هناك خيارات صارت النفس اللبنانيّة تمجّها: التقسيم، التقاسم، الانغلاق المناطقي لقناعة أهلنا بالعيش المشترك. هذا هو الواقع الوحيد الذي نتعامل وإيّاه. يقين الوحدة – ظاهريّة كانت أم عميقة الجذور- بات مكسبنا الراهن ولم نبق أسرى لتنظير أفرزته تلك الحرب التي لا أعرف واحدًا يزكّيها اليوم. لسان حال الجميع أننا طرحناها من تاريخنا ولو كان لنا أن نتّخذ منها عبرة. إنها إذن وراءنا كالكابوس المزعج.
في هذا الإطار النفسي بات تبريرنا للعودة أعظم من الأمنية. إنه منطق تاريخ نتحسّر عليه وتاريخ مشرق نرجوه كأن الرجاء هذا مدخلنا إلى الراهن. نحن لا نجهل أن الأماني شبه الراهنات تدقّ باب اللعبة السياسيّة الدوليّة. واللعبة تجري ضدنّا إن ربطوا قضيّة العودة بقضية لبنان الشاملة وإذا ربطوا هذه أيضًا بقضيّة الشرق الأوسط. نحن رجاؤنا أنه لا يسوغ تسييس شأن المهجرين ولا يجوز إغراقها بالشأن اللبناني الكامل.
نرجو أن يعود الاتّحاد السوفياتي إلى ما كان من حوار مع العالم لئلا نُرمى في سلة المهملات إلى حين. لعلّه إذا خرج إلى الحرّية والتجدّد واستعاد «إعادة بنائه» و«الشفافيّة» يستطيع أن يعتبرنا بعضًا من شرقه فلا يبقى علينا سيف الإهمال مصلتًا.
الوضع المترجرج في أوروبّا الشرقيّة يؤذينا. ولكنّه لن يغيّر في الموقف السوري أو في التوقيت السوري ولن يبدّل في موقع إسرائيل شيئًا. ومن الواضح أن كلّ تباطؤ في تنفيذ القرار الـ 425 سيؤذي العودة والراغبين فيها.
أما نحن فعلى انهزاميّتنا المألوفة أمام الضغط الدوليّ لا نستطيع انتظار المنّ والسلوى من الخارج. وأما إذا آمنّا بأنفسنا أصحابًا للقضيّة فنجعل أنفسنا العنصر الحاسم فيها. لكن لهذا شرطًا واحدًا: أن نقبل الآخر الذي جعلناه آخر في تهجيره صاحب الحقّ الوحيد في العودة. الذي لم يغادر ليس هو المضيف وإذا حسب نفسه كذلك فهو من مرحلة الحلّ. وهذا يتطلّب تغييرًا كلّيًّا في القناعات وأولاها أن يخرج الإنسان من أي شعور له بضرورة سيادة طائفة معيّنة على بقعة من البلد أو على كلّ البلد.
⃰ ⃰ ⃰
لأن اللبناني قبل الحرب لم يستوعب ضرورة كلّ الجماعات في إلفتها اخترع لنفسه آحاديّة هنا وثنائيّات هناك. لا شكّ أن الديموغرافيّة تعذر هذا الإحساس وهذا التصرّف. ولن تتلاشى غدًا التراتبيّة التاريخيّة والسياسيّة التي جعلناها في النفوس والكتب. لكن الوحدة المرتجاة هي عينا هذا أن نسعى إلى أن طائفة واحدة لا تقرّر مصير أيّة بقعة كان لها تاريخيًّا عليها سيادة وأن هذا التاريخ الجزيء لا ينبغي أن يكون الأهمّ والحاسم في مصير لبنان. الطائفيّة التي نشكو منها ليست فقط طائفيّة الانتخابات وتوزيع المناصب. هذه يمكن نظريًّا أن يقلّل الإنسان من حدّتها إذا ذهبنا فيها حتى العبثيّة أو السخف.
الطائفيّة الفتّاكة هي التي نعيشها في الذاكرة التاريخيّة بصورة سلبيّة. من يحيا انتسابه الديني بلا استعلاء أو شعور مرضي بالمظلوميّة؟ من يحيا مع غيره لا ضدّ غيره؟ مثال على ذلك وحدة الجبل الذي إذا أدرك نفسه وحدة أقليّتين تتسالمان حينًا وتتقاتلان أحيانًا حسب ناموس إيقاع زمني لن يعيش طويلاً. فالآحاديّة الدرزيّة إذا استقرّت عند أصحابها قرار عيش أبدي تستدعي آحاديّة مارونيّة متمردّة في الجبل وحاكمة في كل الجمهوريّة. جسم الشوف نعالجه بمفاهيم أخرى أو يحمل سمات معطوبيّة دائمة. المحاورون في الشوف كما في مختلف الأنحاء إن لم ينطلقوا من التقاء الجميع على الحرّيّة والتنوّع والتعدّد لن يكون للعائدين مقرّ في السلام لأن السلام تحديدًا هو التعالي عن كل ما يهمّش الآخر ولا يجعل له إقامة هنيئة في الحياة الوطنيّة.
في التعبير المسيحيّ، ليس من قيامة إلا من بعد موت ومعنى ذلك على الصعيد العامّ أن موت أنانيّات الطوائف شرط لانبعاثها معًا في لبنان الجديد.
وقد يعني موت الطوائف ألا ترى بالضرورة إلى تراصّ كل واحدة شرطًا للتراصّ العامّ. من زاوية الإنجيل كثيرًا ما يكون هذا على حساب الوحدة الروحيّة والوعيّ الروحيّ. التناثر الداخلي إذا عنى الغنى الثقافيّ والانتماءات العقليّة والحزبيّة المختلفة قد يكون دربًا إلى الانصهار الوطنيّ. انتشار طائفة في كل ولاء سياسيّ يعتبر في البلاد الراقية علامة نضج فيها. فإذا كانت الطائفة كالبنيان المرصوص فيعني ذلك غالبًا انقيادًا للزعامات القائمة بلا روح نقديّة. والحرّيّة من هذا القبيل ألاّ تفكّر بالضرورة مثل من انتميت إليه روحيًّا أو حضاريًّا. هي أن تنسلخ أمام أفق إنسانيّ جديد عن عشيرتك لتلقى فيه من كان قادرًا في نضجه في الخندق الأخير على أن ينفصل هو أيضًا عن عشيرته.
وقد يكون الانقسام الداخلي هذا، السليم والمسالم، شرطًا لنشوء وحدة جديدة في أعماق الحياة الروحيّة. البغض في البيوتات والزعامات لا التنّوع في الالتزام السياسي كان المصيبة في الطائفة – العشيرة. التبعثر، القلق كان المرض الروحي ولا أدعو إليه لكن التناثر الملتقي الآخرين دعوة تأتي من الإخلاص وتدلّ على أن ما يوحّدنا هو الإحساس اللبناني الشامل ومعه هذه المشرقيّة المنفتحة التي تحرّرنا من حكم القبائل.
المجموعات الثقافيّة – الاجتماعيّة في روح الحرّيّة هي شرط السياسة الوطنيّة التي لا تربط منطقة بحكم طائفة أو ثنائيّة طائفيّة.
⃰ ⃰ ⃰
هذا التوجّه وهذا الأفق هو الضمان الأخير لبقاء العائدين إذا عادوا لئلاّ يكون فرحنا منطلقًا من مجرّد تجربة تنهي مرحلة الضياع إلى حين. أيّة نفسيّة تنتظرنا عند الجوع وأيّة نفسيّة تبنا إليها عند الرجوع تلك هي المسألة. أيّة قناعة روحيّة سوف تجمعنا؟
في بركات هذا العهد إذا اتّخذناه كانت العودة واجبًا وكانت حقًّا، واجبًا على من أقام وحقًّا لمن نزح.
الكلمة الأولى والأخيرة في هذا الموضوع هي حقوق الإنسان أن يسكن حيث يشاء. هذا حقّ طبيعيّ تخضع له السياسة وليس من تفاوض حول هذا الحقّ. وقبل الحديث عن الإعمار وإمكاناته لا بدّ لكل المراجع أن تعلن حرّيّة العودة لئلاّ تفقد هذه المراجع صدقيّتها.
هذا بلد الإنسان ولا قيمة له إلاّ في هذا لئلاّ نكتسب «طبائع الاستبداد» تلك التي يقرّر أصحابها نقل السكّان الاعتباطي. إن التركيز على الإعمار هرب من إعلان هذا الحقّ الطبيعيّ. اللبنانيّ يعرف أن يعمّر إن قلت له: هذه أرضك فاستلم وحميت له أمنه. أعطه حقه في أن ينصب خيمة عليها. هكذا فقط قد يقتنع أنه ليس في مهبّ الريح ولا يخضع لمزاجيّة أحد.
Continue reading