1997, مقالات, نشرة رعيتي

السلوك الفصحيّ / كلمة الراعي «رعيتي»، الأحد 4 أيار 1997، العدد 18

يوم الفصح ظـهر السيد للتلاميذ مجتمعين “وقال لهم: السلام لكم. ولما قال هـذا أراهم يديه وجنبه فـفرح التلاميذ حين أبـصروا الرب”. وكان توما غائـبًا فلم يؤمن. ولكن في الأحـد اللاحـق للـقـيامة ظـهـر السيد لهم ثانية وتوما معهم. وتكـرر المـشهد نفسه عند دخول الرب: السلام لكم، والرب مشـرق بالـنور الفـصحي وآثار آلامه عليه.

كل منا آلامه فيـه بادية أو غير بادية، جسـديّة أو نفسيّة. انه ليس وحده. يكـلّمه يسـوع، ولمـجرد انعطافه عليه يعطيه سـلامًا، يقيمه في السلام. ولكن هـذا الإنسان المتـوجع يـستضيء بنور للمـسيح غـير منظور، بتعزية. يحسّ بقربى يـسوع، ويصبح بدوره مضيئًا. الألم والفـرح يترافقان ويتعايشان في إنسان واحد.

المتألم مصلوب وقـائم معًا. ما جرى في الرب يرتسـم في نفوسـنا، في مـشاعرنا.ليس الموجع كغير الموجع، كيف يمكـنك ان تخفف من وجع الحصى في الكلى. هذا ليـس من الخيال. وفـي كثرة من الأحوال لا شفاء لك. مع هذا يمكنك أن ترمي نفسك على حضن يسوع إذ يبقى المعزّي إن لـم تحدث الأعجوبـة. وقد تكـون ملمًّا بحالتك وتعرف غالبًا ان المرض الذي اعتراك هو إلى موت. لا يبقى لك، إذ ذاك، الا مهمة واحدة، ان تسـتفيد حتى الأقصى من كل إمكـاناتك وان تقول للرب: هـذا ما يبقى من هذا الجسد. ليس عندي الا هذه الطاقات. تعال إليّ وأنا في حاجة اليك، وسـد الثغرات بنـعمتك، وكن أنت الـضـيـف العظيم في هذا الجسد المكسور وهذه النفس الحزينة.

يدخل عليك المسيح والأبواب مغلقة. نفسك حزينة وأَقفلت كل شيء حولها وتريد أن تنطوي في حزنها. إذا قرع يسوع باب نفسك افتح له، إذ ذاك يدخل ويتعشى معك ويُجلسك على مائدة حبه. يسوع قادر أن يقيم عرسًا مع نفسك التي ظنت انها متروكة.

من رآك متعزيًّا يعرف سرك. يفهم أن المسيح افتقدك وأعطاك سلامه وانه الآن قاعد عندك. ربما قضيتَ أسبوع الآلام والعيد على فراشك وكنتَ شاعرًا بحضور المسيح إلى جانبك. فصحك يكون قد كان كاملًا.

هناك ما كان أشد من المرض محنةً عنيتُ به الخطيئة التي تعاودك المرة تلو المرة. وهذه ليست الأفتك. أفتك منها الخطيئة المحبَّبة إلى نفسك والتي تقيم فيها. أمام هاتين تدخل في تهجئة الفصح إذا بدأ وعيك للخلل الذي أنت فيه. وتكون مشيتَ خطًى إذا قلت في نفسك: “اني أقوم وأعود لأبي”. لسنا بعد في فصح العمق.

أما إذا كفرتَ بنفسك وخطّأتها رجعتَ إلى حنو الآب وارتميتَ في حضنه حقا فيكون وجودك الداخلي قد عيَّد الفصح.

الذي خرج من القبر ظافرًا يترجم ظفره فيك حلاوةً في نفسك أو طراوة. فصحك، عند ذاك، يكون ممدودًا طوال العمر.

Continue reading
1962, لسان الحال, مقالات

في العصر هذا / الأحد 3 حزيران 1962

قمة الإيمان، ضمانته –إذا صح التعبير- ان ننزه الله عن كل صفة من صفات الموجودات. فليس مثل الله شيء. الإيمان الا نستعمل الله والا ننسب اليه ما نجهل، فلا نسميه إذا تكلمنا عن المجهول أو ما نعجز عنه لأننا إذا اكتشفنا ما كنا نجهل وما كنا نعتبره سرًا، فإيماننا يتصدع ونظن أن فكرة الله تتقهقر بتقدم المعرفة. حتى يسلم إيماننا ينبغي أن نبلغ احدى قممه بألا نربط فكرة الله بالمجهول أو بما كنا عنه عاجزين. ان تشويهنا لفكرة الله يلغي وجوده. ان جنون العظمة عند مَن ظن نفسه نابليون لا ينقص شيئًا من وجود نابليون.

لما قال الروس انهم لم يجدوا الله في الفضاء كانوا على خطأ لانهم فتشوا عنه حيث لا يجوز لهم ان يفتشوا. ليس الله في مكان. انه في قلوب محبيه ولا يضيق ملكوته إذا اتسعت آفاق الإنسان. كان الإنسان قزمًا على الصعيد الروحي لما ظن ان الله عرشًا فوق القبة الزرقاء. فلما اكتسب الانفتاح الروحي تبين خطأ تصورات سابقة عن ربه ولم ينقص من كيان الله شيء.

كذلك كان من الخطأ ان نربط الله بالمرض وقد نهى الإنجيل، غير مرة، ان نفسر المرض بخطيئة المريض، ونهت التوراة عن الاعتقاد بأن الآباء يأكلون الحصرم والأولاد يضرسون. يبتغي هؤلاء اقرار الطب على حساب تعليل سحري ظاهره ديني. هذا لا يعني ان الصحة والمرض خاليان من رسالة الهية الينا. ولكن لا نربطن الله بالجوع والأوبئة والجهل لئلا يذهب إذا هي ذهبت. الله أرفع من كل موجود وأعلى من كل وصف. فإذا أدركناه كذلك، والدين هكذا رآه، فأنه يحضر في كل علم وكل حضارة. إذًا الإنسان لم يَدَّعِ فأنه قادر ان يعاين الله في كل حق وكل بهاء، في ارتداده عن ضلاله إذا اشتد الضلال، في نعيم مفقود ووجه ينفرج. إذا ازداد اقتحامنا للمجهول يومًا بعد يوم، وحلّلْنا كل خبايا النفس البشرية وبلغنا أقصى العدالة في مجتمع منسجم فالنفوس الطيبة الرقيقة الخاشعة ستظل لنا كاشفة الله.

Continue reading
1969, لسان الحال, مقالات

إلى الأب الياس (عوده) / الأحد 20 تموز 1969

وجهت إلى الأب الياس (عوده)، بمناسبة رسامته الكهنوتية.

غدًا عيد شفيعك وإنك لتستقبله وأنت كاهن منذ أيام. ولقد رفعوك إلى هذا المقام لأنهم قرأوا الحبَ على محيّاك، ذاك الذي رسمَتْه فيك الكلمة تتعلّمه منذ الطفولة أخلاقًا من متّحد بارّ وكتابًا مقدسًا مع شبيبة كنيستك.

ماذا أقول لك وأنت شببت على غيرةِ إيليا ولطفِ الانجيل بآن معًا ولم يحرمك طلب المعرفة أن تدرك أن الأنقياء وحدهم يعرفون فتابعت. في المهجر، تتلمذت على التواضع وآثرت، وأنت هناك، أن تتبتل لربِّك لا يشاركك فيه حبيب. وجعلوك منذ الآن في الرعاية وأنت على شيء من الفتوّة لأن الأبناء جياع وليس مَن يعطيهم خبزًا.

ستكون أنت طعامهم. سيأكلونك ولكنك قبلت أن تكون ذبيحًا وأن تقتلك كنيسة الله. سوف تتدارس الكتاب كل يوم فلا بد لك أن تعكف على القراءة حتى تنقضّ عليك إلهامات توزّعها في الأحياء على الناس. ولا بد لك أن تصلّي بعنف لئلاّ تغترّ وتخدعك شهوات الصبا. وما أهون انزلاقك إذا تملّقوك أو نمّوا عليك. إياك أن تُفسد الخدمة بالتحكُّم أو الانتقام. فالأصغرون عندك الأكرمون. وأمّا وجه ربك فابغَ، فله وحده الحكم ووجوه الناس تراب. وإذا أنت أَحببتَ ملَكْت، وإذا أبغضت أَهلكت وأنت في يوم الدين مسؤول عمن يهلك بغفلتك.

ومن تجاربك كثرة العلم. فقد تقضي ساعات بين الكتب تستمتع بالإلهيات والمؤمنون حولك عطاش إلى تعزية. أنت أولاً ماسح دموع وغاسل أرجل. وإذا ذبت هكذا أمامهم يعود ربك إليهم حضرة سماء.

ولكن الكلمة لا تذوب. ينبغي ألا تنقطع في فيك. قُلْها ولو توانى القلب دونها فهي أيضًا تُرجع قلبك إلى الله. كلامه يربِّيك أولاً، يربِّيك كالسوط. قُلْه لتأمن وقُلْه علّهم يرجعون. قُلْه سنةً بعد سنة وموسمًا بعد موسم ولو رأيت الخطيئة تُلازمهم كالعلق. المهم أنك أنت لن تنجو ما لم تتكلم. وهم أُوكِلَتْ أمورهم إلى هذا الذي دعاك من الظلمة إلى نوره العجيب.

إنجيل المسيح مبرح. لا تخشَ النزف. اجرح والطف فأنت طبيب لا نديم. أنت رفيقهم إلى ملكوت يحقّقون فيه أنفسهم ولست قاعدًا هنا لترتزق. قد يمجّونك في البدء، فالانسان فيما آل إليه من فساد ليس أليفَ الكلمة، ولكنك أنت سلّطْتَها عليك لتندمج فيها، لتصبحها ولسانُ حالك ما دَوّى به شفيعُك إلى الأبد: «حيٌّ هو الله الذي أنا واقف أمامه». إن بقيتَ على هذه الوقفة أو عدت إليها بعد تكاسُل فالحياة بين يديك أضحت وديعةَ إلهٍ وأنت في مواكب الذين يفتدون الزمان ويسوقون الأرض إلى الفردوس.

السرّ في قداستك. والقداسة ليست طهريةً ملائكية. فمن كان ذا يدين فلا بد له أن يمسّ الأرض. ومع ذلك لا يرضى سيِّدك عن القداسة بديلاً فلا شيء في الدنيا يُضاف عليها. إنها الوجود كله وأبعاد الوجود. إنها تعني أنك لا ترضى معايشة الإثم لا فيك ولا في غيرك، أنك بالتالي جريح إلى الأبد ولا سيما أن الإنجيل جعلك حسَّاسًا إلى حد التمزُّق المستمرّ. ولكن إن تيقّظتَ ولم تُهمل محبتك الأولى، إن عُدْت إلى حرارتك بعد فتور واستغنيت عن المطربات واحدة واحدة فأنت مطيع لهذا الذي أَسلمتَ إليه في تواضع قلبك وانكسار الروح. ما عدا ذلك باطل وقبض الريح.

ستبقى، عامًا بعد عام، سالكًا في الإيمان إلى أن تشيخ. في الايمان قلتُ لأنك لن ترى الملكوت يسير قدُمًا وأنت عالم أن «حياتنا مستترة مع المسيح في الله». في زمن الكهولة سوف تضطرب. سوف تُعاين أن كل شيء حولك ينهار والعزلة حولك وفيك رهيب. رُكيعات الليل في غرفةٍ ستكون وحدك فيها والكأس المقدسة إذا تناولتها في استغفار حق، ستكون واحتك في الصحراء التي اخترت أو التي اختارها لك مَن يعرض علينا الصليب.

قم إلى المذبح غدًا واختطفنا معك إلى السيد. هات الخبز والخمر لئلا نموت. شكرًا لك يا الياس.

Continue reading
2007, آحاد, عظات

قزما ودميانوس – الأحد الخامس بعد العنصرة / عظة للمطران جورج في كنيسة القديس جاورجيوس برمانا – الأحد في 1 تموز 2007

باسم الآب والابن والرّوح القدّس، آمين.

يا أحبّة سوف أكلّمكم اليوم عن رسالة بولس التي اقتبسناها ممّا كتبه إلى أهل كورنثوس، بمناسبة عيد القدّيسَيْن قزما ودميانوس. مَن هما هذان الرجلان؟ هما كانا في أواخر القرن الثالث في مدينة روما. لماذا خصّصنا لهما عيدًا؟ لأنّهما كانا طبيبين يمارسان الطبّ مجانًا. عندنا في الكنيسة مجموعة أطبّاء قدّيسين طوبناهم لأنّهم كانوا يطبّبون مجانًا، ويشفون. لو كانوا يطبّبون فقط ما كان هذا بكافٍ بل كانوا يطبّبون ويشفون. ولذلك رفعناهم إلى مراتب القدّيسين.

لمناسبة هذا العيد، اقتطعنا مقطعًا من رسالة بولس إلى أهل كورنثوس. وتكلّم فيها عن مواهب كانت تعطى لبعض المؤمنين. تكلّم عن مواهب الشفاء ومواهب أُخرى، فالبعض رسل والبعض أنبياء في الكنيسة والله هو الذي يوزّع هذه المواهب.

ما أودّ أن ألفتكم إليه حيث يقول بولس «جدّوا لأعظم موهبة التي تحتوي الكلّ».

وكتب لنا هذا النشيد التعظيم في العهد الجديد والذي لم يكتب أحد في العالم مثله وهو نشيد المحبّة. كان هو عارفًا ما قاله السيِّد «أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم»، وأشياء مماثلة.

ولكن بولس خطفه الرّوح القدس حتّى يكتب هذه القصيدة العظيمة التي هي أروع ما قيل في العالم عن المحبّة.

قال «إن كنت أنطق بألسنة الملائكة»، أي إذا كنت أفهم كلّ شيء ولم تكن فيّ المحبّة فإنّما أنا نحاس يطنّ أو صنج يرنّ». فإذا لم تكن فيّ محبّة فإنّما أنا مثل هذا الدفّ يعني أنّه ليس فيّ محبّة، أنا ضجيج.

ثم يتحدّث عن النبوءة التي كان يقف فيها قديمًا في الكنيسة ويقول إنّ الربّ يُلهمني أن تعملوا كذا وتتحسّنوا وتصيروا قدّيسين. يقدر أن يكون كاهنًا أو غير كاهن، يحضّ النّاس على التوبة.

فبحسب بولس «إنّ الذي عنده النبوءة يعرف جميع الأسرار والعلم كلّه، وإن كان هذا الإيمان كلّه حتّى أنقل الجبال ولم تكن فيّ المحبّة فلست بشيء». فالذي يقدر أن ينقل الجبال يكون يملك المحبّة.

ثم يقول شيئًا آخر: «إن أعطيت جميع أموالي، وأسلمت جسدي ليُحرق حتّى ولو صرت شهيدًا ولم تكن فيّ المحبّة فلا أنتفع شيئًا».

أتى من خلال هذه الكتابة وحصر الدين المسيحيّ كلّه بالمحبّة.

ثم ينتقل بالكلام إلى فوائد المحبّة أي ثمار المحبّة. فيقول «المحبّة تتأنَّى وتَرْفُقُ».

عندك إمرأة تنقّ عليك من الباكر إلى عشيّة، عليك أن تتحمّلها سبعين سنة على هذه الطريقة. لا تقدر أن تقول للمحكمة الروحيّة إنّ امرأتي تنقّ عليّ. عليك بالسكوت، وتوجيه ملاحظات إليها.

المحبّة تتأنَّى لا تضجر وتَرْفُقُ وتَلطف. والمحبّة لا تحسد. هذا كان عنده 16 مليار ليرة لا تحسده، لا تشتهي ماله.

امرأة في غاية الجمال، وأُخرى وسط في الجمال هل تحسدها؟ لماذا تحسدها؟ إنّها ذاهبة للتراب هي والأُخرى. ما الفرق بين المرأة البشعة والمرأة الجميلة؟

ليس من فرق إذا كان يوجد رأس أو قلب أو أعصاب. وهذا يربح أكثر مني. المحبّة لا تحسد. وإذا كنت أنت تحبّ لا تتباهَ.

عندك شهادات عليا. ما الشهادات؟ لا تتباهَ ولا تتكبّر ولا تنتفخ.

المحبّة لا تحتدّ، ولا تغضب. كلّ إنسان تغضب أنت عليه يُجرح وينصدم. هذه قاعدة عامّة. أنت في حالة الغضب غير مُحبّ.

النّاس نوعان: ناس يأتيهم أحدهم بأول لحظة يظنّون به السوء ولا يؤمنون به. يقولون إنّه ربما يخبئ قصّة ما. عنده قطبة مخفيّة. دائمًا يظنّون السوء. هم لا يحبّون.

أنت تظنّ بالشيء الحسن عند الإنسان الذي يأتي إليك. لاحقًا تأخذ الصورة عنه ولكن في البدء تعطي الثقة للإنسان الذي يتعامل معك.

ويكمل بولس الرسالة حيث يقول «المحبّة تفرح بالحقّ وتحتمل كلّ شيء وتصدّق كلّ شيء وترجو كلّ شيء وتصبر على كلّ شيء». فالإنسان المحبّ يفعل هذه الأشياء.

وينتهي بهذا الكلام العظيم «المحبّة لا تسقط أبدًا». أنت رابح دائمًا بالربّ. يجوز أن تربح صيتًا حسنًا وتربح مودّات وصداقات. المحبّة تكلِّف وهي صعبة.

سأعطيكم مثلاً كيف يقدر إنسان أن يحبّ. جارك يحسدك وهو فقير وينتقدك، ويصل إليك النقد. ترى أنّ هذا يجب أن يدخل إلى المستشفى وليس معه مال. ماذا تعمل؟ تذهب وتدفع عنه المال. عنده ابن لامع جدًّا جدًّا لا يدرس إلّا بالجامعة الأميركية. هو بحاجة إلى 11 ألف دولار أميركي بالسنة. إذا كان معك هذا تدفع عنه. وتعرف أنّه ضدّك ويحكي عليك. هذا إذا أراد أن يحبّ على طريقة المسيح وإلّا تكون مثل الوثنّيين، مثل كلّ الأمم وكلّ الشعوب الأُخرى.

أنت لا تكره أحدًا من النّاس ولا تشترط شيئًا. أخلاقه سيّئة، تخدمه. صديقك تخدمه. عدوّك تخدمه بنفس القوّة وبنفس العطاء.

هذا ما علّمنا القدّيسون وما أراد بولس الرسول أن يدخله إلى عقولنا وقلوبنا لنصبح قدّيسين بدورنا، آمين.

Continue reading
1992, مقالات, نشرة رعيتي

نشوء الزواج / كلمة الراعي “رعيتي”، الأحد 9 آب 1992، العدد 32

الزواج عهد مؤسس على الطبيعة. ينشأ بالحب الذي يجمع رجلًا وامرأة. ولكن هناك مجتمعات قديمة لا تطلب الحب شرطًا ولكن لا بدّ له ان يتكوّن قبل الزواج أو بعده. هناك جاذب يكشفه القول الإلهي منذ التكوين: «ليس جيدًا أن يكون الإنسان وحده على الأرض. فلنصنعنَّ له مُعينًا على شبهه». فاللقاء بين شخصين من الجنسين يضع مبدئيًّا حدًّا لهذه الوحدة.

أجل الحب قائم في الطبيعة، يختلط بما لهذا الجسد من نزعات. يلتقيها وتلتقيه. فالشاب يحسّ بضرورة المرأة إلى جانبه. ميل عام غير محدّد حتّى يجد في مرحلة من مراحل نموّه ووعيه ان نزعته إلى وجهٍ معيّن يلغي الوجوه الأخرى. إذ ذاك يتوحّد بهذا الوجه أي يرى نفسه واحدًا معه. ولا يرى نفسه وطاقاته محقّقة إلَّا مع هذا الشخص. الزوجة الواحدة والزوج الواحد شيء من الطبيعة البشريّة لأنّ الإنسان الناضج عاطفيًّا لا يرى نفسه إلَّا مع إنسان واحد من الجنس الآخر. ما عدا ذلك مراهقة. ان تعدُّد الزوجات تنقُّل وعدم استقرار وعدم رضا. فأنت تتعهّد من تحب وتبقى معه وحده. لا يمكنك احترامه إلَّا إذا كان وحده معك. ولا تتركه أصلًا لأنك معه في صباه وشيخوخته. ولك في كل أطوار عمرك فرح واكتمال.

نحن نتّخذ الطبيعة كما هي. نبدأ بها. لا نحتقرها لأنّ «الزواج مكرَّم ومضجعه غير دَنِسٍ». نحن المسيحيين لا نكره الجنس. نعرف ان الله خلقه وانّه جزء من الكيان البشري، ولكنّه يحتاج إلى ضابط لأنّ الإنسان لا يتّزن بلا ضوابط. والقناة الطبيعيّة للجنس هي الارتباط الدائم بامرأة. الجنس لا يكون نزوة ولا يتغيّر بحسب المزاج. يكون في حراسة الشريعة الإلهيّة.

ذلك ان الإنسان معرّض لتقلّبات النزوة والإغراء، ومحبّة المسيح تنقذه من ذلك. بالزواج يطفئ لهيب الشهوة ويجعلها خاضعة للحب.

الجسد يذهب إلى حيث يشاء. فإذا نزل الحب عليه يجعله إنسانيًّا لأنه يقيمه في علاقة إنسانيّة. الحب شخصي، يجعلك شخصًا بعد أن كان جسدك شيئًا من الطبيعة. كنتَ تلقى أجسادًا. تصير الآن في لقاء وجه. الحبّ والجسد يتواصلان. كلّ منهما يمكث في الآخر ولا يفترقان.

وإذا احتدم الحب يصبح هوى. الإنسان تحت وطأة الهوى يخسر حريته. الهوى جارف يستولي على الآخر حتى الاستعباد. الشخص الآخر يصير الكون كلّه، معبودًا كالإله أو كأنّه الإله. هذا هو الدمار لكل اتّزان.

أمَّا المسيح إذا حلّ فيعيدنا إلى التوازن. يلغي الهوى الجارف ولا يلغي الحب. يزيل الأنانية، الاستبداد الذي يحكم العاشقين. يعيدهم إلى الحريّة الداخليّة. تخمد النار. يبقى الحب نورًا. ينتظم الجسد.

عند ذاك نحب الحبيب كما المسيح أحبّ الكنيسة. المحب يبذل نفسه عن شريكه، يعلّيه. يتطهّر به ويطهّره. يموت من أجل الآخر. العاشق يميت الآخر. الـمُحب يعاهد حبيبه كما عاهد المسيح الكنيسة أن يبقى لها حتّى نهلية الأزمان. المحبّة إذا انسكبت في القلب فالروح القدس فيه. يحب الناس بالصّداقة، بالخدمة، بتضحيات لا تُحَدّ. الحب بين الذكر والأنثى، إذا صفا حتّى يصير انعكاسًا لمحبّة المسيح لأتباعه، هذا الحب ليس شيئًا آخر عن المحبّة التي نادى بها يسوع يُضاف إليها احتضان وحميميّة وعلاقة تعاش على صعيد الجسد حتّى الموت. وهذا ما نسمّيه الزواج.

فإذا عاهدنا بالمحبّة الدائمة شخصًا من الجنس الآخر وساكناه بلا أن نملي شرطًا عليه ما عدا المبادلة يُسمّى هذا زواجًا. الزواج هو المحبًة التي تعمل في اتّجاهين ويذوقها الكائن البشري من حيث هو مركّب من نفس وجسد. ينشأ الحب لأنّه قوّة. تشرف عليه المحبّة الإلهيّة. عند ذاك يقيم المحب والمحبوب معًا في مشروع عطاء دائم يزول مع الموت أو لا يزول حتّى يجيء المسيح ثانية ويتزوّج الكنيسة العروس في ملكوت أبيه.

Continue reading
1991, جريدة النهار, مقالات

المهجّرون أيضًا وأيضًا / جريدة النهار / السبت 16 تشرين الثاني 1991

هناك أنواع وجود هي ذلّ وقمع. منها ظاهرة التهجير التي ما من مسوّغ لاستمرارها. وقد يوفّق الله الحاكمين إلى ما فيه التنفيذ وبدؤه قرار العودة. لماذا لا تحسم الحكومة الأمر؟ فإن قالت إنها عاجزة الآن لأمر يتعلّق بالجهوزيّة العسكريّة فلتقلها لنفهم. فالعجز مرفوض ومن الصمت ما يعذّب.

يريدونها مناقشة وطنيّة واسعة بها تفتدي الحكومة نفسها. إذ ذاك نحن أمام رجاء قابل للتحقيق لئلاّ تتحوّل الهجرة إلى توطين خارج المناطق التي اضطررنا إلى النزوح عنها فيصبح الإنسان غريبًا في وطنه، مخلاً بالبنية السكانيّة ومجروح الكرامة.

ولست أظنّ أن أحدًا يحلم بالفرز السكانيّ ولو تعالت أصوات تزكّيه في ما مضى من هذه الحرب التعسة التي شنّتها علينا الجحيم. لماذا يتغنّون بالعيش المشترك الذي أقمناه في الجبل منذ ألف سنة ونحن عليه في الساحل منذ ألف وأربعمئة سنة. والطبائع اللبنانية سمحاء برغم جروح تحلّ وينساها أهل الغفران وطلاّب الحياة الجديدة.

وعندنا لا تسنّ فئة من فئاتنا القانون ولكن الدولة تشترع بعدما وضع السلاح ذووه فهذا أمر لا تحكمه النزوة ويعود على الجميع بالنفع العميم وما قال أحد إنه يسعى إلى إعادة أهل منطقة واحدة والصلح يقوم على استرجاع الجميع أرزاقهم وهي حقّ قالت به شرعة حقوق الإنسان وتقول به أدياننا قبل الشرعة. والصلح يقوم على العمل وعلى عمق روحي نتمنّى أن يكون هو المعيّة وقد نشأنا على أن قدر الكلّ أن يعيشوا مع الكلّ يشاطرونهم قسوة العيش والمصير الواحد. وإذا كذّبتْ الوقائع هذه القناعة فما أمامنا سوى البحر. هل هذا ما يرضاه دعاة الوطنيّة؟ فلنبدأ بإقرار الحقّ القائل إن اللبناني له أن يسكن حيثما يحلو له وإن عودة المهجّرين ما هي سوى وجه من حقّ الإنسان أن يلازم الأرض التي يشاء وهي في السجلّ العقاريّ تخصّ من تخصّ وكان مأخذ الإنسانيّة المتحضّرة على ستالين وهتلر أنهما نقلا سكان بعض الأراضي إلى أراض أخرى ابتغاء سياسة حزبيّة أو تفريق عنصريّ.

ومن خاف على زعامته فهذا شأنه. غير أننا نذكّره أن خير سياسة تؤول إلى المعايشة الكريمة وأن الديموقراطيّة آن أوانها وأنها مراس يوميّ يقوم به الكلّ ومع الكلّ ذلك لأننا معًا في رعاية الله الواحد ولا رقيّ لجماعة منّا بلا الجماعة الأخرى. وما أعطيت فئة منفردة وحدها الانتاج اقتصاديًّا كان أم ثقافيًّا. ولنا الدهر حتى يأنس القلب للقلب وأداء الشهادة.

⃰   ⃰   ⃰

وقبل أن تتوطّد القلوب على الإيمان بالوحدة كان علينا أن نبدأ بالتصميم وبالتصميم الملحاح تنفتح القلوب وتعود الوجوه إلى الوجوه في الصفاء ونتقابس وأنا موقن بأن كلاّ منّا يستحق الترحاب بالآخر لأن «المحبّة أقوى من الموت» ولنا أن نتوق التحاب وهو ذروة العدالة. والحبّ قبل كلّ شيء السماحة وأن ننسى الماضي لئلاّ نبقى سجناء التاريخ. ذلك أن الكبير يرجو للإنسان الآخر كل فلاح ويؤنسه في وحشته. وإذا سلكنا معًا سبل حضارة عظيمة وأبدعنا معًا وسائل الرقيّ فهذا يحجب عنّا ذرائع الخصام وننشئ الإنسان الجديد على الحرّيّة. فإذا جلسنا معًا إلى موائد الأرض نرى أن الأرض لنا جميعًا وأن الله يرزقنا ما نشتهيه وأن للجميع مأكلاً ومشربًا.

وإذا ساغ الكلام عن أهل الجبل فليس لأنهم الأفضلون ولكن لكونهم العدد الأكبر ونحن مستعدّون للتأمّل في عودة كل جماعة إلى الأمكنة التي كانت فيها بحيث نراعي التوازن في الرجوع وجدولة الرجوع وليس لأهل الجبل رغبة في منافسة أحد زعامته وما نافسوا فعلام يخشون؟ وهل من منطق لجعل الجبل قليل العدد وألا يثمره أبناؤه جميعًا؟ وأيّ عقل يقول في هدأته إن الجبل إذا حكمته الدولة يقوم على طائفة واحدة مهما عظمت مواهبها وإن الكثرة ينبغي أن تتشتّت بلا عمل ولا دخل وأن تزيد كثافة المناطق الأخرى ونحن نؤمن بأن في تلاقي الجماعات سرّ نجاحها وأن اللقاء السمح هو ما يجعلنا نزيل عن جبين لبنان عار نفور نعرف من غذاه.

ولعل أهل العار الأعظم أن نجعل من آلام المهجرين بعضًا من صفقة شاملة. من هم أطراف هذه الصفقة؟ فعندنا من جهة بؤس شديد وخطر متفاقم ويأس من الوطن. ويقابل ذلك منافع في الأرض ومجد في الأرض. أي نحن أمام تواز بين إنسانيّة مهيضة الجناح يعذبّها تقاعس الأمّة كلّها ومطمح سياسي. نحن نعرف أن ليس من تاريخ أبدي لطائفة على حساب طائفة. فليسكر كل بماضيه على ألاّ نموت بسببه أو نفرح جميعنا في عيش واحد يسوده من استطاع.

وإن كان لا بدّ من ميثاق فها هو مضمون في وثيقة الوفاق الوطني. إنها ترعى بنية البلد وتلاقي أبنائه بحيث لا يقوم لبنان على التمييز بين وطنيّة هذا ووطنيّة ذاك وبحيث نتسابق في العطاء. فإن كان من ميثاق فإنه يبدأ بالسلام الاجتماعي، هذا الذي فهمته دول أوروبّا بعد تناحرها. فالأوروبّي سيحل حيثما يحلو له ويعمل حيث يستطيع العمل. أما نحن فنخطّط بين قضيّة روحيّة كبرى هي قضيّة المستضعفين في الأرض وقضيّة تجاوزها الزمان أعني قضية التوازن بين الطوائف.

⃰   ⃰   ⃰

وإن كان من حوار بيننا فهو في أمر الإعمار. هذا شأن الدولة أكان هذا بالتسليف أم بطريقة أخرى. ولكننا لا نتوقّع أن تعوّض الحكومة من خسر. لا أعرف سابقة لهذا في العرف الدوليّ. نحن نقول إن الأمن أسبق من الإعمار وإننا نستطيع في ظلّه أن نعود لئلاّ يتعرّض البلد لنكسات. وإعمار القرى المهدّمة لا يسبق العودة لأن تمامه يقتضي سنوات عدّة نكون قد عرّضنا فيها الـمُهجّر لهجرة ثانية عن البلد أو أن يصبح أداة خلل وتخلّف. وهل يسلم الجبل الدرزي إذا سقط السلام الاجتماعي في كل أرجاء الوطن؟ الحديث في الإعمار شرطًا للعودة إلهاء وألهية. الإعمار عندنا فيه الحدّ الأدنى والحدّ الأقصى. نحن قادرون وحدنا على الحد الأدنى الذي يسمح لكل مواطن بغرفة على رزقه ينطلق منها. أعيدوا إلينا الرزق نعطكم عمرانًا بأيدينا وكفانا الله شرّ التسويف وشرّ تسييس لا حوار فيه ولا حنان.

Continue reading

Popular posts

الإسلام / محاضرة في كفرعقا - الكورة / الأحد 4 آب 1991

عندكم مئة طريقة لتعرفوا عن الإسلام. في بلادنا عندكم إذاعات وليالي رمضان والتي أوصيكم أن تتابعوها فيما يختص بالوعظ. عندكم هنا المساجد. وفيما يختص بالزيارة صار مباحًا لكل المواطنين...

يسوع الناصري / السبت 25 كانون الأول 2004

لن اقول فيه ما قاله أتباعه فيه ولن اردد ما قاله الذين ارتدوا عنه. ومنهم كانوا سفهاء. غير ان اهله المخلصين من ذويه والغرباء في الدين وقفوا منه موقف...