في عرس قانا الجليل بعد ان رفض تحويل الماء الى خمر.

          “عظيم إيمانكِ. فليكن لكِ كما اردتِ”. الإيمان ممكـن خارج اسرائيل. الإيمان، لا شريعة موسى، هو الذي يبررنا ويقيمنا في عهد جديد مع الله. والإيمان هنا ايمان بشخص يسوع وفاعليته. لذلك انهى متى المقطع بقوله: “فشُفيت ابنتها من تلك الساعة”. كلمة يسوع تنهي المرض وتنهي الموت. فاليهود والأمم الذين كانوا غرباء بعضهم عن بعض متحدون الآن بقوة هذه الكلمة وجمالها.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

الاستنساخ دينيا/ الأحد 2 شباط 2003 / العدد 5

لو فرضنا ان الاستنساخ البشري تم، وهو لم يتم حتى الآن، كيف نحكم عليه بالفكر الإلهي، اذ الله يحكم في كل شيء ولا يحكمه احد؟ قبل كل شيء نقول أن ليس كل إنجاز تكنولوجي مباحا. مثال على ذلك ان العلم قال بفك الذرة ولكنه لم يقل باصطناع القنبلة الذرية التي دمّرت هيروشيما. على الإنسان ان يمتنع عن إبادة البشرية. الأخلاق تشرف على تَقدّم العلم.

ماذا يقول الله الذي علّمنا الأخلاق في ما يتعلق بإنجاب طفل، وتلك هي غاية ما سمي بالاستنساخ التناسلي او التكاثري الذي يتم بجمع بويضة إلى خلية انتزعت منها النواة؟ الله يقول: انا جعلت لكم طريقة لتتكاثروا وهي طريقة التقاء الرجل والمرأة، اذ يقول الرب في سفر التكوين: «ذكرا وأنثى خلقهم»، وهذا بعد ان قال: «خلق الانسان على صورته ومثاله». المعنى اذًا ان الانسان ذكر وانثى مجتمعين او ان الرجل والمرأة يتكاملان في حياة مشتركة هي الزواج الذي ثمرته الاولاد ما خلا حالات العقم. هذه الحياة المشتركة تأتي من حب او ينشأ فيها الحب الذي صار اساسا لميثاق او عهد بين الرجل والمرأة لتغذية هذا الحب واختبار التعاون واقتبال الاولاد ونمو العائلة.

وفي المسيحية هذا الزواج يباركه الله ويكون حاضرا فيه وينعشه. وهذا الحضور الإلهي الجامع للذكر والأنثى نسمّيه سرا لأنه يعبّر عن مشيئة إلهية تجمع الفريقين. فأن يظهر طفل من امرأة او من رجل بلا تجانس بينهما، بلا التقاء كامل، يكون امرا مخالفا للمشيئة الإلهية. لماذا هذا البديل عن شيء موجود وطيّب على قلوب المتزوجين وهو مصدر فرح لهم ويقرّب بينهم ويعطيهم الحافز على التربية والاجتهاد في العمل من اجل العائلة؟ الزواج كما نعرفه -مذ كان الإنسان- مشروع إنساني كبير وارتبطت به الحضارة وجاء منه قديسون، في حين اننا مع الاستنساخ في المجهول الكامل. لا نعرف اذا كان سيطلع لنا انسان سويّ جسدا وعقلا. النعجة «دولي» أتت خلاياها كخلايا امها اي عمرها 7 سنوات. والخطر ان يتكرر هذا في الاستنساخ البشري.

الأمر الرهيب الآخر -اذا تذوق الناس هذا الأسلوب- ان نفك الجنس عن الإنجاب اذ الجنس لن يكون ضروريا لإيلاد الاولاد. عند ذاك يتعاطى محبو الاستنساخ الجنس من اجل نفسه اي معزولا عن ثماره المرجوة. وفي هذا دمار اخلاقي كبير.

إلى هذا عندنا ما يسمى الاستنساخ العلاجي اي ان تؤخذ خلية او مجموعة خلايا من جنين على أمل شفاء مريض. هذا ايضا اختبار غير ثابت النتائج. هنا السؤال الأخلاقي هو هل يجوز التلاعب بالجنين؟ هذا الاختبار يعني قتل الجنين.

هذا يعيدنا الى موضوع الإجهاض. في كنيستنا الإجهاض محرَّم كليا لأنه قتل. ذلك ان الجنين انسان يتهيأ للظهور، وبعد مرحلة معروفة هو كامل الأعضاء. ونحن لا نعتقد ان الروح تهبط عليه بعد نموّ معيّن، ولكنها قائمة فيه منذ التقاء ما يعطيه الرجل وما تعطيه المرأة.

فالاستنساخ العلاجي جريمة واضحة مثل الاستنساخ التكاثري. كلاهما ضد النظام الذي وضعه الخالق لتكوين البشر. الحياة لها قدسية فلا تباد بالإجهاض ولا يجوز الإتيان بها الا في شراكة المرأة والرجل اي نتيجة المحبة.

Continue reading