Category

مقالات

1997, مقالات, نشرة رعيتي

السلوك الفصحيّ / كلمة الراعي «رعيتي»، الأحد 4 أيار 1997، العدد 18

يوم الفصح ظـهر السيد للتلاميذ مجتمعين “وقال لهم: السلام لكم. ولما قال هـذا أراهم يديه وجنبه فـفرح التلاميذ حين أبـصروا الرب”. وكان توما غائـبًا فلم يؤمن. ولكن في الأحـد اللاحـق للـقـيامة ظـهـر السيد لهم ثانية وتوما معهم. وتكـرر المـشهد نفسه عند دخول الرب: السلام لكم، والرب مشـرق بالـنور الفـصحي وآثار آلامه عليه.

كل منا آلامه فيـه بادية أو غير بادية، جسـديّة أو نفسيّة. انه ليس وحده. يكـلّمه يسـوع، ولمـجرد انعطافه عليه يعطيه سـلامًا، يقيمه في السلام. ولكن هـذا الإنسان المتـوجع يـستضيء بنور للمـسيح غـير منظور، بتعزية. يحسّ بقربى يـسوع، ويصبح بدوره مضيئًا. الألم والفـرح يترافقان ويتعايشان في إنسان واحد.

المتألم مصلوب وقـائم معًا. ما جرى في الرب يرتسـم في نفوسـنا، في مـشاعرنا.ليس الموجع كغير الموجع، كيف يمكـنك ان تخفف من وجع الحصى في الكلى. هذا ليـس من الخيال. وفـي كثرة من الأحوال لا شفاء لك. مع هذا يمكنك أن ترمي نفسك على حضن يسوع إذ يبقى المعزّي إن لـم تحدث الأعجوبـة. وقد تكـون ملمًّا بحالتك وتعرف غالبًا ان المرض الذي اعتراك هو إلى موت. لا يبقى لك، إذ ذاك، الا مهمة واحدة، ان تسـتفيد حتى الأقصى من كل إمكـاناتك وان تقول للرب: هـذا ما يبقى من هذا الجسد. ليس عندي الا هذه الطاقات. تعال إليّ وأنا في حاجة اليك، وسـد الثغرات بنـعمتك، وكن أنت الـضـيـف العظيم في هذا الجسد المكسور وهذه النفس الحزينة.

يدخل عليك المسيح والأبواب مغلقة. نفسك حزينة وأَقفلت كل شيء حولها وتريد أن تنطوي في حزنها. إذا قرع يسوع باب نفسك افتح له، إذ ذاك يدخل ويتعشى معك ويُجلسك على مائدة حبه. يسوع قادر أن يقيم عرسًا مع نفسك التي ظنت انها متروكة.

من رآك متعزيًّا يعرف سرك. يفهم أن المسيح افتقدك وأعطاك سلامه وانه الآن قاعد عندك. ربما قضيتَ أسبوع الآلام والعيد على فراشك وكنتَ شاعرًا بحضور المسيح إلى جانبك. فصحك يكون قد كان كاملًا.

هناك ما كان أشد من المرض محنةً عنيتُ به الخطيئة التي تعاودك المرة تلو المرة. وهذه ليست الأفتك. أفتك منها الخطيئة المحبَّبة إلى نفسك والتي تقيم فيها. أمام هاتين تدخل في تهجئة الفصح إذا بدأ وعيك للخلل الذي أنت فيه. وتكون مشيتَ خطًى إذا قلت في نفسك: “اني أقوم وأعود لأبي”. لسنا بعد في فصح العمق.

أما إذا كفرتَ بنفسك وخطّأتها رجعتَ إلى حنو الآب وارتميتَ في حضنه حقا فيكون وجودك الداخلي قد عيَّد الفصح.

الذي خرج من القبر ظافرًا يترجم ظفره فيك حلاوةً في نفسك أو طراوة. فصحك، عند ذاك، يكون ممدودًا طوال العمر.

Continue reading
1962, لسان الحال, مقالات

في العصر هذا / الأحد 3 حزيران 1962

قمة الإيمان، ضمانته –إذا صح التعبير- ان ننزه الله عن كل صفة من صفات الموجودات. فليس مثل الله شيء. الإيمان الا نستعمل الله والا ننسب اليه ما نجهل، فلا نسميه إذا تكلمنا عن المجهول أو ما نعجز عنه لأننا إذا اكتشفنا ما كنا نجهل وما كنا نعتبره سرًا، فإيماننا يتصدع ونظن أن فكرة الله تتقهقر بتقدم المعرفة. حتى يسلم إيماننا ينبغي أن نبلغ احدى قممه بألا نربط فكرة الله بالمجهول أو بما كنا عنه عاجزين. ان تشويهنا لفكرة الله يلغي وجوده. ان جنون العظمة عند مَن ظن نفسه نابليون لا ينقص شيئًا من وجود نابليون.

لما قال الروس انهم لم يجدوا الله في الفضاء كانوا على خطأ لانهم فتشوا عنه حيث لا يجوز لهم ان يفتشوا. ليس الله في مكان. انه في قلوب محبيه ولا يضيق ملكوته إذا اتسعت آفاق الإنسان. كان الإنسان قزمًا على الصعيد الروحي لما ظن ان الله عرشًا فوق القبة الزرقاء. فلما اكتسب الانفتاح الروحي تبين خطأ تصورات سابقة عن ربه ولم ينقص من كيان الله شيء.

كذلك كان من الخطأ ان نربط الله بالمرض وقد نهى الإنجيل، غير مرة، ان نفسر المرض بخطيئة المريض، ونهت التوراة عن الاعتقاد بأن الآباء يأكلون الحصرم والأولاد يضرسون. يبتغي هؤلاء اقرار الطب على حساب تعليل سحري ظاهره ديني. هذا لا يعني ان الصحة والمرض خاليان من رسالة الهية الينا. ولكن لا نربطن الله بالجوع والأوبئة والجهل لئلا يذهب إذا هي ذهبت. الله أرفع من كل موجود وأعلى من كل وصف. فإذا أدركناه كذلك، والدين هكذا رآه، فأنه يحضر في كل علم وكل حضارة. إذًا الإنسان لم يَدَّعِ فأنه قادر ان يعاين الله في كل حق وكل بهاء، في ارتداده عن ضلاله إذا اشتد الضلال، في نعيم مفقود ووجه ينفرج. إذا ازداد اقتحامنا للمجهول يومًا بعد يوم، وحلّلْنا كل خبايا النفس البشرية وبلغنا أقصى العدالة في مجتمع منسجم فالنفوس الطيبة الرقيقة الخاشعة ستظل لنا كاشفة الله.

Continue reading
1969, لسان الحال, مقالات

إلى الأب الياس (عوده) / الأحد 20 تموز 1969

وجهت إلى الأب الياس (عوده)، بمناسبة رسامته الكهنوتية.

غدًا عيد شفيعك وإنك لتستقبله وأنت كاهن منذ أيام. ولقد رفعوك إلى هذا المقام لأنهم قرأوا الحبَ على محيّاك، ذاك الذي رسمَتْه فيك الكلمة تتعلّمه منذ الطفولة أخلاقًا من متّحد بارّ وكتابًا مقدسًا مع شبيبة كنيستك.

ماذا أقول لك وأنت شببت على غيرةِ إيليا ولطفِ الانجيل بآن معًا ولم يحرمك طلب المعرفة أن تدرك أن الأنقياء وحدهم يعرفون فتابعت. في المهجر، تتلمذت على التواضع وآثرت، وأنت هناك، أن تتبتل لربِّك لا يشاركك فيه حبيب. وجعلوك منذ الآن في الرعاية وأنت على شيء من الفتوّة لأن الأبناء جياع وليس مَن يعطيهم خبزًا.

ستكون أنت طعامهم. سيأكلونك ولكنك قبلت أن تكون ذبيحًا وأن تقتلك كنيسة الله. سوف تتدارس الكتاب كل يوم فلا بد لك أن تعكف على القراءة حتى تنقضّ عليك إلهامات توزّعها في الأحياء على الناس. ولا بد لك أن تصلّي بعنف لئلاّ تغترّ وتخدعك شهوات الصبا. وما أهون انزلاقك إذا تملّقوك أو نمّوا عليك. إياك أن تُفسد الخدمة بالتحكُّم أو الانتقام. فالأصغرون عندك الأكرمون. وأمّا وجه ربك فابغَ، فله وحده الحكم ووجوه الناس تراب. وإذا أنت أَحببتَ ملَكْت، وإذا أبغضت أَهلكت وأنت في يوم الدين مسؤول عمن يهلك بغفلتك.

ومن تجاربك كثرة العلم. فقد تقضي ساعات بين الكتب تستمتع بالإلهيات والمؤمنون حولك عطاش إلى تعزية. أنت أولاً ماسح دموع وغاسل أرجل. وإذا ذبت هكذا أمامهم يعود ربك إليهم حضرة سماء.

ولكن الكلمة لا تذوب. ينبغي ألا تنقطع في فيك. قُلْها ولو توانى القلب دونها فهي أيضًا تُرجع قلبك إلى الله. كلامه يربِّيك أولاً، يربِّيك كالسوط. قُلْه لتأمن وقُلْه علّهم يرجعون. قُلْه سنةً بعد سنة وموسمًا بعد موسم ولو رأيت الخطيئة تُلازمهم كالعلق. المهم أنك أنت لن تنجو ما لم تتكلم. وهم أُوكِلَتْ أمورهم إلى هذا الذي دعاك من الظلمة إلى نوره العجيب.

إنجيل المسيح مبرح. لا تخشَ النزف. اجرح والطف فأنت طبيب لا نديم. أنت رفيقهم إلى ملكوت يحقّقون فيه أنفسهم ولست قاعدًا هنا لترتزق. قد يمجّونك في البدء، فالانسان فيما آل إليه من فساد ليس أليفَ الكلمة، ولكنك أنت سلّطْتَها عليك لتندمج فيها، لتصبحها ولسانُ حالك ما دَوّى به شفيعُك إلى الأبد: «حيٌّ هو الله الذي أنا واقف أمامه». إن بقيتَ على هذه الوقفة أو عدت إليها بعد تكاسُل فالحياة بين يديك أضحت وديعةَ إلهٍ وأنت في مواكب الذين يفتدون الزمان ويسوقون الأرض إلى الفردوس.

السرّ في قداستك. والقداسة ليست طهريةً ملائكية. فمن كان ذا يدين فلا بد له أن يمسّ الأرض. ومع ذلك لا يرضى سيِّدك عن القداسة بديلاً فلا شيء في الدنيا يُضاف عليها. إنها الوجود كله وأبعاد الوجود. إنها تعني أنك لا ترضى معايشة الإثم لا فيك ولا في غيرك، أنك بالتالي جريح إلى الأبد ولا سيما أن الإنجيل جعلك حسَّاسًا إلى حد التمزُّق المستمرّ. ولكن إن تيقّظتَ ولم تُهمل محبتك الأولى، إن عُدْت إلى حرارتك بعد فتور واستغنيت عن المطربات واحدة واحدة فأنت مطيع لهذا الذي أَسلمتَ إليه في تواضع قلبك وانكسار الروح. ما عدا ذلك باطل وقبض الريح.

ستبقى، عامًا بعد عام، سالكًا في الإيمان إلى أن تشيخ. في الايمان قلتُ لأنك لن ترى الملكوت يسير قدُمًا وأنت عالم أن «حياتنا مستترة مع المسيح في الله». في زمن الكهولة سوف تضطرب. سوف تُعاين أن كل شيء حولك ينهار والعزلة حولك وفيك رهيب. رُكيعات الليل في غرفةٍ ستكون وحدك فيها والكأس المقدسة إذا تناولتها في استغفار حق، ستكون واحتك في الصحراء التي اخترت أو التي اختارها لك مَن يعرض علينا الصليب.

قم إلى المذبح غدًا واختطفنا معك إلى السيد. هات الخبز والخمر لئلا نموت. شكرًا لك يا الياس.

Continue reading
1992, مقالات, نشرة رعيتي

نشوء الزواج / كلمة الراعي “رعيتي”، الأحد 9 آب 1992، العدد 32

الزواج عهد مؤسس على الطبيعة. ينشأ بالحب الذي يجمع رجلًا وامرأة. ولكن هناك مجتمعات قديمة لا تطلب الحب شرطًا ولكن لا بدّ له ان يتكوّن قبل الزواج أو بعده. هناك جاذب يكشفه القول الإلهي منذ التكوين: «ليس جيدًا أن يكون الإنسان وحده على الأرض. فلنصنعنَّ له مُعينًا على شبهه». فاللقاء بين شخصين من الجنسين يضع مبدئيًّا حدًّا لهذه الوحدة.

أجل الحب قائم في الطبيعة، يختلط بما لهذا الجسد من نزعات. يلتقيها وتلتقيه. فالشاب يحسّ بضرورة المرأة إلى جانبه. ميل عام غير محدّد حتّى يجد في مرحلة من مراحل نموّه ووعيه ان نزعته إلى وجهٍ معيّن يلغي الوجوه الأخرى. إذ ذاك يتوحّد بهذا الوجه أي يرى نفسه واحدًا معه. ولا يرى نفسه وطاقاته محقّقة إلَّا مع هذا الشخص. الزوجة الواحدة والزوج الواحد شيء من الطبيعة البشريّة لأنّ الإنسان الناضج عاطفيًّا لا يرى نفسه إلَّا مع إنسان واحد من الجنس الآخر. ما عدا ذلك مراهقة. ان تعدُّد الزوجات تنقُّل وعدم استقرار وعدم رضا. فأنت تتعهّد من تحب وتبقى معه وحده. لا يمكنك احترامه إلَّا إذا كان وحده معك. ولا تتركه أصلًا لأنك معه في صباه وشيخوخته. ولك في كل أطوار عمرك فرح واكتمال.

نحن نتّخذ الطبيعة كما هي. نبدأ بها. لا نحتقرها لأنّ «الزواج مكرَّم ومضجعه غير دَنِسٍ». نحن المسيحيين لا نكره الجنس. نعرف ان الله خلقه وانّه جزء من الكيان البشري، ولكنّه يحتاج إلى ضابط لأنّ الإنسان لا يتّزن بلا ضوابط. والقناة الطبيعيّة للجنس هي الارتباط الدائم بامرأة. الجنس لا يكون نزوة ولا يتغيّر بحسب المزاج. يكون في حراسة الشريعة الإلهيّة.

ذلك ان الإنسان معرّض لتقلّبات النزوة والإغراء، ومحبّة المسيح تنقذه من ذلك. بالزواج يطفئ لهيب الشهوة ويجعلها خاضعة للحب.

الجسد يذهب إلى حيث يشاء. فإذا نزل الحب عليه يجعله إنسانيًّا لأنه يقيمه في علاقة إنسانيّة. الحب شخصي، يجعلك شخصًا بعد أن كان جسدك شيئًا من الطبيعة. كنتَ تلقى أجسادًا. تصير الآن في لقاء وجه. الحبّ والجسد يتواصلان. كلّ منهما يمكث في الآخر ولا يفترقان.

وإذا احتدم الحب يصبح هوى. الإنسان تحت وطأة الهوى يخسر حريته. الهوى جارف يستولي على الآخر حتى الاستعباد. الشخص الآخر يصير الكون كلّه، معبودًا كالإله أو كأنّه الإله. هذا هو الدمار لكل اتّزان.

أمَّا المسيح إذا حلّ فيعيدنا إلى التوازن. يلغي الهوى الجارف ولا يلغي الحب. يزيل الأنانية، الاستبداد الذي يحكم العاشقين. يعيدهم إلى الحريّة الداخليّة. تخمد النار. يبقى الحب نورًا. ينتظم الجسد.

عند ذاك نحب الحبيب كما المسيح أحبّ الكنيسة. المحب يبذل نفسه عن شريكه، يعلّيه. يتطهّر به ويطهّره. يموت من أجل الآخر. العاشق يميت الآخر. الـمُحب يعاهد حبيبه كما عاهد المسيح الكنيسة أن يبقى لها حتّى نهلية الأزمان. المحبّة إذا انسكبت في القلب فالروح القدس فيه. يحب الناس بالصّداقة، بالخدمة، بتضحيات لا تُحَدّ. الحب بين الذكر والأنثى، إذا صفا حتّى يصير انعكاسًا لمحبّة المسيح لأتباعه، هذا الحب ليس شيئًا آخر عن المحبّة التي نادى بها يسوع يُضاف إليها احتضان وحميميّة وعلاقة تعاش على صعيد الجسد حتّى الموت. وهذا ما نسمّيه الزواج.

فإذا عاهدنا بالمحبّة الدائمة شخصًا من الجنس الآخر وساكناه بلا أن نملي شرطًا عليه ما عدا المبادلة يُسمّى هذا زواجًا. الزواج هو المحبًة التي تعمل في اتّجاهين ويذوقها الكائن البشري من حيث هو مركّب من نفس وجسد. ينشأ الحب لأنّه قوّة. تشرف عليه المحبّة الإلهيّة. عند ذاك يقيم المحب والمحبوب معًا في مشروع عطاء دائم يزول مع الموت أو لا يزول حتّى يجيء المسيح ثانية ويتزوّج الكنيسة العروس في ملكوت أبيه.

Continue reading
1991, جريدة النهار, مقالات

المهجّرون أيضًا وأيضًا / جريدة النهار / السبت 16 تشرين الثاني 1991

هناك أنواع وجود هي ذلّ وقمع. منها ظاهرة التهجير التي ما من مسوّغ لاستمرارها. وقد يوفّق الله الحاكمين إلى ما فيه التنفيذ وبدؤه قرار العودة. لماذا لا تحسم الحكومة الأمر؟ فإن قالت إنها عاجزة الآن لأمر يتعلّق بالجهوزيّة العسكريّة فلتقلها لنفهم. فالعجز مرفوض ومن الصمت ما يعذّب.

يريدونها مناقشة وطنيّة واسعة بها تفتدي الحكومة نفسها. إذ ذاك نحن أمام رجاء قابل للتحقيق لئلاّ تتحوّل الهجرة إلى توطين خارج المناطق التي اضطررنا إلى النزوح عنها فيصبح الإنسان غريبًا في وطنه، مخلاً بالبنية السكانيّة ومجروح الكرامة.

ولست أظنّ أن أحدًا يحلم بالفرز السكانيّ ولو تعالت أصوات تزكّيه في ما مضى من هذه الحرب التعسة التي شنّتها علينا الجحيم. لماذا يتغنّون بالعيش المشترك الذي أقمناه في الجبل منذ ألف سنة ونحن عليه في الساحل منذ ألف وأربعمئة سنة. والطبائع اللبنانية سمحاء برغم جروح تحلّ وينساها أهل الغفران وطلاّب الحياة الجديدة.

وعندنا لا تسنّ فئة من فئاتنا القانون ولكن الدولة تشترع بعدما وضع السلاح ذووه فهذا أمر لا تحكمه النزوة ويعود على الجميع بالنفع العميم وما قال أحد إنه يسعى إلى إعادة أهل منطقة واحدة والصلح يقوم على استرجاع الجميع أرزاقهم وهي حقّ قالت به شرعة حقوق الإنسان وتقول به أدياننا قبل الشرعة. والصلح يقوم على العمل وعلى عمق روحي نتمنّى أن يكون هو المعيّة وقد نشأنا على أن قدر الكلّ أن يعيشوا مع الكلّ يشاطرونهم قسوة العيش والمصير الواحد. وإذا كذّبتْ الوقائع هذه القناعة فما أمامنا سوى البحر. هل هذا ما يرضاه دعاة الوطنيّة؟ فلنبدأ بإقرار الحقّ القائل إن اللبناني له أن يسكن حيثما يحلو له وإن عودة المهجّرين ما هي سوى وجه من حقّ الإنسان أن يلازم الأرض التي يشاء وهي في السجلّ العقاريّ تخصّ من تخصّ وكان مأخذ الإنسانيّة المتحضّرة على ستالين وهتلر أنهما نقلا سكان بعض الأراضي إلى أراض أخرى ابتغاء سياسة حزبيّة أو تفريق عنصريّ.

ومن خاف على زعامته فهذا شأنه. غير أننا نذكّره أن خير سياسة تؤول إلى المعايشة الكريمة وأن الديموقراطيّة آن أوانها وأنها مراس يوميّ يقوم به الكلّ ومع الكلّ ذلك لأننا معًا في رعاية الله الواحد ولا رقيّ لجماعة منّا بلا الجماعة الأخرى. وما أعطيت فئة منفردة وحدها الانتاج اقتصاديًّا كان أم ثقافيًّا. ولنا الدهر حتى يأنس القلب للقلب وأداء الشهادة.

⃰   ⃰   ⃰

وقبل أن تتوطّد القلوب على الإيمان بالوحدة كان علينا أن نبدأ بالتصميم وبالتصميم الملحاح تنفتح القلوب وتعود الوجوه إلى الوجوه في الصفاء ونتقابس وأنا موقن بأن كلاّ منّا يستحق الترحاب بالآخر لأن «المحبّة أقوى من الموت» ولنا أن نتوق التحاب وهو ذروة العدالة. والحبّ قبل كلّ شيء السماحة وأن ننسى الماضي لئلاّ نبقى سجناء التاريخ. ذلك أن الكبير يرجو للإنسان الآخر كل فلاح ويؤنسه في وحشته. وإذا سلكنا معًا سبل حضارة عظيمة وأبدعنا معًا وسائل الرقيّ فهذا يحجب عنّا ذرائع الخصام وننشئ الإنسان الجديد على الحرّيّة. فإذا جلسنا معًا إلى موائد الأرض نرى أن الأرض لنا جميعًا وأن الله يرزقنا ما نشتهيه وأن للجميع مأكلاً ومشربًا.

وإذا ساغ الكلام عن أهل الجبل فليس لأنهم الأفضلون ولكن لكونهم العدد الأكبر ونحن مستعدّون للتأمّل في عودة كل جماعة إلى الأمكنة التي كانت فيها بحيث نراعي التوازن في الرجوع وجدولة الرجوع وليس لأهل الجبل رغبة في منافسة أحد زعامته وما نافسوا فعلام يخشون؟ وهل من منطق لجعل الجبل قليل العدد وألا يثمره أبناؤه جميعًا؟ وأيّ عقل يقول في هدأته إن الجبل إذا حكمته الدولة يقوم على طائفة واحدة مهما عظمت مواهبها وإن الكثرة ينبغي أن تتشتّت بلا عمل ولا دخل وأن تزيد كثافة المناطق الأخرى ونحن نؤمن بأن في تلاقي الجماعات سرّ نجاحها وأن اللقاء السمح هو ما يجعلنا نزيل عن جبين لبنان عار نفور نعرف من غذاه.

ولعل أهل العار الأعظم أن نجعل من آلام المهجرين بعضًا من صفقة شاملة. من هم أطراف هذه الصفقة؟ فعندنا من جهة بؤس شديد وخطر متفاقم ويأس من الوطن. ويقابل ذلك منافع في الأرض ومجد في الأرض. أي نحن أمام تواز بين إنسانيّة مهيضة الجناح يعذبّها تقاعس الأمّة كلّها ومطمح سياسي. نحن نعرف أن ليس من تاريخ أبدي لطائفة على حساب طائفة. فليسكر كل بماضيه على ألاّ نموت بسببه أو نفرح جميعنا في عيش واحد يسوده من استطاع.

وإن كان لا بدّ من ميثاق فها هو مضمون في وثيقة الوفاق الوطني. إنها ترعى بنية البلد وتلاقي أبنائه بحيث لا يقوم لبنان على التمييز بين وطنيّة هذا ووطنيّة ذاك وبحيث نتسابق في العطاء. فإن كان من ميثاق فإنه يبدأ بالسلام الاجتماعي، هذا الذي فهمته دول أوروبّا بعد تناحرها. فالأوروبّي سيحل حيثما يحلو له ويعمل حيث يستطيع العمل. أما نحن فنخطّط بين قضيّة روحيّة كبرى هي قضيّة المستضعفين في الأرض وقضيّة تجاوزها الزمان أعني قضية التوازن بين الطوائف.

⃰   ⃰   ⃰

وإن كان من حوار بيننا فهو في أمر الإعمار. هذا شأن الدولة أكان هذا بالتسليف أم بطريقة أخرى. ولكننا لا نتوقّع أن تعوّض الحكومة من خسر. لا أعرف سابقة لهذا في العرف الدوليّ. نحن نقول إن الأمن أسبق من الإعمار وإننا نستطيع في ظلّه أن نعود لئلاّ يتعرّض البلد لنكسات. وإعمار القرى المهدّمة لا يسبق العودة لأن تمامه يقتضي سنوات عدّة نكون قد عرّضنا فيها الـمُهجّر لهجرة ثانية عن البلد أو أن يصبح أداة خلل وتخلّف. وهل يسلم الجبل الدرزي إذا سقط السلام الاجتماعي في كل أرجاء الوطن؟ الحديث في الإعمار شرطًا للعودة إلهاء وألهية. الإعمار عندنا فيه الحدّ الأدنى والحدّ الأقصى. نحن قادرون وحدنا على الحد الأدنى الذي يسمح لكل مواطن بغرفة على رزقه ينطلق منها. أعيدوا إلينا الرزق نعطكم عمرانًا بأيدينا وكفانا الله شرّ التسويف وشرّ تسييس لا حوار فيه ولا حنان.

Continue reading
1991, جريدة النهار, مقالات

المهجرون / جريدة النهار / السبت 24 آب 1991

هناك خيارات صارت النفس اللبنانيّة تمجّها: التقسيم، التقاسم، الانغلاق المناطقي لقناعة أهلنا بالعيش المشترك. هذا هو الواقع الوحيد الذي نتعامل وإيّاه. يقين الوحدة – ظاهريّة كانت أم عميقة الجذور- بات مكسبنا الراهن ولم نبق أسرى لتنظير أفرزته تلك الحرب التي لا أعرف واحدًا يزكّيها اليوم. لسان حال الجميع أننا طرحناها من تاريخنا ولو كان لنا أن نتّخذ منها عبرة. إنها إذن وراءنا كالكابوس المزعج.

في هذا الإطار النفسي بات تبريرنا للعودة أعظم من الأمنية. إنه منطق تاريخ نتحسّر عليه وتاريخ مشرق نرجوه كأن الرجاء هذا مدخلنا إلى الراهن. نحن لا نجهل أن الأماني شبه الراهنات تدقّ باب اللعبة السياسيّة الدوليّة. واللعبة تجري ضدنّا إن ربطوا قضيّة العودة بقضية لبنان الشاملة وإذا ربطوا هذه أيضًا بقضيّة الشرق الأوسط. نحن رجاؤنا أنه لا يسوغ تسييس شأن المهجرين ولا يجوز إغراقها بالشأن اللبناني الكامل.

نرجو أن يعود الاتّحاد السوفياتي إلى ما كان من حوار مع العالم لئلا نُرمى في سلة المهملات إلى حين. لعلّه إذا خرج إلى الحرّية والتجدّد واستعاد «إعادة بنائه» و«الشفافيّة» يستطيع أن يعتبرنا بعضًا من شرقه فلا يبقى علينا سيف الإهمال مصلتًا.

الوضع المترجرج في أوروبّا الشرقيّة يؤذينا. ولكنّه لن يغيّر في الموقف السوري أو في التوقيت السوري ولن يبدّل في موقع إسرائيل شيئًا. ومن الواضح أن كلّ تباطؤ في تنفيذ القرار الـ 425 سيؤذي العودة والراغبين فيها.

أما نحن فعلى انهزاميّتنا المألوفة أمام الضغط الدوليّ لا نستطيع انتظار المنّ والسلوى من الخارج. وأما إذا آمنّا بأنفسنا أصحابًا للقضيّة فنجعل أنفسنا العنصر الحاسم فيها. لكن لهذا شرطًا واحدًا: أن نقبل الآخر الذي جعلناه آخر في تهجيره صاحب الحقّ الوحيد في العودة. الذي لم يغادر ليس هو المضيف وإذا حسب نفسه كذلك فهو من مرحلة الحلّ. وهذا يتطلّب تغييرًا كلّيًّا في القناعات وأولاها أن يخرج الإنسان من أي شعور له بضرورة سيادة طائفة معيّنة على بقعة من البلد أو على كلّ البلد.

⃰   ⃰   ⃰

لأن اللبناني قبل الحرب لم يستوعب ضرورة كلّ الجماعات في إلفتها اخترع لنفسه آحاديّة هنا وثنائيّات هناك. لا شكّ أن الديموغرافيّة تعذر هذا الإحساس وهذا التصرّف. ولن تتلاشى غدًا التراتبيّة التاريخيّة والسياسيّة التي جعلناها في النفوس والكتب. لكن الوحدة المرتجاة هي عينا هذا أن نسعى إلى أن طائفة واحدة لا تقرّر مصير أيّة بقعة كان لها تاريخيًّا عليها سيادة وأن هذا التاريخ الجزيء لا ينبغي أن يكون الأهمّ والحاسم في مصير لبنان. الطائفيّة التي نشكو منها ليست فقط طائفيّة الانتخابات وتوزيع المناصب. هذه يمكن نظريًّا أن يقلّل الإنسان من حدّتها إذا ذهبنا فيها حتى العبثيّة أو السخف.

الطائفيّة الفتّاكة هي التي نعيشها في الذاكرة التاريخيّة بصورة سلبيّة. من يحيا انتسابه الديني بلا استعلاء أو شعور مرضي بالمظلوميّة؟ من يحيا مع غيره لا ضدّ غيره؟ مثال على ذلك وحدة الجبل الذي إذا أدرك نفسه وحدة أقليّتين تتسالمان حينًا وتتقاتلان أحيانًا حسب ناموس إيقاع زمني لن يعيش طويلاً. فالآحاديّة الدرزيّة إذا استقرّت عند أصحابها قرار عيش أبدي تستدعي آحاديّة مارونيّة متمردّة في الجبل وحاكمة في كل الجمهوريّة. جسم الشوف نعالجه بمفاهيم أخرى أو يحمل سمات معطوبيّة دائمة. المحاورون في الشوف كما في مختلف الأنحاء إن لم ينطلقوا من التقاء الجميع على الحرّيّة والتنوّع والتعدّد لن يكون للعائدين مقرّ في السلام لأن السلام تحديدًا هو التعالي عن كل ما يهمّش الآخر ولا يجعل له إقامة هنيئة في الحياة الوطنيّة.

في التعبير المسيحيّ، ليس من قيامة إلا من بعد موت ومعنى ذلك على الصعيد العامّ أن موت أنانيّات الطوائف شرط لانبعاثها معًا في لبنان الجديد.

وقد يعني موت الطوائف ألا ترى بالضرورة إلى تراصّ كل واحدة شرطًا للتراصّ العامّ. من زاوية الإنجيل كثيرًا ما يكون هذا على حساب الوحدة الروحيّة والوعيّ الروحيّ. التناثر الداخلي إذا عنى الغنى الثقافيّ والانتماءات العقليّة والحزبيّة المختلفة قد يكون دربًا إلى الانصهار الوطنيّ. انتشار طائفة في كل ولاء سياسيّ يعتبر في البلاد الراقية علامة نضج فيها. فإذا كانت الطائفة كالبنيان المرصوص فيعني ذلك غالبًا انقيادًا للزعامات القائمة بلا روح نقديّة. والحرّيّة من هذا القبيل ألاّ تفكّر بالضرورة مثل من انتميت إليه روحيًّا أو حضاريًّا. هي أن تنسلخ أمام أفق إنسانيّ جديد عن عشيرتك لتلقى فيه من كان قادرًا في نضجه في الخندق الأخير على أن ينفصل هو أيضًا عن عشيرته.

وقد يكون الانقسام الداخلي هذا، السليم والمسالم، شرطًا لنشوء وحدة جديدة في أعماق الحياة الروحيّة. البغض في البيوتات والزعامات لا التنّوع في الالتزام السياسي كان المصيبة في الطائفة – العشيرة. التبعثر، القلق كان المرض الروحي ولا أدعو إليه لكن التناثر الملتقي الآخرين دعوة تأتي من الإخلاص وتدلّ على أن ما يوحّدنا هو الإحساس اللبناني الشامل ومعه هذه المشرقيّة المنفتحة التي تحرّرنا من حكم القبائل.

المجموعات الثقافيّة – الاجتماعيّة في روح الحرّيّة هي شرط السياسة الوطنيّة التي لا تربط منطقة بحكم طائفة أو ثنائيّة طائفيّة.

⃰   ⃰   ⃰

هذا التوجّه وهذا الأفق هو الضمان الأخير لبقاء العائدين إذا عادوا لئلاّ يكون فرحنا منطلقًا من مجرّد تجربة تنهي مرحلة الضياع إلى حين. أيّة نفسيّة تنتظرنا عند الجوع وأيّة نفسيّة تبنا إليها عند الرجوع تلك هي المسألة. أيّة قناعة روحيّة سوف تجمعنا؟

في بركات هذا العهد إذا اتّخذناه كانت العودة واجبًا وكانت حقًّا، واجبًا على من أقام وحقًّا لمن نزح.

الكلمة الأولى والأخيرة في هذا الموضوع هي حقوق الإنسان أن يسكن حيث يشاء. هذا حقّ طبيعيّ تخضع له السياسة وليس من تفاوض حول هذا الحقّ. وقبل الحديث عن الإعمار وإمكاناته لا بدّ لكل المراجع أن تعلن حرّيّة العودة لئلاّ تفقد هذه المراجع صدقيّتها.

هذا بلد الإنسان ولا قيمة له إلاّ في هذا لئلاّ نكتسب «طبائع الاستبداد» تلك التي يقرّر أصحابها نقل السكّان الاعتباطي. إن التركيز على الإعمار هرب من إعلان هذا الحقّ الطبيعيّ. اللبنانيّ يعرف أن يعمّر إن قلت له: هذه أرضك فاستلم وحميت له أمنه. أعطه حقه في أن ينصب خيمة عليها. هكذا فقط قد يقتنع أنه ليس في مهبّ الريح ولا يخضع لمزاجيّة أحد.

Continue reading
1992, جريدة النهار, مقالات

الدولة، الثقافة، الحرية / جريدة النهار / السبت 7 تشرين الثاني 1992

المؤسسة على خطرها قناعة. قناعة لأنها قبول فلسفي بأن العقل القانوني والهيكلية السياسية ينجيان الإنسان. انها الاعتقاد بأن «لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب» وكأن القرآن يوحي بأن هذه القوة التي نسمّيها اللب وهي جامعة بين القلب والعقل انما تتربى إذا خضعت لما يبدو مصطلحا مجتمعيا ولكنه في الأصل من رواسب القانون الطبيعي أو الشريعة الإلهية وما جاءت الأعراف أو السنن الا لتسكبه في قالب.

صحّ ان كل شريعة إكراهية ولكن الإكراه ليس القهر. يصبح الإكراه كذلك ان أنت أحسست ان الشريعة متعسفة ولكن المعقول والمرتضى ان ليس في الشرائع عسف هذا قبل ان يلغي لينين «دولة القانون» ويدخل اعتباطية اللجنة المركزية للحزب أي حرية التفسير للأدلوجة – الآيديولوجية – كما عربها علي حرب. ائمة الأحزاب هم المرجعية في ما يؤول إلى انطباق الأدلوجة على الواقع البشري. ولكن سمو الدنيا القانونية في حرصها على ان القانون بعامة ينظر في مصالح الناس وانه حيز الإنصاف الطبيعي في ما خلا حالات استثنائية جدا. ذلك ان القانون ليس غريبا عن الحقيقة المطلقة وان كان أدنى إلى الفائدة المجتمعية التي هي فائدة الأكثرين.

ان طبيعة الإنسان العقلية واعتقاداته وتطوره التاريخي هي العناصر التي يستلهمها الشارع ليحدد حقًّا وضعيًّا في ما ترجمناه عن الفرنسية بما كان أجمل منها لأنه يناسب وضع الجماعة. الانطلاقة ان أهل التشريع يضعون أنفسهم أو يتواضعون ليروا إلى أحوال الرعية ويراعوها وتاليا يرعونها.

ان هذا الموقف يفترض عند المواطن ايمانه بالدولة من حيث انها ذلك الجسم المجتمعي المفوض اليه رعاية الناس وإكراههم على أمور عدة: دفع الضرائب، خدمة العلم، قبول الأحكام القضائية، التقيد بالقانون. ويفرض قبل ذلك اقتناعًا روحيًّا بأن للإنسان في ذلك تهذيبا ورقيا وحماية وتنمية وان في ذلك شيئًا إلهيا بسبب من مجرى التاريخ البشري من جهة وبسبب ما فينا من لب يتجاوب والمجرى التاريخي لما ينفعنا ليس فقط في دنيانا ولكن في الآخرة. كان بولس الرسول على هذا العمق لما كتب: «ليخضع كل أمرئ للسلطات التي بأيديها الأمر، فلا سلطة الا من عند الله، والسلطات القائمة هو الذي أقامها» (رومية 31: 1). ليس في هذا شرعنة لكل حكم قائم ولكنه التسويغ الأساسي لفلسفة الحكم وقهريته. من هذه الزاوية حياتنا في الدولة ليست مجرد اصطلاح توافقنا عليه من أجل ترتيب أمور دنيانا. انـه انتظام إلهي ولو كانت الوسيلـة البشريـة للتعبيـر عنـه الحقـوق الوضعيـة. الإلهـام الأخير إلهي أقلنا ان لله أحكامًا محددة في الجزئيات كما في الإسلام ام قلنا ان فكرة انضباطنا وتفعيله صادران من الله.

***

هذا ما نسميه المؤسسة في الحقل السياسي وان كان مدلول الكلمة اعم. المؤسسة تعني أننا بعد ان تبينا الحق الوضعي وموضوعيته نوقن أيضًا ان القضاء والإدارة القائمتين على الحقوق الموضوعية انما تكون علاقتهما مع الأهالي موضوعية أيضًا. أي ان ثمة إقصاء عوامل الانفعال في الصلة الرسمية ذلك لأن هذه العوامل تشوه موضوعية القضاء والإدارة بحيث يتجاوز الإنسان العقل ليتخبط بالغريزة والدوافع الآتية من الزعامات والعائلية والطائفية إذا أردنا تسميات نعرفها كثيرًا في وطننا.

من يتصرف غريزيا لا يؤمن بسيادة العقل على العلاقات البشرية ولا يعرف الفرق بين ما يوافق الشرع وما لا يوافقه ولا يرى ان خير ما نقدمه لمواطن ان نهذبه بتذكيره انه إذا أحس بأن له منفعة آنية من المخالفة فإن له منفعة دائمة بطاعة أهل التشريع والحكم في الأمة.

هذه الموضوعية هي في ان يرى المسؤول والمواطن نفسيهما في علاقة تتجاوزهما تفرضها مصلحة الجماعة، كل الجماعة في مراعاة الحرية والعدل معًا. خلاف ذلك الفردية الفاتكة في هذا البلد وخلاف ذلك رؤية الطائفة متحدًا كافيا نفسه. العدل بارد إلى حد بعيد لأنه يرى ان القيم تسوس الناس جميعًا ويرى العاطفة ضمن السياسة. ولكن ما يجعل المؤسسة ليست كلية البرودة هو الأبوة الحاضن للعلاقات. وهنا يأتي دور القوى الروحية الفاعلة الشاهدة لأن الحكم يصبح شيئيًا ان خلا من الشعور. فالإدارة يصلحها الملح كما يقول الإنجيل أي تلك النكهة الشخصية التي هي نفحة الإدارة الكبيرة والقضاء الكبير فالعدل في ذروته يصبح محبة والوطن يصير عائلة. هذا ما عرفه الملوك العظام والذي يمكن ان نذوقه في حكم الشعب الناضج. وهذا يمكن ذوقه في كل مراتب الإدارة. فالسياسة لهفة اي انها تدبر شؤون الناس كما الناس هم. والسياسة اختيار للأولويات والأولية للفقراء وما يعانون منه وذلك لا ينتهي بإطعامهم وتطبيبهم وإيوائهم وتدريس أولادهم ولكن السياسة تثقيف.

***

هنا لا بد لي من الاغتباط بأن حكومة السيد رفيق الحريري انشأت في ما أنشأت وزارة للثقافة والفنون الجميلة طالمـا تمنينا ظهورها واسندتها لرجل يزداد إعجابي بـه ما سمعت اليه بسبب مـن المعرفـة الدقيقـة التـي يكشفها لنا. ميشـال إده رجل موسوعي يذكرني كلما اجتمعت اليه بهذه الآية النبراس في القرآن: «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون». ومن وراء المعارف له هذا اللب الذي يذكرني بكلمة السيد في إنجيل يوحنا: «تعرفون الحق والحق يحرركم». اعرف في آخر المطاف ان الثقافة يمكن ان تكون ترفا ولكن ان تواضعت لها أيضًا ان تصبح عتبتنا إلى الحقيقة التي تعوز شعبنا كثيرًا. المطلوب من وزير كهذا ليس أقل من ان يصبح أبا للبنانيين على صعيد العقل وعلى صعيد الذوق أي في مجال القلب ذلك ان كل شيء قلب كما علّمنا المتصوف النفري.

ومغامرة تثقيف هذا الشعب جعله شعبًا جديدًا على قدر نعمة الله عليه وعلى قدر اجتهاد لنا كبير. ويعني هذا أولاً تقويم أخلاقنا وشدنا إلى إيمان نتغلب به على عيوبنا التاريخية. بالمعرفة المنجية نخلص من المركنتيلية ومن الاستلذاذية لندخل في سر العطاء وسر الإبداع إذ ليس من فصام ممكن بين قبول الأشياء العظيمة والمناقبية. هل تكون سيدي الوزير رسولاً؟ هذا يستوجب الإحاطة بالرساليين والخلاقين في كل ميدان وتنقية لكل أساليب التعبير عندنا ولا سيما وسائل الإعلام وللوزير هيمنة كاملة أو ليس هو بشيء. رفع الذوق اللبناني ورفعنا من حضارة الأكل والاستهلاك حتى تمتصنا الحقيقة بالحب الذي لها ان تنشئنا عليه وتدخلنا في التراث العالمي منذ سقراط حتى يومنا هذا وذلك بلسان عربي مبين، ذلك كان التكليف.

المبتغى أن نعرف كل شيء بدقة كما يعرف ميشال إده، ان نصبح أحرارًا في دواخل النفس بلا ضغط السياسة وقهرها، ان نعمل كل ذلك معًا «لئلا يهلك منا أحد» ولا يصير في بلده نسيا منسيا. والثقافة روافد التراثات القائمة عندنا تنصب معا في ما نشتهيه ميراثا لهذا البلد واحدًا. لم يعتد اللبناني ان يكون مسجلة فهو في الخطاب العربي رائد وإذا لم تعِ العروبة ذلك فانها لا تكون واعية لنفسها ولا تكون ذات مضمون. فالثقافة حمسة ولو لم تستغرقها الإنشائية الحماسية. الثقافة طاعة للجمال والطهارة مقترنين. روحها الحرية التي تبدع وحدها مسؤولة أمام نفسها كما ذكرنا بذلك غسان تويني في جامعة البلمند الأسبوع الفائت.

ان السيد الحريري بتأسيسه هذه الوزارة للمرة الأولى في تاريخنا دل على اننا نجتمع حول الفكر ولا يجمعنا اللغو ولا المجاملة. الحالة اللبنانية ليست الآن إلى الوحدة إذ لا نستطيع ان نقيم الا في الثقافة الكبرى أي في التنوع والغزارة خارج طغيان الوحوش السياسية. ان ندرك مسؤولية الكلمة التي تخرج من فم الإنسان وتطهره وتنتج ما تقوله تلك هي المسيرة التي تأخذ في طريقها كل اللبنانيين. ذلك ان الوفاق الوطني وفاق على الكلمة الحلال وتلك المشاركة التي لا يهمَل منها أحد.

أرجو الا نكون قد دخلنا في وفاق – نفاق يقوم على قهر تاريخي بإلغاء هويـة جـزء مـن الأمـة كبيـر. والإذلال ممكـن تحـت التعـابيـر التـي ظاهـرهـا وحقيقتهـا طغيـان. ان «طبائع الاستبداد» فـي لبنان غـدت باديـة، صارخـة بالرغـم مـن خطب الرئيس الياس الهراوي. والناس يأكلون ويبيعون حريتهم. هذا هو الإغراء الذي يحذرنا منه دوستويفسكي في اسطورة المفتش الأعظم. لن ندفع ثمن الحرية طعامًا يعلفوننا به. شاؤوها دولة المطعم بعد أن أذاقونا الجوع. الموت أشرف حتى تحل أعجوبة الحرية في فجر اليوم الثالث.

Continue reading
1962, لسان الحال, مقالات

حديث الأحد / الأحد 11 آذار 1962

الحياة الروحية همُّنا في هذه الزاوية. والحياة الروحية هي أن نرى ما يكشف الله لنا خلال كلمته وخلال الحادثة، أن نشهد لحق الكلمة، أن ندعها تنحت لنا مسلكًا. سنكتب هذه التأملات فيما نستقبل الأحد، اليوم الذي خلق الله فيه النور وتمَّ فيه ظفر المسيح. انه اليوم الأول للخليقة واليوم الأول لتجدد الخليقة وقد سماه كتّاب النصرانية الأقدمون اليوم الثامن لأنه، بعد انقضاء كل الأزمنة المرموز اليها بالأسبوع، افتتاح للأبدية.

في وضح هذه الحياة الجديدة التي يمدنا الله بها سنتبيّن معالم الطريق، طريق حياتنا الآن وهنا. فالحياة الروحية ليست غيبية لأن الله إله لنا، إله معنا وفينا. هو الواقع الراهن الذي يفيض على كل الموجودات وجودها. فحديث الله أقرب حديث إلى الحياة التي نحيا. الله ألصق بنا من كل حادثة، من كل إنسان، من أنفسنا. والحديث عنه ليس بالضرورة حديثًا عن صفاته وأعماله ولكنه إدراك لما حولنا وفينا، لظروفنا ومشاكلنا، لآلامنا على ضوء تعليمه ونفحاته.

حقيقة الله فعل وخلاص ومتى صارت هكذا في لبنان حلّ اليقين والإخلاص محل الزيف، وانتقلنا من ديانة القشور والجدران الطائفية، من الرموز الحزبية وجفاف الأشكال إلى ديانة الحب التي نطلب فيها المخلوق كما نطلب الخالق، بل نلتمس فيها الخالق في المخلوق. ما يهمّنا في هذه الزاوية هي حقيقة الله في الصميم لأنها هي شفاء البشرية المعذبة. وقد يتعاطى المرء دينه وليس له في نفسه شيء من هذه الحقيقة لأنه لا ينفذ إلى قلب التعبد فتحجب عنه العبادات نفسُها أحيانًا ربه ويظل غريق ممارسات دينية لا سعي فيها إلى وجه الله الصبوح.

هذا السعي ليس اغترابًا عن الدنيا كما قلنا لكنه الوسيلة المثلى لتغيير الدنيا. هذا «الدين – الحب» ليس تحذيرًا للشعوب بل الهام للشعوب ولا هو اقتتال على الأرض لربح السماء ولكنه ربح للأرض تُعطى للجميع بسبب أوامر السماء. هذه المواجهة بين الأرض والسماء إذا تمّت في القلوب الصافية الحمِسة وفي الأذهان المقدامة كفيلة بأن تعطي للأرض كل خيرات السماء وبأن ترفع إلى السماء كل جهود الأرض.

Continue reading
2016, جريدة النهار, مقالات

بين العقل والقلب / جريدة النهار – السبت في 28 أيار 2016

الإنسان هو في نفسه وأريد بذلك أن قواه فيه. بعضها أو كثيرها من الله وأعني بذلك انه يتحرك بما جاء إلى ذاته فصار ذاته. وأحد خارج عنه يحركه ولكن عندنا نحن المسيحيين أن هذا الواحد هو الله. في فهمي لهذا أن الله لا يحركك إذا بقي خارجًا عنك. إنه يحركك إذا دخل إليك بالنعمة وهذا صعب تصوره إذ ينبغي أن تؤمن أنه فوقك. خارجًا منك بذاته وأنه منك وفيك بالنعمة. والنعمة نعمته أي هو. كيف، عند ذاك، تكون أنت أنت؟ ليس عندي تصور عقلي لذلك. بتعبير أدق كيف يكون في وليس مني ولست منه؟ هذا سر الحب الإلهي فينا. قلت فينا وما قلت منا. كيف يعرف الروحاني الكبير أن الله فيه بكامله وأنه مع ذلك ليس هو الله؟ هذه أشياء يحس بها الروحاني ولا يفهمها. من قال عن علاقته بالله «أنا أهوى ومن أهوى أنا» فهم بعمق النفس ما قال ولم يفهم بالعقل أي رأي وآمن بمعنى أن إتصل أي وصل. هذه رؤية القلب الذي يسكنه الله.

مشكلتي مع أهل العقل أي الذين لا يؤمنون الا به أن ليس لك معهم لغة. ناس لا يؤمنون إلا بعقولهم وناس إلى جانب عقولهم يؤمنون بالقلب. هل من مخاطبة بينهم؟ التروي الذي اواجه به أهل العقل المحض أن الذي عندهم عقل وقلب معًا يفهمون من ادعى العقلانية وحدها. زعمي أن بلادنا ليس عندها من كانت لهم عقلانية وحدها بلا شعور ولعل أهل الغرب لا يختلفون عنا عميقًا مهما ادعو. ليس من إنسان يستطيع أن يرمي العقل ولا من إنسان يستطيع أن يرمي القلب. هذان متعانقان مهما أردنا تنظيرًا أحاديًّا.

ناس عقلهم هو الأول والحاكم وناس قلبهم هو الأول والحاكم ولكن لست أعرف إنسانا موزونًا انحصر بهذا وذاك. أن لست فاحصا كثيرًا من الناس لكن المؤمنين الذين أعرفهم من كانوا على مقدار من الفهم كبير عندهم توازن بين العقل والقلب. يحكم العقل وهو فيهم ولا تتحكم المشاعر غير المنضبطة.

المؤمن العظيم لا المؤمن الإنفعالي أي من كان مثقفًا قادر أن يجمع بين القلب والعقل جمعًا متوازنًا. لا شك أن بعضًا من المثقفين لا يؤمنون كما أن بعضًا من الجهال لا يؤمنون. أنهم عند التضخم العقلي يمكن أن يكون مرضًا كما تضخم الجهالة يمكن أن يكون مرضًا. الإيمان لا يأتي من الجهل ولا يأتي من الثقافة. هو قوة إلهية تفوق قوة العقل وقوة الجهل. الإيمان سر كامل اذ ليس له في الطبيعة سبب. كله من الله. له شراكة مع القلب يعسر علي تبيانها عقليًا.

أن لا أعرف إنسانًا يقول تعلقه الكبير بالعقل خاليًا من الشعور. الإنسان غريزة ومشاعر وعقل. لا أعرف أيًّا من هذه الثلاثة قائمًا وحده. نحن مسعى بين قلب وعقل.

Continue reading
2016, جريدة النهار, مقالات

معمودية الروح / جريدة النهار – السبت في 21 أيار 2016

ماذا يعني المسيحيون إذا قالوا ان المسيح مخلص العالم والعالم كان ولا يزال في شقاء؟ ما الذي يخلصه المسيح؟ ان كلمة مخلص مطلقة على المسيح تعني انه في ذاته أولاً حياة العالم وان من تبعه يحيا به ويحيا فيه. لماذا قلت به؟ أظن انها تعني ان يسوع يقودك إلى حياة ما كان لك عهد بها الا لأنك أخذتها منه والأقوى ان نقول انه هو الحياة. من لم يعتقد به هكذا لم يصل إليه. بكلام أبسط وأوضح انه عندنا ليس أحد المعلمين. هو وحده المعلم فإنه هو القائل: «أنا الطريق والحق والحياة». هو الحاوي الناس جميعًا والوجود كله. فإذا بدأت تقرأ وجهه ترى كل شيء إليه وعندئذ يأخذ الناس معناهم والأشياء معناها.

المسيح ممدود رأيت ذلك أم لم تره وإذا لم تقرأ الأشياء منه لا تراها على حقيقتها. المسيح مخلص العالم لأن العالم كلّه فيه. وليس لشيء استقلال عنه ان كان في هذا الشيء حقيقة أو جمال. كل محاولة لإبعاد أي شيء عن المسيح قتل لهذا الشيء. ويمكن ان تكون في المسيح ولا تعرف، هو يعرف.

النصر الكبير لمن عرف ان المسيح فيه. قبل هذا لا يرى شيئًا. لا شيء يزاد على المسيح لأن المسيح ممدود وإذا كانت لك أية حقيقة فهي منه وعائده إليه. هو مخلصك انه أنقذك من خطيئة آدم وحواء. هو مخلصك اليوم من الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها أنت لأنه يعيدك إليه عندما يجيء إليك. لا شيء من حق أو جمال خارج المسيح ولو اختلفت التسميات. إذا ليس المسيح محصورًا بحدود ما يسمى الكنيسة وليس هو ملكًا للمسيحيين. الناس جمعيًا له بمعمودية أو بلا معمودية. روحه يعمد من يشاء وينصّر (الصاد مشدودة) من يشاء ومن هذا المنظار ليس للكنيسة حدود. ليست محصورة بالمعمدين. هي حيث كان الحب وحيث كان العطاء. والكنيسة المنظورة صورة عن كنيسة أوسع هي في العالم وفوق العالم.

من المعمدين من سقط ومن غير المعمدين من لم يسقط. الروح القدس يعمد من يشاء والمعمد الذي لا يسلك بحسب الروح تكون معموديته حمامًا. هذا ليس قولي هذا قول الآباء. المعمودية إشارة إلى أنك اصطبغت بالروح القدس ولكن كثيرون سقطوا منها وذهب عنهم الروح القدس.

والروح القدس ترافقه أو لا ترافقه. وإذا جمدت في محلك ليس لك روح قدس أي ليس معك إله. هناك من بقي معمدًا بالماء ولم يقبل ان يرافقه الروح الإلهي. هذه معموديته بقيت ماء.

ومعمودية الروح تعني طاعة المسيح. وإذا لم تكن هذه الطاعة نكون فقط مرشوشين بماء. والذين أطاعوا المسيح وليسوا على دينه يكونون معمدين بالروح. لا تكرهوا أحدًا من غير المسيحيين إذ قد يكون معمدًا بالروح.

Continue reading