أنت تخاطب الآخر اذا خاطبك الحق والا كنتما في لقاء ما فيكما من تراب. رهبة صاحب المال الكثير وانسان آخر يتأثر به انهما في التقاء شهوتين: شهوة المعطي المستكبر وشهوة القابض الذليل. فما تتشهاه من مال تعطيه او مال تأخذه فتعظم به يلغي العلاقة البشرية القائمة على الـ”نحن”. ليس من انا وانت يتقابلان اذا المال حكى. مالك، ان اسكرك، بديلك لأنه سالبك. كل هوى خاطف اي مدمر للشخصية التي لا تتكون ولا تنمو الا اذا الله ثبتها لأن ربك اذا جذبك يعيدك الى نفسك اقوى واعمق. غير ان الله لا يأخذ اليه الا الفقراء اذ ليس عندهم ما يخسرونه اذا ذهبوا اليه. فاذا هم ذهبوا يعودون اصفى ويقدرون على المجانية التي هي وحدها شرط التلاقي الحر.
محاورك القائم في مجانيته لا يريد منك شيئا. يريدك ان تكون وهو يستغني بقلبك. لا يحس بأنه في حاجة الى ما عندك ولكن الى ما فيك اذ لا بد له ان يستقل عما عنده ليشعر بأنه في حاجة اليك. ولهذا لا يدخل الملكوت الا الفقراء اعني الذين لا يتعاملون باشيائهم ولكن يتعاملون بنفوسهم. وعلى قدر ما تولي قيمة لما بين يديك لا تولي قيمة لما في نفسك. ولا يزينك شيء عندك ولكن تزينك روحك.
ويتبين لك سوء الاستعمال للمال في الرشوة لكونها اقتحاما للقناعات واذلالا لكرامة صاحب المعاملة او الناخب. ذلك ان الراشي يعتبر المرتشي سلعة تباع وتشرى ويلغي شخصيته المدعوة الى الحرية اذ يؤتي عملا ليس من ايمانه. وفي وضعنا الحالي يقبل المرشح هو ايضا ان يكون صندوقا يتدفق عملة لا ان يكون داعيا الى فكر والتزام سياسيين. يرتضي الا يسائله ناخبوه اي ان يفرض نفسه بالاغراء الذي ليس بعده اغراء. وبدل ان يكافح الفقر بعد توليه السلطة يبيد حرمة الانتقاء وشفافية التواصل بينه وبين اهل الوطن. وفي آخر المنطق يسر بأن يتولى امورنا من تفوق على الناس بما يملك اي لا يكون نائبا حرا يكافح سلطة المال القادرة ان تشرع على هواها ولا يكون همه نصرة الضعفاء وتحريرهم من وطأة العوز عليهم ويقبل بتحويل الديموقراطية التي هي حكم الاحرار الى اوليغارخية التي هي حكم قلة من النافذين الذين يستعملون الدولة في سبيل بقائهم و”استكراد” الامة بأسرها.
انا لست عدوا للاغنياء ارعاهم بالانتباه نفسه الذي ارعى به المحرومين. ومنهم من لم يستغن عن الله واعتبر نفسه فقيرا اليه. انا لست ضد الاغنياء ولكني ضد سلطة المال. نصيحتي الى الاثرياء ان يتخذوا ابا روحيا ان كانوا مسيحيين او شيخا لهم ان كانوا من المسلمين ليرشدهم الى سلوك ليس فيه بذخ وليس فيه استعلاء او استغلال للضعفاء لأن الله يحب المستضعفين. متى نصل الى رؤية الكرامة في كل بشر؟ متى نحس ان الرب يتراءى بنوع فريد في اولئك الذين حرمهم الدهر امكانات العيش الكريم لنتجند لهم ونرفع الحيف عنهم؟
لا تكفي الصدقات. انها شيء جميل ان تمت بلا استكبار وبلا حب للظهور ولا فرض المنة. لا شيء يمنع الغني من بحبوحة عيش ومن ترف غير جارح على ان يشعر بحرمان المحتاج ويترجم شعورا ترجمة عملية باستثمار موارده لمنفعة الناس على ان يعيش بتواضع جم وفي حشمة.
اجل قرأت ان المال زينة الحياة الدنيا ولكنه مجرد زينة والاصل ليس في الزينة. انه في العدل والعدل مشاركة وفي اعلى مراتبه حب. وليس المراد الالهي ان تتخذ من الكتب المقدسة ما يروقك فيها ولكن ان تأخذها في حركيتها الجامعة. كنت اتمنى لو قرأوا: “واعلموا انما اموالكم واولادكم فتنة” (سورة الانفال، الآية ال28) او قرأوا: “وما اموالكم ولا اولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى” (سورة سبا، الآية ال37).
ليست المصادر الروحية متحفظة عن المال بحد نفسه ولكن عن سوء الدنو منه وسوء استعماله كما تتحفظ عن كل قوة. في هذا المنحى ورد في متى: “ما من احد يستطيع ان يعمل لسيدين. لأنه اما ان يبغض احدهما ويحب الآخر، واما ان يلزم احدهما ويزدري الآخر، لا تستطيعون ان تعملوا لله وللمال”. القول هذا لا يمنع السعي الى الكسب ولكنه يمنع سيادة الذهب على النفس ومطواعيتها له. العبادة هي حيث العبودية وفي العربية الجذر واحد وكأن الكتاب ينهي عن التعلق بما تملك لأن الخطر ان تصبح مملوك ما تملك. انت تسلم الى الرب امرك وله وحده الربوبية عليك. والجدلية التي لا مفر منها ان العبد يتوق الى جعل الناس كلهم عبيدا له. خبث هذا الاغراء انك تظن نفسك سلطانا، تؤتي السيادة من تشاء وتنزعها عمن تشاء فتصير شبيها بالله، تنازعه ملكه. ولذلك تحملك هذه النفسية على ان تجعل الناس اشياءك.
مملكتنا هي القلب وموطن استعبادنا القلب. ولذلك سبق هذا القول في متى قول آخر: “لا تكنزوا لأنفسكم كنوزا في الارض… بل اكنزوا لأنفسكم كنوزا في السماء… فحيث يكون كنزك يكون قلبك” (19-21). هذا ايضا ليس تحريما للاكتناز ولكنه نهي عن اشتهاء الاكتناز. المعنى انك تتدمر ان جعلت ملكك في قلبك اذ يطوع قلبك لإله كاذب يسوده. المسألة الوحيدة هي من هو والي قلبك. الراشون والمرتشون يتعاملون خارج نطاق القلب. هم في مملكة الحيازة وليسوا في ملكوت الذات.
ليس المجال هنا لأتوسع في الرؤية المسيحية للملك كما شرحها آباؤنا فانهم علّموا ان التفاوت بين الناس في الملك يناقض المساواة الاساسية التي الله مريدها. هم قبلوا واقع الاختلاف في الاستعمال والتمتع ولكنهم اكدوا “ان الملك ليس لأحد”. الفساد الذي لاحظه آباؤنا ان مرض المتهالكين على الاقتناء انهم في اضطراب كبير لأنهم يعتبرون ان ما عندهم لايكفيهم ويخشون ان يخسروه. انهم في حال احباط ان لم يكسبوا. فالحزن دائم اذا بقوا على ما هم عليه من موجوداتهم.
لن استفيض في هذا، اليوم اذ ما يلفتني في ما اراه ان افتك مرض هو في ما يبتغيه الثري حقيقة. لذته كلذة الصياد الذي لا يهمه موت الطريدة بمقدار ما يهمه السعي اليها. ولكن ما وراء هذا السعي؟ ما تفسير هذه الشهوة في النفس الطامعة؟ ليس اشتهاء المال اخر الطريق لهذا الهوى. آخر الطريق ليس المال بل سلطان المال. اللذة هي في ما لا ينتهي. المال وحده لا يتأكل الانسان. تتأكله السلطة. ان تسيطر على العالم ان امكن تلك هي الخطيئة الاخيرة. فالطعام والشراب في نهمهما ينتهيان عند الخيبة اذ تزول لذة اللسان عند اتمامها والجنس ينطفئ. غير ان نار السلطة تتأجج باستمرار ولا شيء يطفئها الا اذا غيرت ربك اي اذا كسرت الصنم وعدت الى الاله الواحد الاحد الذي يمنحك التواضع ويعلمك ان البشر اخوة.
السلطة ان تكون مركز الوجود وامحاء الرؤية عند الذين تسودهم وتغدق عليهم من مالك وتريحهم بهذا الاغداق من السعي الى الحرية. السلطة يهمها الصمت، الا يشاركها احد الوهتها. هي مثل الاله الحقيقي ترفض الشرك.
لذلك بتنا اليوم في لبنان نقيم في فاحشة جماعية Orgie حيث يلتذ الناس بكل الناس. والجنس في هذه الفاحشة ليس جنسا. انه المال ومحصلة الشبق ليس اننا نستلذ الاموال التي نرمي بها او نلتقط بها ولكنها لذة السلطة نتحكم بها او يتحكم الآخرون بها.
هي حفلة السيد والعبد متآمران لايقاع كل منهما الآخر في العبودية. من قبض منك اسلس لك قيادته ولوخبيثا مرائيا ولا يؤذيك ان يكذبك. ومن اشترى الناس سلعة يستطيبها لينتفخ بها ظن نفسه لوهلة سيدا. حسبه لحيظة الاستلذاذ بانتظار استلذاذ آخر ليكتمل هبوطه الى الجحيم.
Continue reading